«هذا هو الفن، فصورة الاستطيقا ولدت معه»
(هيغل)
في إمكان الاستطيقا أن تعرف نفسها بأنها ملكة الروح تميز بين الإحساس بالجميل وإدراكه، وبقدر ما أنها تستثمر مقولات الفكر، بقدر ما تستمد قوتها من ملكة الذوق، ولذلك فإن ما يميزها بشكل عام هو بحثها المستمر عن مفاهيم خالصة تمنحها الحق في الاختلاف والسمو، هكذا تبدأ المعركة بين العمق والسطح، الصورة والمادة، الفكر والإحساس، ولعل هذه المعركة كما تركها بوكمارتن واستمرت عند هيغل، ظلت دائما هي نفسها. فهل تستطيع الاستطيقا نقل هذه المحركة إلى فضاء السينما؟ هل ينبغي على السينما إذا أرادت أن تكون استيطيقية فلا بد أن تقاوم من أجل استقلالها وإثبات ذاتها؟ ألا تكون السينما هي الوجه الآخر للصراع بين تلك الثنائيات الفلسفية؟
الواقع أن مبادئ الاستطيقا لا توجد في المفاهيم الفلسفية الخالصة، كما حددها كانط في كتابه نقد العقل الخالص، بل توجد في الجمال والجميل في ذاته، ولذلك فإنها تجعل الروح تعتمد على الحواس من أجل إصدار أحكامها، وليس على الفهم الذي هو صانع المفاهيم، وربما تكون الاستطيقا والسينما وجهين لحقيقة واحدة، وحدة في تعدد، وتعدد في وحدة، ما دام أنهما معا يعتمدان على الحواس في إدراك الجمال، خاصة حاسة النظر والسمع. هكذا ينطلقان من النظر من أجل اقتحام الروح، ومن السمع من أجل اختراق العقل، فالسينما نظر واستماع، ولذلك أصبحت هي الفن المدلل في مملكة الاستطيقا. لم تعد السينما تكتفي بإقامتها المدللة في الاستطيقا، بل توجهت نحو إقامة ثانوية في مملكة العلم عندما تحول إلى تقنية، وربما يكون هذا هو السبب في جعل هويتها مزدوجة، بل ممزقة، مما يطرح صعوبة كبيرة في تحديد ماهيتها، فهل هي فن؟ أم تقنية؟، هل تنتمي إلى الاستطيقا، أم إلى العلم؟ وكيف يمكن الجمع بين الفن والتقنية في المجال نفسه؟
التفكير على نحو جميل يسير في الاتجاه نحو الفلسفة والفن، فملكة الحكم هي ذاتها ملكة الحدس، الذي لا يعني سوى تمثل للخيال ومعنى للجميل، باعتباره مجالا للمرئي، فالذي يتأمل هو نفسه الذي يشاهد: «إن التأمل يفقد ذاته في الحدس». الكلمات لا تأتي دون مفاهيم، والمفاهيم تؤسس الفكر، والفكر هو الصورة، فمن خلاله تأتي المتعة الجمالية، هكذا يمكن تفسير ما معنى التفكير بطريقة جميلة، هل بواسطة المفاهيم الاستيطيقية؟ أم بواسطة الصورة السينما؟ أم هما معا؟ فثمة صداقة عميقة بين الجميل في الفن والجميل في الفلسفة، لأنه ما يسرنا وينقلنا من أزمة الوعي الجمالي، الذي يجعل هذا العصر كاملا ينظر إلى الفن والفلسفة نظرة احتقارية تقودهما إلى خارج دائرة المجتمع، أو بالأحرى مجرد أشكال منعزلة عن سائر أشكال الحياة الإنسانية بطقوسها اليومية، كتجليات للروح في السلع والدين، والتفاهة التقنية كما تتجلى في وسائل التواصل الاجتماعي. وكلما كان الذوق فاسدا، تم تحديد الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وبلغة بورديو فإن الذوق يحدد الطبقة اجتماعيا، لأن الوعي الجمالي يشكل قطيعة، أو التواصل مع الفن والجمال، والعالم المعيش، ففن العيش هو ذاته فن الفن، الذي يتحكم في فن الحياة، لأن الحياة لا تكون جميلة إلا بالفن. هذا التلاعب بالكلمات هو أشبه بتلاعب مرآتي بالصور، فمن خلال يتم استحضار الأشياء الموجودة في العالم، ولعل هذا ما يسميه سقراط بالمحاكاة، وكأنها لعب الأطفال في تلك الأعياد المقدسة في صورته اليونانية، فتحول سقراط نحو الفلسفة قاده إلى طرد شعراء المحاكاة من جمهوريته، واتهامهم بالكذب وإخفاء الحقيقة.
الصورة مثال للجميل، ولأنه عبر المثل، ونحو المثل، تتوجه التأملات الفلسفية التي تقود العقل إلى إيقاض الفكر من سباته الدوغمائي، فكل تفلسف هو مهمة الفلسفة التي انطلقت في أرض الفن، وظلت فنية، خطوة للفكر، وخطوة للفن بمعنى الهرمونية، هذا التناغم الموسيقى هو الذي جعل نيتشه يقول: دون موسيقى كانت حياتي ستكون خطأ، لأن الموسيقى هي إرادة العالم التي تتحكم في إرادة الإنسان. ها هنا لا نستطيع أن نتساءل عن هذه العلاقة اللذيذة والغامضة بين السينما والفلسفة، إلا عندما نسقط في أحضان النقد الفلسفي للسينما، فحيثما تحقق الفلسفة ذاتها وتصبح صورة سينمائية، يظهر الفيلسوف آلان باديو في فيلم غودار، فإننا نتمتع بمشاهدة الفلسفة في السينما في حوار ممتلئ بالمعنى، وفي الحقيقة فإنه حوار يبدو غريبا وممتعا.
وفي اختتام المهرجان تم توزيع جائزة ابن رشد على الأفلام الفائزة حيث فاز فيلم «الرجل الذي أصبح متحفا» بجائزة ابن رشد ، وفيلم «الطايع» لرشيد الوالي بالجائزة الكبرى للمهرجان، كما عادت جائزة لجنة التحكيم للفيلم الطويل مناصفة بين فيلم «الرجل الذي أصبح متحفا» للمخرج التونسي مروان الطرابلسي، وفيلم «السمكة الذهبية» للمخرج الفرنسي طوماس، أما جائزة الفيلم القصير فعادت للفيلم المغربي «أم المهرج» للمخرجة منال غويا والفيلم التونسي «نصف روح» لمروان الطرابلسي، في حين عادت جائزة النقاد وجمعية أصدقاء الفلسفة للممثل والمخرج رشيد الوالي عن فيلمه «الطايع» الذي حصل أيضا على جائزة الجمهور.
كاتب مغربي
“القدس العربي”