ليس لغزة من يعزيها . . .
لقد تكاثرت عليها الهموم ، وطاولتها من كل جانب . وكأن ما فيها من أعدائها لا يكفيها ، حتى تضاف أعباء أهل البيت وذوي القربى . فوقعت ضحية تشتت الأهل وتفرقهم ، وعجز الأشقاء وتقصيرهم ، وحقد الأعداء وأفانينهم .
ما هم غزة من هدير البحر ، لكن صمت البشر وتهاونهم وتفرقهم أيدي سبأ يجلب الهموم . على العكس ، فالبحر وحده يفتح نافذة للأمل ، تطل منها زوارق التحية والتضامن لمغامرين وحالمين يؤدون طقوس أضعف الإيمان .
غزة هاشم ، التي تمنى أعداؤها أن يبتلعها البحر ذات صباح ، لا زالت تصارع وحدها من أجل البقاء . قدرها أن تنام وتحيا وتصعد إلى الجلجلة وحدها . وكأن هذه البلاد خلقت للحصار . طعم المرار في فمها بينما تغسل قدميها في المياه المالحة . وليس لها إلا أن تتكور على نفسها لمقاومة الظلم والقهر والعواصف المتلاحقة .
يحاصرها أبناؤها أبشع حصار ، كما لم يفعل أبناء بأمهم من قبل . أعلنوها شهيدة أبدية ، واكتفوا بادعاء دور البطولة في المواقف المعلنة . يسحبونها من شعرها من سواد عينيها كخاطئة ملطخة بالشموع إلى جنانهم المفقودة . يتقاتلون على جلد الدب قبل اصطياده ، بينما يضع الصياد الحقيقي يده على الزناد بانتظار اللحظة المؤاتية ، ويتبارون بتدبيج قصائد المديح ومعلقات الصمود والممانعة ومطولات الفخر والهجاء عبر الشاشات والميكروفونات ، بينما يبحث أطفالها عن علبة كبريت وعود حطب . يتراشقون بالتهم البغيضة من العواصم القريبة والبعيدة ، معلنين بلسان غيرهم الإصرار على استمرار الفاجعة ، فاجعة فلسطين كوطن .
تصل اللقمة إلى الفم ، فتدفعها يد الفرقة والبغضاء بعيداً وكأنها لم تكن . تعقد الاتفاقات ويجري توقيعها ليلاً ، ثم يتنكر لها الإخوة الأعداء وينسفونها بإرادة غيرهم قبل صياح الديك . تعد اللقاءات وترتب الاجتماعات من أجل إيجاد المخارج ، ويلغيها في اللحظة الأخيرة من يريد أن تبقى غزة غارقة في أتون معاناتها ، فيقلبون القدر ويطفئون النار بأيدي أبنائها .
لا يؤلم غزة أن تسيل دماؤها على أيدي أعدائها ، لكنها تموت كل يوم من الجراح التي تفتح بأيدي أبنائها . ولا يضير غزة في شيء جحيم النار الإسرائيلية القادم من خلف المعابر ، فهذا تتوقعه وتنتظره وتعد له ما استطاعت من قوة واصطبار . لكن الألم الحقيقي تحمله روح الكراهية والانقسام والعداء التي يتبادلها أبناؤها داخل سياج الحصار . وليس ما يدمر حياة شعبها وأمله بوطن ناجماً عن تقصير المنظمات العربية والعالمية ، بقدر ما هو نتيجة للأعمال التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية ( أو تلك التي لا تقوم بها ) وتساهم في وهن العزيمة وتدمير الحلم .
أما آن لسياسات الانقلابات والانقلابات المضادة أن تتوقف ؟ ! أليس لأساليب فرض الذات ونفي الآخر واستبعاد التعقل واستحضار الوهم والحماقة من نهاية ؟ ! فحصار أهل البيت أضيق الحصارات وأوقعها أثراً .
حصار غزة لا يتأتى من فعل المتوترين من بين قادة الحركات والتنظيمات فيها فحسب ، إنما يصل إليها بفعل الإهمال والعجز العربيين اللذين لم يكونا بهذا الوضوح الفاقع في أي مرحلة سابقة . إذ يكتفي الأشقاء العرب من حكومات وشعوب ومنظمات وأحزاب وجامعة عربية بالإعلان عن عدم مشاركتهم بالحصار ( هكذا ) ، في وقت تبرز فيه أيدي بعضهم بدور بالغ الأهمية في تمزيق الصف الفلسطيني وإبقاء التوتر والاقتتال على نار حامية. فالعواصم التي تستضيف، تفرض إرادة المضيف ومصالحه فيما يجري حتى لو كان أخاً أوشقيقاً .
لا يطلب الفلسطينيون من الدول العربية اختراق الحصار وإضاءة غزة من جديد ، لكنهم يكتفون بأن لا يفسد الهواء القادم من عواصمهم شعلة الشموع الواهنة بأيدي أطفالها . وعندما تغلق إسرائيل معابر غزة ، دون أن تتلقى ردود أفعال عربية وعالمية لائقة ، فهي تغلق في الوقت نفسه نوافذ الثقة والأمل بأي دور ذي معنى للمجتمع الدولي ومنظماته السياسية والحقوقية والإنسانية. وبهذا يحكم طوق الحصار الآخر حصار العرب والعالم – إذ ليس بخاف على أحد أن بعض المعابر عربية – الذي يأخذ غزة بعيداً في معاناتها وبعيداً في انغلاقها وبعيداً في تطرفها .
معالم القهر المتكاثرة حول غزة يتقاسمها الأهل والأشقاء والأعداء . فمن من هؤلاء أظلم ؟
21 / 11 / 2008
هيئة التحرير