مراجعة: عفيف عثمان
تنطلق دراسة دوما، المتخصص في النزاعات، من مسلمة للدرس ترى الى الفقر وسوء توزيع الموارد سبباً رئيساً( محتملاً) وليس وحيداً لنشوء النزاعات العنيفة. ولفحص الفرضية لا بد من تنزيلها على أرض الواقع وتحليلها بناء على هذا المعطى.
وبالإستناد الى التقارير الإقليمية والى الاحصاءات حول الفقر، يتبين على سبيل المثل أنه في جنوب آسيا ثمة اتجاهاً طويل الأجل لتناقص نسبة الفقر المطلق قياساً الى مجموع السكان، بيد أن الأعداد المطلقة للفقراء قد ازدادت، أما في غرب إفريقيا فالإتجاه الطويل الأمد يُظهر فقراً متزايداً لأغلبية السكان. وفي أميركا الوسطى يكشف الإتجاه العام نمطاً دينامياً من النمو حتى سبعينات القرن العشرين المنصرم، ثم تزايداً حاداً للفقر في ثمانيناته، يتبعه تحسن في احصاءات المداخيل، وصولاً الى مراوحة في هبوط المداخيل الهامشية للفقراء. والمحصلة أن الباحث لا يرى ارتباطاً بين هذه الاتجاهات وتواتر النزاعات في المناطق المذكورة. ففي حالة نيكاراغوا، كمثال على أميركا الوسطى، نجد صورة غير واضحة تؤشر الى عدم وجود أي ترابط بين ارتفاع مستويات الفقر ونشوب النزاع العنيف. وكذا الأمر في جنوب آسيا حيث الفقر ظاهرة عامة، فلا تفصح البيانات عن أي صلة وثيقة بين نسب الفقر وقيام النزاع واشتداده. وتقدم الهند نموذجاً ساطعاً في هذا الشأن، فالعنف منتشر في أرجاء البلاد بغض النظر عن مستويات الفقر فيها.
ولا بد من تفسير لفك الإرتباط هذا الذي ظهر في الدراسات الإحصائية. فيقدم دوما نظرية الكوابح الإجتماعية والثقافية، اذ قد يكن رد الفعل على الحرمان المزمن" الإستكانة أحياناً بدلاً من الغضب والتمرد". فثمة شعوب تتمسك بثقافات (من ضمنها الدين) داخل مجتمعات تقليدية، لا ترى الى الفقر أو الحرمان" نتيجة مترتبة على أفعال جماعات النخبة، أو عن عيوب في آليات التوزيع التي تسيطر عليها السلطات المركزية". والمثال في ذلك المجتمع الأفغاني، اذ تعد أفغانستان من أفقر بلدان العالم، وبقيت الدولة اقطاعية حتى ثورة 1978. واستندت العلاقات بين النخب المحلية وأتباعها الى صلات القربى والى شبكات اجتماعية ودينية . كما أن الرؤية الدينية تحكمت عموماً في تعليل الأوضاع الإقتصادية.
والحال، يذهب الباحث الى فحص مقولة أخرى هي التفاوت الإجتماعي ـ الإقتصادي أو اللامساواة والعلاقة الطردية بين هذه الأخيرة والنزاع، أي اعتبار احتمال اندلاع النزاع يتزايد مع تزايد اللامساواة والعكس بالعكس. وفي الدراسات الإحصائية أيضاً لا يجد الباحث وشاهده في ذلك أميركا الوسطى أي علاقة محتملة بين"التفاوت والنزاع العنيف الا عدد قليل من الحالات". ويختبر دوما حالة أخرى من التفاوت هي "تفاوت الدخل بين المناطق والنزاع"، واذ يأخذ الهند عينة فأنه يجد صعوبة في تحديد ترابط جلي بين التخلف النسبي والنزاع الشديد.
تُملي هذه النتائج غير القاطعة لأسباب النزاعات على الباحث مزيداً من التدقيق وصوغ نظريات للبحث نظير: هل يؤدي التفاوت في استخدام الأرض في منطقة تسكنها جماعة أثنية معينة الى زيادة احتمال نشوب النزاع، والعكس بالعكس؟ وهل يؤدي تزايد التفاوت الإجتماعي ـ الإقتصادي في مناطق متميزة بسماتها الثقافية الخاصة جراء السياسات الحكومية الى زيادة احتمال نشوب النزاع والعكس بالعكس؟ فثمة صراعات متصلة بالموارد أي بملكية الأرض والغابات ومياه الصيد والمراعي، ولذلك تؤدي عمليات الإصلاح الزراعي دوراً معتبراً في التخفيف من حدة التوتر الإجتماعي. وهناك أيضاً سياسات الدولة بإزاء الجماعات المحلية حيث تلجأ أحياناً الى استغلال الموارد مركزياً ومباشرة من دون إشراك المجتمع المحلي أو حتى أخذ رأيه، كما حصل في السنغال في منطقة" كازامانس" وكانت النتيجة نزاع دام نحو عشر سنوات مع الدولة، وحيث يتراكب البعد الهوياتي مع البعد الإجتماعي ـ الإقتصادي.
ويستنتج دوما أنه عندما تستحوذ جماعات خارجية على الموارد ذات الصلة بعيش الجماعة، بطريقة عشوائية، فإن الميل الى التعبئة يزداد في شكل ملحوظ. وثمة أيضاً التنافس بين الجماعات على إدارة الموارد والخدمات، والذي يعني عملياً "عدد المنافذ الى خدمات حكومية محددة، والحصة التي تحصل عليها كل جماعة من الوظائف الحكومية". والحالة المتعينة التي توضح حصول النزاع بسبب التغير في مواقع النفوذ والقوة، حالة المهاجرين في تنافسهم مع البنجابيين في ولاية السند بباكستان، والأمر نفسه في سريلانكا بين التاميل والسنهالا.
بيد أن تدخل الدولة لتصحيح الإختلال والتفاوت قد يحمل وفاقاً للباحث أثاراً جانبية "غير مقصودة" تقوي نفوذ جماعة على حساب أخرى، وتكون سبباً لإشتداد النزاع. لذلك، يدعو الى اعتماد سياسات حكومية "منصفة" في شأن توفير المنافع العامة وتوزيعها. وخلاصة البحث، أن العوامل الإجتماعية ـ الإقتصادية ليست سبباً مباشراً لإندلاع النزاعات رغم استخدامها للتحشيد، كما أن الهوية الثقافية والجغرافيا ليستا كافيتين لتفسير واف لبروز أنماط التعبئة الجماعية والعنف. وفي رأي دوما أنه يجب التدقيق في ذرائع وعوامل أخرى أوسع نطاقاً.
[ الكتاب: النزاعات الأهلية من منظور اجتماعي ـ اقتصادي
[ الكاتب: بيت س. دوما/ ترجمة حسني زينة
[ الناشر: دراسات عراقية، بيروت، 2009