كان التمرد الذي قادته خلايا نظام المخلوع بشار الأسد في مناطق الساحل في السادس من مارس آذار الجاري اختباراً صعباً للرئيس أحمد الشرع على عدّة مستويات.
وحقيقة أن أهداف مؤامرة التمرد تتجاوز إخراج الدولة من مناطق الساحل إلى إسقاط الدولة السورية الجديدة وإشعال صراع طائفي وتأجيج مشاريع التقسيم التي تُهدد سوريا على الأطراف (قسد، الساحل، الجنوب) جعلت تعامل الشرع مع هذا الاختبار حاسماً ليس فقط على صعيد إظهار قدرة الدولة الجديدة في التعامل مع التحديات الأمنية الكبيرة، بل أيضاً على صعيد قدرتها في مقاربة التحدي الأمني من منظور المخاطر التي يجلبها على استقرار المرحلة الانتقالية ووحدة سوريا.
وهنا لا بُد من تسجيل بعض الخلاصات المُهمة لأحداث الساحل. الأولى أن الحكومة الجديدة ورغم أنها تبني سوريا من الصفر خصوصاً على مستوى المؤسستين العسكرية والأمنية قادرة على على التعامل بفعالية مع المخاطر الأمنية الكبيرة. والثانية، أن الحزم الذي أظهره الشرع في قمع تمرد الساحل أظهر إدراكه لمخاطر هذه المؤامرة وأهدافها الرامية إلى إشعال حرب أهلية تبدأ في الساحل وتنتشر في عموم سوريا وإلى تأجيج مشاريع التقسيم. والثالثة أن الانتهاكات المروعة التي ارتكبت بحق المدنيين في الساحل أظهرت فشل الدولة الجديدة في التعامل الاستباقي والفوري مع العوامل الذاتية التي تُساعد الأعداء الواضحين على تحقيق أهدافهم. مع ذلك، تُظهر إدارة الرئيس الشرع لاختبار الساحل براعته في تحويل الأزمات إلى فرص.
إن إقرار الشرع بحدوث انتهاكات مروعة بحق المدنيين في الساحل ومسارعته إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بها وتوعّده بمحاسبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا أقرب الناس إليه.
فمن جانب، نجح الشرع في تحويل مؤامرة الساحل من مؤامرة لإسقاط الدولة الجديدة إلى مؤامرة تستهدف إشعال حرب أهلية في سوريا وتُحاول توظيف المكونات السورية المختلفة كوقود لها. كما أن تأكيده على الحاجة للوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي كان موجّهاً بدرجة رئيسية إلى هذه المكونات لإظهار حجم المخاطر التي تُهددها. ومن جانب آخر، فإن إقرار الشرع بحدوث انتهاكات مروعة بحق المدنيين في الساحل ومسارعته إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بها وتوعّده بمحاسبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا أقرب الناس إليه، ساعداه أولاً في التأكيد على أن هذه الانتهاكات لم تكن سياسة دولة مُمنهجة، وثانياً في إظهار التزام الدولة بالتعامل مع أحداث الساحل من منظور عقلية الدولة وليس من منظور عقلية الثأر والانتقام.
علاوة على ذلك، فإن مسارعة الشرع إلى إبرام اتفاقية مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية لدمجها في الدولة الجديدة ثم إبرام اتفاقية مع وجهاء وأهالي محافظة السويداء الجنوبية لدمجها في الدولة أيضاً بالتزامن مع انتهاء العمليات العسكرية في الساحل، أظهرت براعته في تحويل التداعيات السلبية لأحداث الساحل على صورته وعلى صورة الدولة الجديدة إلى فرص لإظهار أن هذه الإدارة تعمل على تقليص عوامل الفوضى في سوريا لا تأجيجها، وهذا يُرسل رسائل طمأنة لبعض المكونات الداخلية المتوجسة من الإدارة الجديدة خصوصاً في الشمال والساحل والجنوب، ورسائل طمأنة أيضاً للمجتمع الدولي الذي يُراقب عن كثب كيفية إدارة الشرع لسوريا في هذه المرحلة الحساسة ولكيفية تعامله مع التحديات التي تُهدد السلم الأهلي والمجتمعي.
إن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في الساحل أضرت بالشرع والدولة السورية الجديدة أكثر من أي طرف آخر. ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم حاجة للشرع قبل أي طرف آخر ليست فقط من أجل إعادة ترميم صورة الشرع داخلياً وخارجياً، بل أيضاً من أجل تدشين ملف العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية. إن نهج الشرع علاوة على أنه يُقدم فرصاً جديدة للتحول السوري لتحقيق أقصى مشاركة وطنية فيه ولتحقيق المصالحة المجتمعية، ساعد في إسقاط مشاريع تقسيم سوريا مثل أحجار الدومينو بعد إفشال مؤامرة إسقاط الدولة ونجاح الشرع في تمكين السلطة الجديدة. واتفاقات دمج السويداء في الدولة بعد قسد خطوة إضافية نحو تفكيك مشاريع التقسيم. ويُظهر هذا النهج أن الشرع يُدير التحديات الداخلية الهائلة والتحديات الخارجية المُحيطة لسوريا من منظور الفرص قبل المخاطر.
من مفارقات الحالة السورية أن الإرث الثقيل الذي ورثه أحمد الشرع عن المخلوع الفار إلى موسكو، تعمل كمُحفزات قوية لإنجاح تجربته وليس العكس.
جلبت أحداث الساحل فرصاً مُتعددة للشرع إذا ما أحسن استثمارها. على المستوى. الداخلي، تعزيز القبول الداخلي بالسلطة الجديدة لأنها السبيل الوحيد لمواجهة مشروع الحرب الأهلية وتقديم الدولة الجديدة كدولة لجميع السوريين من خلال تحويل الأزمة إلى فرصة للشروع في تحقيق المصالحة المجتمعية ومعالجة مظالم الحرب. تفكيك مشروع “الصراع الوجودي للأقليات” وهذا يترتب عليه خطوات جريئة خارج الصندوق. وكذلك التخلص من العوامل التي ما تزال تُفسد اعتدال الشرع وثقافة الدولة. وعلى المستوى الخارجي، فإن استثماراً داخلياً صحيحاً للأحداث، يُمكّن الشرع من تعزيز القبول الدولي به كضامن لمنع انزلاق سوريا إلى حرب أهلية ومن استثمار مشروع الفوضى لإقناع المُترددين بالتعامل معه في الخارج (الولايات المتحدة خصوصا) بأنه إدارته ضمانة لمنع عودة استثمار إيران وحلفائها الإقليميين في سوريا.
إن التوجه الدولي العام في سوريا هو لدعم إدارة الشرع. في الغالب، يُنظر في الخارج إلى أحمد الشرع على أنه الزعيم السوري الوحيد القادر على قيادة سوريا إلى الوحدة والاستقرار ومنع تحولها إلى بلد مضطرب ومصدر تهديد للأمن الإقليمي والعالمي. ما يهم العالم قائد قوي يفهم طبيعة سوريا وبراغماتي. ومن مفارقات الحالة السورية أن الإرث الثقيل الذي ورثه أحمد الشرع عن المخلوع الفار إلى موسكو، تعمل كمُحفزات قوية لإنجاح تجربته وليس العكس. قدرة الشرع على استثمار هذا الإرث بشكل صحيح تُحدد حجم الفرص التي يوجدها له. وحتى الآن، يُمكن القول إنه بارع في تحويل الإرث إلى فرص.
- تلفزيون سوريا