السائد لدى معظمنا عند تعريف الجهل القول بأنه غياب للمعرفة، وأنه صفة يتحمل مسؤوليتها الفرد، فهو قادر على التخلص منها إن أراد، لكن هذا السائد يتجاهل، أو يجهل، المعارك الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تدور بشراسة لتجهيل الناس وتضليلهم، وأن هناك من يعمل باستمرار على التجهيل وصناعته، وأن هناك علماء ومراكز بحث ورؤوس أموال كبيرة مخصصة للتجهيل، وتوظيف الجهل الناتج في الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة وصناعة الرأي العام.
في علم الاجتماع يطلق على علم التجهيل (Agnotology، الأغنوتولوجيا) وهو مصطلح يستخدم لوصف دراسة الأفعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف إلى نشر التضليل، وخلط الأمور، للتأثير على الرأي العام، ولكسب التأييد، أو لبيع منتج ما، أو للإضرار بالسمعة، أو لتغيير حقائق.. إلخ.
هناك أساليب وخطط متعددة يلجأ لها صناع التجهيل، مستهدفين بها جمهوراً معيناً يحدده هدف التجهيل، ومن أهم هذه الأساليب، وأكثرها استعمالاً:
1- التشكيك في الخبراء، أو ذوي الاختصاص، أو الموثوقين:
الهدف من هذ الأسلوب هو تقويض ثقة الجمهور بجهات مختصة، أو بمؤسسات، أو بأشخاص مختصين، وتشويه سمعتهم، وغالباً ما تختلف خطط التشويه حسب اختلاف المناطق وقيمها وثقافتها، وتقدم لنا التجربة السورية آلاف الأمثلة عن هذا الأسلوب، ويمكن القول إنه من الصعب جداً اليوم أن تجد جهة سورية أو شخصاً سورياً مهتماً بالشأن العام لم يتعرض لحملات التشويه والتشكيك.
في علم الاجتماع يطلق على علم التجهيل (Agnotology، الأغنوتولوجيا) وهو مصطلح يستخدم لوصف دراسة الأفعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف إلى نشر التضليل، وخلط الأمور، للتأثير على الرأي العام، ولكسب التأييد، أو لبيع منتج ما، أو للإضرار بالسمعة، أو لتغيير حقائق
2- استعمال اللغة المخاتلة، حمالة الأوجه، والتي تحتمل تفسيرات متعددة قد تصل حد التناقض، هذا يخلق انطباعاً زائفاً يضع المصداقية موضع الشك، فعندما تقول مثلاً إن هناك معلومات متناقضة عن حدوث انتهاكات في منطقة ما، في الوقت الذي تؤكد جهات كثيرة على حدوث مجازر، فإنك تمارس هنا تشكيكاً متعمداً يهدف إلى تجهيل آخرين بحقيقة ما يجري.
3- استغلال السلطة، والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة السياسية فقط، بل تشمل كل أوجه السلطة، الدينية والاقتصادية والإعلامية، وحتى سلطة القبيلة أو العشيرة.. إلخ، وهذا ما يتم استخدامه على نطاق واسع اليوم، فلكل منا مرجعياته التي يثق بها ويعتمدها لتشكيل رأي ما، وفي التبعية الكاملة يصبح الرأي مستمداً من المرجعية، وليس من المحاكمة المنطقية للشخص، ويصبح الأمر أكثر خطورة في حال التبعية لجهة تمثل وجهاً من أوجه القداسة، كما هو السائد في المجتمعات التي لم تعرف جيداً الحقوق الفردية، ويغلب عليها الانتماءات العصبية، وترى المجتمع جماعات منفصلة، وليس مجموع أفراد.
4- التشكيك في المعلومات، أو تفخيخ الحقائق بمعلومة خاطئة بشكل متعمد، وهو أسلوب استعمل كثيراً في الثورة السورية، كأن تورد جهة ما الخبر صحيحاً لكنها وبمهارة تضمنّه تفصيلاً يسهل دحضه، أو تمتلك الوثائق التي تكذّبه، وعندما ينتشر الخبر تقوم جهات متواطئة بنشر ما يدحض ويكذّب هذا التفصيل بوضوح وبالوثائق الأمر الذي يقلل إلى حد كبير من مجمل الخبر.
في تفاصيل الحدث السوري اليومية، هناك ضخّ متصاعد لخطاب الكراهية والعنف الطائفي ضد مجموعات عرقية أو دينية، يتعمد إخفاء حقيقة الاختلاف في وجهات النظر، أو المشاريع أو الأفكار، وتعميم معلومات مضلّلة، لمنع الجمهور العام من معرفة الحقيقة.
ما سوف أركّز عليه فيما يلي هو التضليل السياسي، وعلى نحو أكثر تحديداً التضليل السياسي ضد الناشطين السياسيين، أو ضد أشخاص لهم رمزيتهم السياسية أو الثقافية أو الدينية لدى جمهور ما، عبر نشر معلومات كاذبة، أو نشر خطاب كراهية سواء عبر الإعلام، أو عبر “السوشيال ميديا”، ثم يأتي ما هو أخطر من التضليل بحق الأشخاص إلى التضليل بحق الجماعات، وهو اليوم ما نكاد نلمسه في تفاصيل الحدث السوري اليومية، وفي هذا الصدد نرى بوضوح ضخّاً متصاعد لخطاب الكراهية والعنف الطائفي ضد مجموعات عرقية أو دينية، يتعمد إخفاء حقيقة الاختلاف في وجهات النظر، أو المشاريع أو الأفكار، وتعميم معلومات مضلّلة، لمنع الجمهور العام من معرفة الحقيقة.
لن أقدّم أمثلة على كل ما تقدم، فنحن جميعاً على دراية كبيرة بتفاصيل كثيرة وأمثلة كثيرة حول هذا التجهيل المتعمد، وربما يمكن القول إن القسم الأكبر من السوريين عايش بشكل شخصي تجربة خاصة، لكن ما أراه بالغ الخطورة اليوم هو أن انتهاج سياسة التجهيل لعقود طويلة (طوال فترة حكم عائلة الأسد) ومن ثم خلال سنوات الثورة في المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، أصبح يهدد بشكل حقيقي المجتمع السوري، فـ”الحقائق” السائدة اليوم لدى معظم السوريين هي “الحقائق” التي يزوده بها التاريخ، والتي لا نحتاجها غالباً، ولا يمكن البناء عليها إذا ما أردنا فهم مشكلات اللحظة الراهنة، والاشتغال على إيجاد الحلول لها، بينما تغيب عمداً حقائق الحاضر بالغة الأهمية لإعادة إنتاج مقدمات وأسباب خروجنا من الكارثة التي تعصف بنا كسوريين.
للتصدي للتضليل السياسي الخطير الذي نتعرض له كسوريين، والذي تطغى عليه لغة عاطفية بدلاً من الحقائق، ويعتمد بشكل رئيسي على إثارة مشاعر الخوف أو الغضب لدى الجمهور، لا بد لنا من امتلاك وعي نقدي للمعلومات التي تضخّ بكثافة شديدة كل يوم، ولا بد من البحث عن مصادر موثوقة، والأهم من كل هذا لا بد من دعم الإعلام المستقل، والصحافة المستقلة على نحو خاص، ولا بد أيضاً من خلق ودعم منظمات المجتمع المدني التي تختص بمكافحة التضليل الإعلامي.
في الاقتصاد يمكن استعمال التجهيل لتسويق منتج ما، لكن ما نتعرض له اليوم في سوريا يمكن أن يلعب دوراً مهماً في رسم مصير سوريا، وبالتالي مصير كل أفرادها، لكن، وبغياب شبه كامل لدور النخب الثقافة والفكرية والسياسية، وبغياب الإعلام المسؤول، يصبح من السهل جداً على الجهات الداخلية والخارجية تذرير المجتمع السوري، وتفكيك كل ما يبقيه مجتمعاً واحداً.
- تلفزيون سوريا