رحل البابا فرنسيس يوم الإثنين الفائت، عن ثمانية وثمانين عاما، تاركا وراءه سيرة عطرة وإرثا من القيم الإنسانية الرفيعة التي أشار إليها معظم من عزّوا بوفاته في جميع أرجاء العالم. ولد خورخي ماريا برغوليو في مدينة بوينس آيريس عام 1936، وقرر عام 1958، أن ينضم للرهبنة اليسوعية ليمضي في طريقه الصعبة نحو الكرسي البابوي؛ وهي قصة جديرة بالقراءة، أو مشاهدة فصول منها كما رويت في فيلم درامي اسمه «البابوان» صدر عام 2019. اختار البابا اسم «فرنسيس» تيمّنا بالقديس فرنسيس الاسّيزي الذي ولد وعاش في مدينة اسيزي الإيطالية في القرن الثاني عشر، لعائلة ميسورة الحال، لكنه اختار ترك حياة البذخ العائلية ليصبح راهبا معروفا بتواضعه وبسماحته، يدعو الناس إلى مخافة الله والإيمان بالمحبة والاحترام، تماما كما آمن بها البابا فرنسيس وجسّدها من خلال جلوسه على كرسي البابوية عام 2013.
ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن البابا فرنسيس؛ ففي عام 2014 في اعقاب زيارة قام بها البابا لبلادنا، كتبت له وقلت: «شكرا لك أيها الراعي النبيل، لقد كبرت وفرحت فلسطين بك». كتبت وقتها بسبب ما أثارت زيارته من «هرج ومرج»، لا في فلسطين وحسب، بل داخل إسرائيل أيضا؛ اذ رحبت معظم القيادات الفلسطينية الرسمية والشعبية بمجيئه لفلسطين، بينما عبّرت بعض الجهات عن امتعاضها من الزيارة وشجبوها، باسم عقيدتهم، معلنين: «لا أهلا ولا سهلا بك». أما إسرائيل فلجأت إلى لعبة توزيع الأدوار المعهود، بين رسميين يرحبون بالزيارة وهدفهم إبقاء «خيط المودة» مع أكبر وأهم مؤسسة دينية مسيحية، ومن يهاجمونها إمّا لاعتبارات سياسية ودينية متعصبة، لا تعترف بحق غير اليهود في أي مكان مقدس في هذه المنطقة، أو كوسيلة للضغط على رئاسة الفاتيكان لردعها عن اتخاذ أي موقف ضد سياسات إسرائيل في فلسطين. لم يكترث البابا لجميع تلك الترّهات، فوصل إلى منطقتنا، وزار الأردن ومنه عبر إلى فلسطين وإسرائيل. واجتمع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وزار كنيسة المهد ومدينة بيت لحم وزار مخيم اللاجئين الدهيشة، وتناول الغداء مع بعض العائلات الفلسطينية. كانت زيارته محطة مهمة في زحزحة موقف الفاتيكان الرسمي تجاه الحق الفلسطيني، كما جسدتها لحظة ترجله من سيارته ووقوفه مقابل «سور الفصل العنصري» وصلاته هناك وعلى يمينه كانت تقف بنت وهي تحمل علم فلسطين، وأمامه كان يصرخ شعار أحمر يعلن «free palestine». نقلت كل كاميرات العالم ذلك المشهد الذي رتبته، ربما، «العناية الإلهية» ليحمل كل الدلالات والمفارقات النبيلة عن فلسطين، حتى إن العلم وهو على يمين البابا ظهر كشمعته المنيرة، والشعارات، التي كانت محفورة أمامه، كسور من «إنجيل المحبة والحرية» الذي عاش راهنا نفسه لخدمته. وهذا ما لم يفعله معظم زعماء العرب والمسلمين طيلة السنين الماضية.
كانت زيارة البابا لفلسطين محطة مهمة في زحزحة موقف الفاتيكان الرسمي تجاه الحق الفلسطيني، كما جسدتها لحظة وقوفه مقابل «سور الفصل العنصري» وصلاته هناك وعلى يمينه كانت تقف بنت تحمل علم فلسطين، وأمامه شعار أحمر يعلن free palestine
لقد عاب بعض المنتقدين زيارة البابا لإسرائيل وراهنوا على أنه سيتركنا ليعود إلى أحضان مؤسّسته المتخبطة في صراعاتها الداخلية والكفيلة بابتلاع أمانيه ووأد أحلامه. مضت السنون وبقيت ذاكرة الشعوب كما كانت قصيرة، فنسي الذين هاجموا البابا أو تناسوا أن «ثقوب الفاتيكان السوداء» لم تقوَ على وأد أحلام وأماني «سيّد التواضع» وأنه بعد أقل من عام على تلك الزيارة أعلن فاتيكان البابا فرنسيس اعترافه بفلسطين ورفع العلم الفلسطيني في حاضرته.
لست في معرض الحديث عن تاريخ علاقة الفاتيكان بقضية فلسطين، أو مواقفه إزاء المشروع الصهيوني، منذ أعلنت عنه الحركة الصهيونية في مؤتمرها في بازل عام 1897؛ لكنني لن أكون ظالما لو قلت إن مواقفه كانت، على الأغلب، أكثر إيجابية من مواقف عدة أنظمة عربية وإسلامية، كما سجلها تاريخ الصراع وشهدت عليها الكواليس وخزائن أجهزة المخابرات الغربية، وأرشيف الحركة الصهيونية. فالفاتيكان أعلن مباشرة عام 1897 عدم استعداده للموافقة على إقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة، وأن تكون الأماكن المقدسة تحت سيادته. ظل الفاتيكان متمسكا بموقفه المذكور لعقود طويلة، حتى إنه لم يعترف عام 1948 بإسرائيل رغم محاولاتها المتكررة لنيل اعترافه، فبقيت العلاقات بين الدولتين ملتبسة ومتقلبة حتى تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا بعد توقيع اتفاقية أوسلو التي بسببها حصل تغيير في موقف الفاتيكان تجاه إسرائيل، ودعم منذ ذلك الحين حل الدولتين، كما عبرت عنه زيارة البابا فرنسيس للمنطقة عام 2014. ولكن رغم هذا التغيير مازالت قيادات الحركة الصهيونية وزعماء إسرائيل يتعاملون بحذر وريبة مع مواقف الفاتيكان الخاصة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ما دفع حكومة إسرائيل إلى حذف منشورها على منصة (إكس) قدمت فيه التعزية وجاء فيه «ارقد بسلام أيها البابا فرنسيس، لتكن ذكراه مباركة». تلا سحب المنشور تصريح لمسؤولين في الخارجية الإسرائيلية يفيد بأن البابا أدلى «بتصريحات ضد إسرائيل»، وتلك التصريحات هي سلسلة المواقف التي أعلنها البابا فرنسيس في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة وشجبه المتواصل لجرائم الجيش الإسرائيلي ووصفها بجرائم الحرب، ودعوته للتحقيق فيها واتخاذ الإجراءات اللازمة بحق المسؤولين عنها، وفق المواثيق والقوانين الدولية. ومرة أخرى ظهر تلون الدبلوماسية الإسرائيلية وتوزيع الأدوار، فالخارجية وشرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي تهجموا وسخروا من البابا، بينما بعث رئيس الدولة يتسحاك هيرتسوغ رسالة تعزية يصف فيها البابا بأنه «رجل كان يتمتع بإيمان عميق ورحمة لا حدود لها».
خلافات الرأي داخل إسرائيل مدروسة ومبرمجة وليست مثل خلافات الرأي التي تابعناها داخل فلسطين وبين العرب والمسلمين بشكل عام. ولئن كان موقف تعزية الرئاسة الفلسطينية ومعظم المؤسسات الفلسطينية والعديد من زعماء الدول العربية وشيخ الأزهر برحيل البابا، واضحا وحقيقيا، شاهدنا في فلسطين وفي العالم العربي مَن يهاجمونه ويهاجمون الفاتيكان بشدة مدفوعة بالجهل المطعّم بنعرات دينية وبالعمى العقائدي. كان بيان تعزية حركة حماس في وفاة البابا فرنسيس لافتا وكان اعترافهم بأنه «كان من أبرز الداعمين للحقوق الفلسطينية المشروعة»، كلمة جريئة ومهمة في تخفيف وطأة الخلافات المذهبية، وفي الوقت نفسه، بيانا عرّى حقيقة غياب مواقف قيادات الحركات الإسلامية في الداخل الفلسطيني، خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها مجتمعنا داخل إسرائيل.
انتشر في الأيام الماضية فيلم فيديو قصير يظهر فيه البابا فرنسيس وهو يتحدث عبر شاشة التلفون مع عائلة غزية، ويسأل ابنها يوسف عن أحوالهم ويهتم بطعامهم في ذاك النهار. كان منظره وهو يتحدث بلهفة الأب الحاني والمتوتر، مؤثرا حتى الدمع، فشاهدت الفيلم مرارا وعرفت عندها لماذا يخافه من يخافه، لا في إسرائيل وحسب؛ يخافه الذين لا يقدسون الحياة ويعشقون رائحة دم «الآخرين» وأولئك الذين لا يعرفون التواضع، حين ترافقه عزة النفس ونبل الروح، ويخافه من ليسوا على استعداد أن يسامحوا غيرهم ويحترموهم مهما اختلفوا معهم، سواء على عقيدة أو فكرة أو رأي. يخافونه لأنه القائل «لا تخش التفكير، فالله ليس كاثوليكيا»، وهي دعوته الجريئة للبشر لكسر جدران الخوف وإعلان منه بأن الله ليس حكرا على ديانة، أو طائفة أو شعب، وإشارة إلى استعداد الكنيسة الكاثوليكية لحوار مع الآخرين، كل الآخرين. ما أروعها من مقولة وما أصدقه من إيمان!
لم تكن طريقه سهلة حتى داخل كنيسته، لكنه آمن بها وصارع من أجلها بهدوء وبقناعة المؤمن حتى آخر أيامه، لقد رحل خورخي ماريو الأرجنتيني في ثاني أيام عيد الفصح، وبقي البابا فرنسيس في قلوب الناس، وبقي «شعب الخيام» في بؤسه يرددون مزامير «محمودهم» ويصلون معه: «يطول العشاء الأخير، تطول وصايا العشاء الأخير، أبانا الذي معنا كن رحيما بنا، وانتظرنا قليلا، ولا تبعد الكأس عنا. لقد ضاق هذا المكان الصغير بصرختنا، ضاق هذا الجسد بفكرتنا». ينتظرون، لعل سماء جديدة تنصفهم.
كاتب فلسطيني
- القدس العربي