هناك من يعمل على السيطرة على السفينة والاستئثار بها وَحْدَهُ، وآخر يوزع الصفات والألقاب على الركاب، وثمة من يغني لوحده من دون أن يرد على أحد، أو يستأنس برأي غيره، ويعدّ نفسه الربان الذي أرسلته العناية الإلهية، كي يجلس في مقدمة المركب، يوجه الدفة، ويوزع الأماكن.
يتزاحم السوريون داخل السفينة على أحقية المكان، وحجز أفضل المقاعد، ونتيجة ضيق الخيارات، ومحدودية ما هو متوفر من مساحة، لا تستطيع تلبية حاجة الجميع للجلوس في المقدمة، يبدون، في بعض الأحيان، مثل قراصنة الأفلام، الذين يتنمرون ويتآمرون على بعضهم البعض، حين يوشك المركب على الغرق، ظناً من كل فرد منهم أن ذلك يمكنه من الفوز بالكنز والنجاة، إذا هلك الآخرون.
في مؤخرة السفينة يدير المهمشون ظهورهم لأولئك الذين يتدافعون لبلوغ قيادة الدفة، أو الجلوس في الصفوف الأولى. هؤلاء الذين يشكلون أكثرية المسافرين، لا تعنيهم الحروب التي تدور في المقدمة، ولا يريدون شيئا غير وصولها إلى بر الأمان، ينشدون قسطاً من الهواء النظيف وسط دوار البحر، وتلاطم أمواج المحيط العاتية.
ثمة فريق آخر يعتقد، جازماً، أن السفينة ملكه لوحده. هو الوحيد الذي له الحق في توزيع المقاعد وتحديد الاتجاه. صاحب امتياز المعارضة والموالاة، الآمر الناهي، متى يجب الكلام والصمت، وكل رأي آخر لا قيمة له، أو أن صاحبه من شبيحة الطرف الآخر. هذا الفريق منتشر بين السياسيين والصحافيين والأدباء، بين الرجال والنساء، في داخل سوريا وخارجها، في صفوف موالي الإدارة الجديدة ومعارضيها، وكل شخص من هؤلاء لا يقبل بأقل من إقصاء الآخرين، يظن أن سبيل النجاة هو بالتخلص من المنافسين، وأن هذه البلاد غنيمة، سواء الذي فقد السلطة، أو الذي وصلت إليه منقادة على طبق من ذهب، ووجد نفسه بين عشية وضحاها حاكماً مطلق الصلاحيات، يُفرش له السجاد الأحمر، وتُرفع الأعلام في الأمم المتحدة. تستقبله الدول بالموسيقى والأناشيد، تُعقد له ربطات العنق، ويُقام له البروتوكول بعد أعوام الكاكي والقتال على جبهات متعددة.
على المرء أن يركب السفينة حتى يحصل على بطاقة سفر نحو الزمن السعيد. وإن لم تفتح له الإدارة الجديدة الباب، سيقف عند ناصية المرفأ، ويشتمها. وإن لم يفعل ذلك لن يسلم من الأطراف الأخرى، عليه أن يمضي عدة ساعات على وسائل التواصل، قبل أن ينام، ومجرد أن يصحو. ممنوع أن يكتفي بقول هذا صح وذاك غلط. كله غلط، كله أسود، ليس هناك نقطة بياض واحدة.
بعض هؤلاء سبق لهم أن مارسوا احتكار المعارضة لنظام عائلة الأسد، وكانوا يعدون أنفسهم الوحيدين الذين يقدمون قراءة صحيحة للوضع، وأثبتت الأحداث عدم صحة ذلك. حصلت الثورة، وسقط النظام، وهرب الأسد، ولم يقوموا بمراجعة. وها هم يعودون اليوم إلى نفس السالفة العتيقة مع أنهم باتوا جميعا على الهامش. لا يرحمون الآخرين، ولا يرأفون بأنفسهم، في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى استراحة طويلة، والتقاط أنفاس، وتخصيص الجزء الباقي من حياتهم للعب مع لأحفاد، وصيد السمك، وتأمل الطبيعة الجميلة، وقراءة الروايات العاطفية، ومشاهدة المسلسلات التاريخية.
فسد الهواء في هذا البيت المغلق منذ أكثر من نصف قرن، وتعفن كل شيء، حتى الجدران تشققت، ويبست الأشجار. لم يعد في دمشق يعبق الياسمين. لم يترك الأوغاد خلفهم حجرا على حجر. اتركونا قليلا في الشمس على الأقل.