هناك عدّة دول مرّت بتجارب مشابهة لما تمرّ به سوريا حاليًا، حيث تعرّضت لصراعات داخلية أو حروب أهلية خلّفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية والمجتمع. يمكن استخلاص العديد من الدروس والعِبَر من تجارب إعادة الإعمار في هذه الدول.
نبيّن في ما يلي بعض الأمثلة والدروس المستفادة
أولاً – البوسنة والهرسك بعد حرب البلقان (1992-1995)
الخلفية: بعد تفكك يوغوسلافيا، شهدت البوسنة والهرسك حربًا أهلية دامية أدّت إلى دمار كبير في البنية التحتية ونسيج المجتمع، مع تعمّق الانقسامات العرقية والدينية
عملية العدالة الانتقالية في البوسنة والهرسك بعد حرب البلقان (1992-1995) تُعدّ واحدة من أكثر التجارب تعقيدًا في العالم، حيث جمعت بين آليات قضائية، وجبر ضرر، وإصلاح مؤسسي، ومصالحة. وفي ما يلي تحليلًا شاملاً لها.
1- الإطار القانوني والمؤسّسي
محكمة لاهاي الدولية:
أنشئت عام 1993 لمحاكمة مجرمي الحرب (أول محكمة جنائية دولية منذ نورمبرغ).
أصدرت 161 لائحة اتهام: أدين بموجبها 90 شخصًا (أبرزهم: رادوفان كاراديتش، راتكو ملاديتش).
الانتقاد: بطء الإجراءات (استمرت حتى 2017) وتركيزها على القادة دون الجنود.
المحكمة الجنائية المحلّية للبوسنة:
تولّت قضايا متوسطة المستوى بعد نقل صلاحيات من لاهاي (2005) حققت في 300 قضية ضد 645 مشتبهاً
مبدأ المسؤولية القيادية:
سابقة قانونية بتجريم القادة الذين لم يمنعوا جرائم مرؤوسيهم (مثل قضية الجنرال كريشنيك).
2- جبر الضرر للضحايا
سجل الضحايا المركزي: توثيق 97،207 ضحايا معترف بهم رسميًا (80% مدنيين).
برامج التعويضات:
تعويضات رمزية (500-700 يورو شهريًا لبعض الأسر)، لكن شابها الفساد وعدم الشمول.
إعادة الممتلكات:
(1999) منزل للمشردين بموجب قانون “حقّ العودة”أعيد 000،200
3- إصلاح المؤسسات الأمنية
حلّ الميليشيات:
تفكيك الجيش البوسني الموحد إلى كيانات عرقية (اتحاد البوسنة والهرسك، وجمهورية صرب البوسنة) .
إصلاح الشرطة:
دمج 10 % من عناصر الأقليات في قوات الشرطة المحلية (لم تحقق النجاح الكامل).
4- آليات الحقيقة والمصالحة
لجنة الحقيقة والمصالحة (2001):
فشلت بسبب رفض الكيانات العرقية المشاركة.
مبادرات المجتمع المدني :
مركز أبحاث وتوثيق سراييفو” جمع 300000 شهادة ضحايا.
مشروع “كرسي الضمير” في المدارس لتعليم تاريخ محايد.
5- التحدّيات المستمرة
المشكلة | التأثير |
الإنكار الجماعي للجرائم | حتى 56% من الصرب ينكرون مذبحة سربرنيتسا (2023)عام |
الانقسام التعليمي | مناهج دراسية مُختلفة تروي روايات متناقضة |
البطالة بين الشباب | 37%) تغذّي خطاب الكراهية( |
الفساد السياسي | النخب الحاكمة تستفيد من إطالة أمد الانقسام |
6- الدروس المستفادة لسوريا
1- العدالة المتوازنة: محاكمة القادة والجنود معًا لتجنّب إفلات المجرمين الصغار من العقاب
2- تمكين الضحايا: جبر الضرر المادي والمعنوي (نصب تذكارية، اعتراف علني)
3- إصلاح التعليم: توحيد المناهج لكتابة تاريخ مشترك.
4- مشاركة المجتمع المدني: لجان محلية لإعادة الثقة أجدى من الهياكل البيروقراطية.
“البوسنة تذكّرنا: لا مصالحة دون عدالة، ولا سلام دون مصالحة.”
).كارلوس ويستندورب (الممثل السامي الدولي للبوسنة 1999-2002
- الخلاصة:
عملية العدالة الانتقالية في البوسنة حققت نجاحات تقنية (محاكمات، تعويضات)، لكنها فشلت في بناء ذاكرة جماعية موحّدة. السبب الرئيس: غياب إرادة سياسية حقيقية للمصالحة، واستبدال “سلام الورق” بسلام القلوب.
لسوريا، هذا الدرس مصيري:
العدالة يجب أن تسبق المصالحة، لكن لا غنى عن الأخيرة لضمان السلام.
ثانياً – رواندا بعد الإبادة الجماعية ( 1994)
الخلفية: شهدت رواندا واحدة من أسوأ الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث، حيث قُتل حوالي مليون شخص خلال مئة يوم، مما خلّف جروحًا عميقة في المجتمع.
تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية 1994 تُعدّ أبرز نموذج عالمي للنهوض من الرماد، حيث تحوّلت من دولة مُدمَّرة (مليون قتيل في 100 يوم) إلى قصة إعجاز تنموي بإرادة سياسية ورؤية مستقبلية.
نبيّن في ما يلي تحليلًا شاملاً لهذه التجربة:
1- الأسس السياسية والإدارية
المكون | التطبيق الرواندي |
لا مركزية الحكم | تقسيم الدولة لـ 30 مقاطعة، مع منع التقسيم العرقي (إلغاء ذكر الهوتو/التوتسي في الهويات) |
الحكم الرشيد | تطبيق صارم لمكافحة الفساد: رواندا الأولى إفريقيًا في الشفافية (2023) |
تمكين المرأة | 61 % من مقاعد البرلمان (الأعلى عالميًا)، مشاركتها أساسية في المصالحة |
2- آليات العدالة والمصالحة
محاكم “غاتشاتشا” التقليدية:
محاكم شعبية في القرى (12,000 محكمة) لمحاكمة 1.2 مليون مشتبه به.
المبدأ: اعتراف الجناة → اعتذار علني → عودة للمجتمع
نتج عنها: إطلاق سراح 60 % من السجناء للمشاركة في إعادة البناء
محكمة الجنايات الدولية (أروشا):
محاكمة قادة الإبادة (93 فردًا)، منها إدانة رئيسة الوزراء.
سياسة “عدم التمييز: منع الإشارة للعرق في الوثائق الرسمية، واستبدالها بـ “المواطنة الرواندية““
3- الإعمار الاقتصادي والتحوّل الرقمي
الزراعة الحديثة: دمج 85 % من المزارعين في تعاونيات زراعية ذكية (مضاعفة إنتاج البن والشاي)
تحوّل إلى مركز تكنولوجي:
مشروع : رؤية 2020″ تحويل رواندا إلى سنغافورة إفريقيا عبر
4G/5Gأول دولة في العالم بتغطية كاملة (شراكة مع كوريا)
أول نظام توصيل طبي بالطائرات المسيرة (Zipline)”إيميرج“تطبيق
جذب الاستثمار:
توفير تأسيس شركة في 6 ساعات، وضرائب 0% للتقنية
4- التحدّيات المستمرة
قيود الحريات السياسية:
نظام كاغامي يتّهم بقمع المعارضة (اعتقالات، تغييب انتخابات حقيقية).
ذاكرة الإبادة المكبوتة:
منع الحديث العلني عن العرق، قد يُخفي جراحًا غير مُعالَجة.
التبعية للدعم الخارجي:
40 % من الميزانية تعتمد على المساعدات.
5- نتائج ملموسة: (1994 vs 2024)
المؤشّر | 1994 | 2024 |
معدّل الفقر | 78% | 38% |
نمو الناتج المحلي | -50% (انهيار) | 8% سنويًا (من الأعلى عالميا) |
معدّل وفيات الأطفال | 187/1000 | 33/1000 |
التحصيل العلمي | 58% أمية | 98% تسجيل في المدارس |
6- دروس لسوريا والدول الخارجة من الصراع
1- القيادة الحاسمة: توازن بين العدالة والمصلحة الوطنية (كاغامي ضمّن أمن التوتسي دون انتقام)
2- التكنولوجيا كأداة توحيد: ربط المناطق النائية بخدمات رقمية يذيب الانقسامات.
3- الاقتصاد أولاً: إعادة البناء تسبق الحوار السياسي المُعقّد (رواندا أجّلت النقاش العرقي 20 عامًا).
4- تمكين المرأة: إشراكها في السلطة يبني مجتمعًا مقاومًا للتطرف.
بول كاغامي“الإبادة تركت لنا خيارين: أن نموت معًا، أو نعيش معًا. اخترنا الحياة.”
الخلاصة:
رواندا أثبتت أن الدمار الكامل قد يكون فرصة لبناء نموذج جديد، لكن نجاحها يعتمد على:
توازن دقيق بين المصالحة والسلطة المركزية.
استثمار جريء في التكنولوجيا رغم الفقر.
تأجيل الصراع الهوياتي لصالح التنمية العاجلة.
هذا النموذج ليس مثاليًا، لكنه يقول لسوريا: ” المستحيل ممكن إن تخلصت من ثقافة الانتقام، واستبدلتها بإرادة البناء“.
ثالثاً – لبنان بعد الحرب الأهلية (1975- 1990):
الخلفية: عانى لبنان من حرب أهلية استمرت 15 عامًا، أدّت إلى دمار واسع وانقسامات طائفية عميقة
تجربة لبنان بعد الحرب الأهلية (1975- 1990)
تُقدم دروسًا مريرة عن إعادة إعمار جسد دون روح، حيث أخفقت النخب في معالجة جذور الصراع. نبيّن فيما يلي تحليلًا نقديًا لهذه التجربة
1- آليات إنهاء الحرب
“اتفاق الطائف” (1989):
الإيجابيات | السلبيات الفتّاكة |
إنهاء الاقتتال المباشر | ترسيخ النظام الطائفي (المحاصصة) |
حل الميليشيات (شكليًا) | تحويل قادة الميليشيات إلى زعماء سياسيين (مثل وليد جنبلاط، نبيه بري) |
إعادة الجيش السوري كـ”قوة ردع” | إضفاء شرعية على الاحتلال السوري (حتى 2005) |
2- إعادة الإعمار: “هيئة إعمار مركز بيروت“(1994)
القوة:
إعادة بناء وسط بيروت المُدمر (استثمرت15 مليار دولار)
تطوير البنية التحتية (مطار، شبكة طرق).
الإخفاقات:
الفساد: منح عقارات النخبة لشركة “سوليدير” (تابعة لرفيق الحريري)
التهميش: إهمال ضواحي بيروت الفقيرة (مثل الشياح، برج البراجنة)
هدم الذاكرة: تدمير المعالم التاريخية لصالح مراكز تجارية فاخرة
3- العدالة الانتقالية: الغائب الأكبر
محاكمات صورية:
صفر محاكمات لقادة الميليشيات (مثال: سمير جعجع حوكم لاحقًا بجريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي1987)
النسيان المُمنهج: قانون العفو الشامل (1991) ساوى بين الضحية والجلاد
منع النقاش العام عن الحرب (شعار: “لا غالب ولا مغلوب”).
4- التداعيات الاقتصادية: قنبلة موقوتة
القرار | النتيجة الكارثية |
ربط الليرة بالدولار (1993) | خلق فقاعة مالية انفجرت عام 2019 |
تراكم الديون (150% من الناتج المحلي) | إفلاس الدولة (2020) |
خصخصة القطاعات الحيوية (كهرباء، اتصالات) | احتكارات طائفية رفعَت الأسعار |
5- الأسباب الجذرية للفشل
1- الاستعاضة عن المصالحة بـ “النسيان
غياب آليات جبر الضرر للضحايا (2 مليون نازح لم يُعوّضوا).
اقتصاد الريع:
تحوّل الإعمار إلى “كعكة” تُقسّم بين الزعماء الطائفيين.
استمرار الهيمنة الخارجية:
سوريا (حتى 2005) وإيران (عبر حزب الله) تتحكمان في القرار السيادي.
6- مقارنة مع رواندا (درس قاسٍ)
المعيار | لبنان | رواندا |
العدالة | إفلات كامل من العقاب | محاكمات غاتشاتشا (1.2 مليون قضية) |
النظام السياسي | محاصصة طائفية (رئاسة للماروني) | إلغاء التقسيم العرقي في الهوية |
الاقتصاد | فساد يلتهم 30% من الموازنة | الأولى إفريقيًا في الشفافية |
- إلياس خوري (روائي لبناني)“ لبنان علمنا: إعادة بناء الحجر أسهل من إصلاح العقل الطائفي.”
7- الدروس المستفادة لسوريا من تجربة لبنان:
الخطأ الفادح:
تطبيق نموذج لبنان (إعادة إعمار + نسيان) سيؤدّي لانفجار أشدّ.
الحلول البديلة:
محاكمات وطنية لمجرمي الحرب (لا عفو شامل).
هيئة إعمار شاملة تُشرك المناطق المهمشة.
فكّ ارتباط الاقتصاد بالطائفية (إصلاح مصرفي جذري).
إعادة دمج المقاتلين عبر برامج تأهيل (لا تحويلهم لزعماء).
الخلاصة:
لبنان نموذجٌ لما يجب تجنبه في سوريا
إعادة الإعمار دون عدالة = بناء فوق بركان
المصالحة دون مساءلة = غذاء للتطرف
الخيار الوحيد: تفتيت اقتصاد الحرب الطائفي، وبناء دولة المواطنة عبر توازن دقيق بين العدالة والتنمية.
رابعاً – العراق بعد عام 2003
الخلفية: بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، واجه العراق تحديات هائلة في إعادة بناء الدولة وسط انقسامات طائفية وتدخلات خارجية.
تجربة العراق بعد 2003 تُقدّم تحذيراً صارخاً من إسقاط نموذج ديمقراطي جاهز دون مراعاة السياق المحلي، وتحوّل “تحرير” البلاد إلى كارثة معقدة.
فيما يلي نقدم تحليلاً شاملاً للتجربة العراقية، وكيف لسوريا أن تستفيد منها:
1- الأخطاء الهيكلية في مرحلة ما بعد الغزو
القرار الكارثي | النتيجة المدمرة |
حل الجيش العراقي أمر بريمر 2003) ) | تفريخ تنظيم القاعدة ثم داعش (جندت آلاف الضباط العاطلين) |
اجتثاث البعث | تهميش الكفاءات وتفكيك مؤسسات الدولة (70% من موظفي الدولة فصلوا) |
فرض النظام الطائفي | تحويل المحاصصة إلى نظام حكم (رئاسة للكرد، وزارات للسنة والشيعة) → تمزيق النسيج الوطني |
2- فشل إعادة الإعمار: الفساد كسياسة دولة
نهب المال العام:
اختفاء 150 مليار دولار من أموال إعادة الإعمار (2003-2021) وفق الأمم المتحدة
وزارات أصبحت “مافيات” (مثال: وزير الكهرباء الأسبق أُدين باختلاس 1.7 مليار دولار).
انهيار البنية التحتية:
الخدمة | 2003 | 2023 |
الكهرباء | 16 ساعة/يوم | 4 ساعات/يوم |
المياه الصالحة | 90% | 35% |
3- التداعيات الأمنية: من الاحتلال إلى الإرهاب
صعود الميليشيات الطائفية:
فيلق بدر، عصائب أهل الحق (مدعومة إيرانياً) تحولت إلى دولة داخل الدولة.
الحرب الأهلية (2006-2008):
تطهير عرقي في بغداد (تهجير 4 ملايين).
غزو داعش (2014):
السيطرة على ثلث البلاد بسبب ضعف الجيش.
4- العدالة الانتقالية: من الانتقام إلى الإفلات
محكمة صدام حسين:
إعدام زعيم النظام دون محاكمة جرائم النظام السابق بشكل منهجي.
قانون المساءلة والعدالة (2008):
استُخدم لتهميش السنة بدلاً من تحقيق مصالحة.
ضحايا بلا حقوق:
1،2 مليون قتيل منذ 2003 (غالبية مدنيين) دون تعويض أو اعتراف.
5- التدخل الخارجي: تحوّل العراق إلى ساحة صراع
الفاعل | دوره | التأثير |
الولايات المتحدة | احتلال → دعم حكومات فاسدة | تفكيك الدولة لصالح الميليشيات |
إيران | تدريب ميليشيات + هيمنة على القرار السياسي | تحويل العراق إلى “مستعمرة ناعمة” |
تركيا | قواعد عسكرية + قصف متكرر لأكراد الشمال | تقويض السيادة |
6- مؤشرات الانهيار الشامل (2023)
البطالة: 36% بين الشباب.
الفقر: 31% من السكان تحت خط الفقر.
الهجرة: هجرة 4 ملايين عراقي (الكفاءات والعلماء)
التلوّث البيئي: 25 مليون لغم ومخلفات حرب تلوث الأرض.
7- الدروس المصيرية لسوريا
1- الخطأ القاتل
لا لحلّ مؤسسات الدولة (الجيش، البيروقراطية) قبل بديل كفؤ.
2- الخيار البديل:
إصلاح المؤسسات بدلاً من تفكيكها (دمج الكفاءات بغض النظر عن الانتماء).
مواجهة الفساد: هيئات رقابة دولية قبل صرف أموال الإعمار.
3- العدالة الشاملة:
محاكمات لـ جميع المجرمين (نظام الأسد + ميليشيات إيران + داعش)
السيادة أولاً:
منع الهيمنة الخارجية (إيران/تركيا/روسيا) عبر دستور يُجرّم التبعية.
“العراق لم يُحتل من الخارج فحسب، بل من داخله: الفساد طائفياً، والجهل سلاحاً، والذاكرة المقموعة جرحاً نازفاً.”
(كاتبة عراقية) سناء السيلاوي
- الخلاصة:
العراق خير نموذج لـمصطلح “كيف لا تُبنى الدول”
الاحتلال الخارجي +اقتصاد الريع+ المحاصصة الطائفية = وصفة لولادة دولة فاشلة
سوريا أمام خيارين:
1- تكرير التجربة العراقية: يعني التحوّل إلى فوضى دائمة
2- ابتكار نموذجها الخاص: مصالحة دون إفلات من العقاب، وإعمار دون فساد، وعدالة دون انتقام.
خامساً – جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الأبارتايد ( 1994)
الخلفية: بعد عقود من الفصل العنصري، واجهت جنوب أفريقيا تحديات إعادة بناء مجتمع موحّد ومعالجة إرث التمييز.
تجربة جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الأبارتايد (1994)
تُعدّ أبرز نموذج للمصالحة السياسية في العصر الحديث، لكنها تُظهر أيضًا محدودية العدالة الانتقالية دون عدالة اقتصادية.
سنقدم هنا تحليلاً شاملاً لتجربة جنوب أفريقيا للاستفادة منها وتمثيلها على الحالة السورية
1- الإطار السياسي: الانتقال السلمي المعجزة
الإنجاز | التحدّي |
تفكيك نظام الفصل العنصري دستوريًا | بقاء هياكل الاقتصاد العنصري |
تسليم سلمي للسلطة (مانديلا-دي كليرك) | نخبة بيضاء تحتفظ بـ 87% من الأراضي الزراعية |
دستور ديمقراطي (1996) يضمن حقوقًا متساوية | فجوة اقتصادية عرقية غير معالجة |
2- آلية العدالة الانتقالية: لجنة الحقيقة والمصالحة ( TRC )
الابتكار: رئاسة ديزموند توتو (الحائز على نوبل للسلام).
مبدأ ” الغفو مقابل الحقيقة”: – اعتراف الجناة بجرائمهم يُمنح عفوًا
الإنجازات: توثيق 21،000 حالة انتهاك
كشف جرائم النظام مثل اغتيال ستيف بيكو. تجنب حمام دم انتقامي
الإخفاقات: فقط 0،1% من الجناة حوكموا جنائيًا
ضحايا السود حصلوا على تعويضات رمزية (3000 دولار للأسرة)
إفلات قادة أبارتايد من العقاب (مثل بيتر ويليم بوتا).
3- الإصلاح الاقتصادي: الوعد المُتعثّر
السياسة | النتيجة |
)برنامج BEE (تمكين الاقتصاد الأسود | نشوء نخبة سوداء فاسدة مرتبطة بالحزب الحاكم |
إعادة توزيع الأراضي | 10 % فقط من الأراضي أعيدت للسود (الهدف كان 30% بحلول 2020) |
الخدمات العامة | توسيع الكهرباء/المياه لكن مع فساد يلتهم 35 مليار $ سنوياً
|
(2024) 4- التحدّيات المستمرة
البطالة:35 % ترتفع إلى 65 % بين الشباب السود
عدم المساواة:10 % من السكان ( غالباً من البيض) يسيطرون على 80 % من الثروة
انهيار الخدمات: انهيار قطاع الكهرباء (انقطاع 8 ساعات يوميًا)
50 % من المدارس بلا مياه صالحة
الجريمة: أعلى معدل قتل في العالم غير منزوع السلاح ( 45 جريمة\يوم)
5- الدروس المفيدة لسوريا: المصالحة السياسية ≠ العدالة الشاملة
نجاحات تُحتذى:
الرمز الموحِّد: مانديلا حوّل الغضب إلى مشروع وطني
دستور متقدّم: يدمج كل الهويات (مسلمون، مسيحيون، هنود، سود، بيض)
حماية الأقليات: تجنّب هجرة الكفاءات السورية في الداخل.
إخفاقات يجب تجنّبها:
الصفقات السياسية فوق العدالة الاقتصادية.
الفساد كبديل للإقصاء العرقي.
تجاهل غضب الأجيال الشابة (انتفاضات 2021 ضد الفقر)
6- رواندا* جنوب أفريقيا: نموذجان متعاكسان
المعيار | جنوب أفريقيا | رواندا |
العدالة السياسية | مصالحة بلا عقاب (TRC) | محاكم شعبية (غاتشاتشا) |
العدالة الاقتصادية | فشل ذريع | تقليص الفقر من 78% إلى 38% |
الاستقرار | احتجاجات مستمرة | نمو اقتصادي 8% سنويًا |
( مفيد زكريا– خبير في العدالة الانتقالية)“جنوب أفريقيا علمتنا: المصالحة دون عدالة اجتماعية هي وصفة لثورة جديدة.”
- الخلاصة:
جنوب أفريقيا نجحت في تفكيك نظام عنصري دون حرب أهلية، لكنها فشلت في
تحويل العدالة السياسية إلى عدالة اقتصادية.
استبدال هيمنة العرق الأبيض بـ دولة الكفاءة بدل ولاءات الحزب.
معالجة إرث التفاوت الذي يهدّد استقرارها حتى اليوم.
العبرة لسوريا
النموذج يُظهر أن المصالحة يجب أن تكون شاملة (سياسية + اقتصادية + اجتماعية)، وإلا سيبقى السلام هشًا.
استنتاجات ودروس عامة لسوريا
1- المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية
مواجهة الماضي بشجاعة: الاعتراف بالمعاناة والتضحيات من جميع الأطراف والعمل على جبر الضرر.
تطوير آليات مناسبة لسياق سوريا: مثل لجان الحقيقة والمصالحة، والمحاكم المحلية، وبرامج إعادة التأهيل النفسي.
2- بناء دولة شاملة ومؤسسات قوية
نظام حكم يعكس تنوع المجتمع يضمن التمثيل العادل ويمنع التهميش والإقصاء
تعزيز سيادة القانون ومحاربة الفساد لضمان العدالة والشفافية في جميع جوانب الحياة.
3- التركيز على التنمية البشرية والاقتصادية
الاستثمار في التعليم والصحة كركائز أساسية لإعادة بناء المجتمع وتعزيز الاستقرار
تمكين المرأة والشباب باعتبارهم عوامل رئيسية في التغيير الإيجابي والتنمية.
4- الدعم الدولي المتوازن
الاستفادة من الخبرات والمساعدات الدولية مع الحفاظ على السيادة الوطنية وتحديد الأولويات وفقًا للمصلحة الوطنية.
تعزيز التعاون الإقليمي لتعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة
5- تبنّي الابتكار والتكنولوجيا
استخدام التقنيات الحديثة في إعادة الإعمار، وتطوير الخدمات، وتحسين كفاءة المؤسسات
تشجيع ريادة الأعمال لدفع عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
خطوات عملية يمكن اتخاذها في سوريا
إعادة إطلاق حوار وطني شامل يجمع كافة الأطياف لمناقشة المستقبل ووضع رؤية مشتركة.
وضع خطة شاملة لإعادة الإعمار وتحدد الأولويات والاحتياجات وتضمن المشاركة المجتمعية
تعزيز دور المجتمع المدني لدعم المصالحة، ورصد عملية إعادة الإعمار، والمشاركة في التنمية
تطوير برامج نزع السلاح وإعادة الإدماج لتسهيل انتقال المقاتلين السابقين إلى الحياة المدنية
تعزيز التعليم والتوعية لنشر قيم التسامح، والمواطنة، والتعايش السلمي
نقاط إضافية قد تهمّ مشاركتها
أهمية الثقافة والفنون في تعزيز الهوية الوطنية وبناء جسور التفاهم بين المكوّنات المختلفة
معالجة القضايا النفسية والاجتماعية وتقديم الدعم النفسي للمتضررين من الصراع، وخاصة الأطفال والشباب.
تجنّب التبعية الاقتصادية والسياسية من خلال تنويع الشراكات والحفاظ على قرار وطني مستقلّ
مسك الختام :
تظهر تجارب هذه الدول أن إعادة الإعمار هي عملية معقدة وشاملة تتطلب جهودًا متضافرة على المستويات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. بالاستفادة من هذه الدروس، يمكن لسوريا أن تخطو خطوات ثابتة نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا، حيث يتمّ تضميد جراح الماضي وبناء مجتمع يتّسم بالعدل والمساواة والفرص للجميع.
- كاتب سوري