لا شيء يبدو ثابتاً في جغرافيا الجزيرة السورية، سوى القلق. تتقلّب التفاهمات، وتتبدل خطوط السيطرة، وتحت الرماد يشتعل صراع مراكز القرار، حيث تسير “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على حد السكين بين ضغوط الخارج وتهديدات الداخل. ورغم ما تبديه من تماسُك تنظيمي، إلا أن الوقائع الميدانية تشير إلى أن هذه القوة باتت تخوض اختبارًا وجوديًا قاسيًا، حيث تُواجه بسؤال جوهري: هل ما زالت قادرة على البقاء كما هي، أم أنها بدأت بمناورات تسليم تدريجية تحت وطأة الوقائع؟
المعلومات المتداولة في الأوساط السياسية والأمنية تفيد بأن “قسد” لا تُبدي مقاومة حقيقية لفكرة الانسحاب من الرقة ودير الزور، بل إنها تدرس ذلك كخيار تكتيكي، لا سيما في ظل غليان شعبي يزداد وضوحًا في تلك المناطق. هذا الغليان لا ينبع فقط من بعدٍ إثني أو رفض للهويّة الكردية الحاكمة، بل من شعور عميق بالتهميش والاستعلاء الأمني، وغياب تمثيل حقيقي لأبناء المنطقة داخل المنظومة الحاكمة.
في الوقت ذاته، تسعى قسد إلى تحويل هذه الورقة إلى أداة تفاوض لانتزاع مكاسب حقيقية في مناطق تُعدّ “خطًا أحمر” بالنسبة لها، مثل القامشلي والحسكة وعموم الشريط الشمالي الشرقي. فهناك، ترى الإدارة الذاتية أن مشروعها السياسي والقومي يجد جذوره، وهناك أيضًا تتشكل بنيتها الاجتماعية والثقافية الأكثر تماسكًا. وهي، في سبيل حمايتها، لا تمانع تقديم تنازلات في الأطراف العربية الساخنة.
لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر. إذ تُدرك القيادة أن سيطرتها على الرقة ودير الزور لم تكن يومًا مستقرة، ولا تتمتع بعمق شعبي، وأن العشائر العربية تنظر إليها كقوة فرضتها التحالفات الدولية لا كسلطة محلية شرعية. وتزيد الأمور تعقيدًا تقارير متعددة عن تنسيق بين بعض كوادر قسد في هذه المناطق والنظام السوري، ما يجعل من القاعدة التي تقف عليها قسد هشّة ومخترقة، في انتظار لحظة انهيار محتمل أو تمرّد داخلي.
من الجانب الآخر، تتكاثف الضغوط الإقليمية والدولية لدفع قسد إلى اتخاذ خطوات ملموسة في إطار “تسويات شرق الفرات”. الأميركيون يتحدثون عن إعادة ضبط النفوذ بما يتوافق مع مصالح الأمن الإقليمي، فيما الروس والنظام يطمحون إلى عودة تدريجية لمؤسسات الدولة السورية في المناطق العربية، حتى لو جاء ذلك عبر توافقات غير معلنة. أمام هذه المعادلات، لا تملك قسد هامشًا كبيرًا للمناورة، فقرارها السياسي، رغم مظاهر الاستقلال، لا يزال معلّقًا برضا الداعم الأميركي، وتوازناتها الداخلية متداخلة إلى حد الإنهاك.
ولا يخفى أن صورة القائد العام مظلوم عبدي، رغم حضوره الدولي، لم تعد تعبّر بدقة عن مركز الثقل الحقيقي داخل “قسد”. فهناك تضارب في مواقع القرار، ووجود تيارات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وأخرى تتجه ببطء نحو دمشق، ما يجعل من الجسم التنظيمي معرّضًا للتآكل من الداخل في حال تفجّرت الخلافات أو فُرضت تسويات لا ترضي الجميع.
ومع أن قسد تُتهم، من قبل خصومها العرب، بانتهاج سياسة الغدر والهيمنة، فإنها من جانبها تروّج لفكرة أنها حامية الاستقرار وأن البديل عن وجودها هو الفوضى أو عودة تنظيمات راديكالية. لكن هذه الحجة تفقد بريقها يومًا بعد يوم، مع تصاعد وتيرة الرفض الشعبي، وتزايد المشاهد التي تضع قسد في موقع القوة القسرية لا الشريك السياسي.
الجزيرة السورية تقف الآن أمام مشهد ضبابي لا يخلو من إشارات التفكك. قسد تمسك بزمام الأمور شكليًا، لكنها تخسر أوراقها واحدة تلو الأخرى. فالرقة ودير الزور تُهددان بالخروج من يدها، والقامشلي قد تتحول إلى جبهة صراع جديدة إذا ما فشلت رهاناتها التفاوضية. ووسط كل ذلك، يبقى السؤال المفتوح: هل ستستطيع قسد إعادة رسم حدود مشروعها، أم أنها بدأت بالفعل الدخول في مرحلة تفكّك تدريجي ستقود إلى نهاية نفوذها خارج نطاقها الطبيعي؟
ما يجري شرق الفرات ليس سوى بداية لصراع طويل على الشرعية والهوية والقرار. وعلى هذا الصفيح الساخن، يبدو أن كل من تأخر عن التنازل في الوقت المناسب، سيُجبر على الخروج لاحقًا بشروط الآخرين.
- كاتب سوري