د مشق – «القدس العربي»: بينما تتجه الأنظار إلى التفاهمات السياسية والتطورات العسكرية في الشمال السوري، تشهد مدينتا الرقة والحسكة، تحولات تجري تحت الأرض، حيث تتواصل أعمال حفر أنفاق تنفذها قوات «سوريا الديمقراطية» (قسد)، عبر شبكة هندسية معقدة تمتد تحت منازل المدنيين، حسب ما يقول ناشطون، وذلك، في مدن كانت قد عانت أصلا من دمار البنى التحتية، وباتت تعيش اليوم على وقع أصوات الحفر وتصدع الجدران.
ويحذر ناشطون من «مخاطر كارثية» تهدد استقرار ملايين المدنيين نتيجة تكثيف أنشطة حفر الأنفاق باستخدام آليات ضخمة وتفجيرات صخرية، سيما في مدينتي الحسكة والرقة المكتظتين، ومدينة الطبقة الواقعة ضمن حوض ذي تربة رخوة وهشة ما يجعلها بيئة ذات قابلية شديدة للانهيار.
وحسب مصادر مطلعة لـ «القدس العربي» فإن الأحياء السكينة في مدينة الرقة سيما شارع المنصور، وحي الفردوس، وحارة الحسون، وحي الرميلة، وحي سيف الدولة تشهد عمليات الحفر تحت منازل المدنيين مباشرة، ما يثير مخاوف متزايدة من انهيارات أرضية محتملة وتلف في أساسات الأبنية، خاصة تلك التي أُنشئت قبل عقود وتعاني أصلا من التهالك.
ويقول الناشط الميداني سليمان بدر، من أهالي وسكان مدينة الرقة لـ «القدس العربي» إن أصوات الحفر لا تتوقف لا ليلا ولا نهارا، وتحولت إلى جزء ثابت من حياة السكان اليومية، رغم إبلاغ الأهالي عن تشققات بدأت تظهر في عدد من المنازل، ما يضع آلاف العائلات تحت تهديد حقيقي ومخاطر تأتي من باطن الأرض شمال غربي سوريا.
حركة نزوح
يجري ذلك، وفق المتحدث «في مناطق مكتظة، ما دفع بعض العائلات فعليا باتخاذ خطوات تحضيرية للنزوح، نتيجة شعورها المتعاظم بفقدان الأمان ومواصلة عمليات الحفر في الأحياء السكنية، دون توضيح من قبل الإدارة الذاتية يفسر هذه التحركات».
وفي رأي بدر فإن «الاحتمالات وراء مواصلة أعمال الحفر تحت المدينة يتأرجح بين استعدادات لمواجهات مستقبلية غير معلنة، وترتيبات أمنية داخلية لا يجري الكشف عنها للرأي العام المحلي».
في المقابل، وبينما تزايدت المبادرات المدنية والنداءات الإلكترونية المطالبة بوقف الحفر وفتح تحقيقات مستقلة حول آثار الأنفاق على البنية التحتية وسلامة السكان، وجّه ناشطون من أهالي المحافظة مناشدات إلى منظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي والمنظمات الدولية للتدخل فورا لوقف هذه الأنشطة والعمل لإجراء دراسة جيولوجية وهندسية شاملة لتقييم مخاطر الأنفاق التي حفرتها «قسد» تحت الأحياء السكنية في المدينة، بينما لم تُصدر «قسد» أي بيان توضيحي، ولم تقدم ضمانات بخصوص أمان الأحياء المتأثرة.
وبرأي بدر فإن غياب الردود الرسمية، «غذّى لدى سكان الرقة شعورا متزايدا بالعزلة، سيما أن المدينة التي عانت من سنوات الحرب تحولت اليوم إلى مساحة من القلق المزمن، مع استمرار تفريغها من الداخل عبر نشاطات هندسية تحت الأرض لا يعرف أهدافها». الناشطة الإعلامية رنا العاكوب، تؤكد تكرار المشهد في محافظة الحسكة، معتبرة أن عمليات الحفر تجري ولكن على نطاق أوسع «وسط تعتيم إعلامي». وتقول لـ «القدس العربي»: إن عمليات الحفر تجري في معظم شوارع المدينة، بما في ذلك القامشلي، وسط حالة من الصمت المفروض نتيجة تضييق أمني وإعلامي. وتضيف: «يتعرض السكان لقيود على التعبير، حيث قد يؤدي الحديث عن هذه الأنفاق إلى المساءلة أو الاعتقال».
وتشير شهادة أحد سكان الحسكة المطلع على الملف عن كثب، طلب عدم كشف اسمه، لـ «القدس العربي» إلى أن كل شارع تقريبا في الحسكة والقامشلي يحتوي أنفاقا، وأن وتيرة الحفر ارتفعت بشكل واضح خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
ويقول «أحد أطول الأنفاق، يمتد من دوار القوتلي إلى دوار الخليج، وهي مناطق ذات كثافة سكانية عالية ونشاط تجاري كبير».
وحسب المصدر: تستمر أعمال الحفر دون توقف منذ شهر أبريل/ نيسان الماضي، خصوصا في الأحياء الواقعة بين الدوارين. إذ لم تعد الأنفاق مجرد ممرات مؤقتة أو تحصينات عسكرية، بل شبكات تحتية مكتملة يجري إنشاؤها بهدوء تحت المناطق المأهولة، ما يثير مخاوف من انهيارات فجائية أو تأثيرات سلبية على شبكات المياه والصرف الصحي.
من بين الحوادث التي وثّقها الأهالي، «تسرب مياه صرف صحي إلى بئر مياه تستخدمه الأسر لأغراض منزلية، ما أدى إلى تلوثها بروائح كريهة، بينما ربطت التحقيقات المحلية أن خط صرف صحي انكسر قرب البئر بسبب عمليات الحفر، ورغم ذلك لكن لم تتخذ أي إجراءات إصلاحية أو محاسبة فعلية للجهات المسؤولة».
مهام خطيرة بأجور متدنية
ويضيف: تشير المعلومات المتداولة محليا إلى أن أعمال الحفر تُنفذ من قبل عمال محليين يُستقطبون لأداء مهام خطرة مقابل أجور منخفضة لا تتجاوز ستة دولارات يوميا. كما أن العمال لا يحصلون على تعويضات في حال الإصابة، ولا يُوفر لهم أي دعم طبي، رغم طبيعة العمل الشاقة والمحفوفة بالمخاطر.
ويتابع: شهدت آلية الإشراف على الحفر تغييرا لافتا خلال العامين الأخيرين، حيث تم إقصاء مديرية الإسكان العسكري التابعة لـ»قسد» عن العملية، بينما انتقل الإشراف إلى قيادات كردية جديدة، وأسند التنفيذ إلى متعهدي حفر محددين يُشترط أن يكونوا من العسكريين الموثوقين أو من عناصر كردية تركية غير نشطة في القتال لأسباب صحية أو عمرية، لافتا إلى أن بعض هذه الأنفاق تمتد حتى معبر سيمالكا.
وفي رأي المتحدث، فإن المشهد العام في الرقة والحسكة يكشف عن أزمة أمنية وإنسانية، في ظل مواصلة عمليات الحفر التي تهديد مساكن ملايين السكان بالانهيار في الشمال السوري.
- القدس العربي