في عالم ما بعد الحرب الباردة، ومع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، لم تعد الدول النامية أو الخارجة من النزاعات قادرة على تبنّي سياسات خارجية قائمة على الانحياز الأعمى لمحور من دون آخر.
بل أضحى من البديهي أن تحكم هذه السياسات قواعد “توازن العلاقات” مع دول المركز، أي القوى الدولية التي تمتلك القدرة على التأثير الفعلي في بنية النظام الدولي، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي. هذا التوازن ليس رفاهية نظرية، بل ضرورة وجودية لأي دولة تسعى للنجاة، ومن ثم النهوض، في بيئة دولية متشابكة ومعقّدة. فالحفاظ على علاقات مرنة، متوازنة، ومتعددة الاتجاهات يمنح الدولة هامش مناورة أوسع، ويحمي قرارها السيادي من الوقوع فريسة للابتزاز أو العزلة، ويُكسبها احتراماً على طاولة المفاوضات الدولية. من هنا، تتضح الحاجة الماسّة لأن تعتمد الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع هذا المنهج الواقعي والبراغماتي في رسم خارطة علاقاتها الدولية، على قاعدة توازن القوى، من دون عداء أو تبعية.
إن خيار تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة إعلان العداء لروسيا، وإنما هو تموضع سياسي استراتيجي تقتضيه المصلحة الوطنية السورية العليا.
المقاربة السياسية الصحيحة
في مرحلة ما بعد الحرب، ومع بدء تشكّل ملامح سوريا الجديدة بقيادة أحمد الشرع، تبرز أمام الحكومة الوليدة تحديات سياسية ودبلوماسية معقدة تتطلب تعاملاً دقيقاً وحذراً مع القوى الدولية المؤثرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. هذه المرحلة لا تحتمل التهور في التموضع الدولي، ولا مجال فيها للمراهقة السياسية التي لطالما دفعت سوريا ثمنها في العقود الماضية. بل إن السبيل الأمثل اليوم هو تبنّي مقاربة عقلانية واقعية تستند إلى مبدأ توازن القوى، مع إعطاء أولوية واضحة لبناء تحالف استراتيجي متين مع الولايات المتحدة الأميركية، من دون استعداء روسيا، بل بالحفاظ على مساحة مناورة ذكية معها، تضمن لسوريا الحياد الإيجابي بدل الدخول في محور صدامي يعيدها إلى دائرة الاستهداف.
الواقع الجيوسياسي يفرض على سوريا الجديدة أن تكون دولة ذات علاقات متوازنة، لا تابعة ولا مناوئة، وإنما فاعلة ضمن منطق “صفر مشاكل”، الذي نجحت تركيا في اعتماده مطلع الألفية الجديدة، حين وضعت نصب أعينها الانفتاح على الجميع وتصفير الأزمات مع الجوار واللاعبين الدوليين، فحصدت نتائج اقتصادية وسياسية عززت مكانتها الإقليمية والدولية. هذا النموذج لا يزال صالحاً اليوم، بل هو حاجة ملحّة لسوريا ما بعد الحرب، التي تسعى للخروج من العزلة، وإعادة بناء الدولة، واستقطاب الاستثمارات، وتثبيت الاستقرار السياسي والأمني.
تعزيز العلاقات بما تقتضيه المصلحة
إن خيار تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة إعلان العداء لروسيا، وإنما هو تموضع سياسي استراتيجي تقتضيه المصلحة الوطنية السورية العليا. فالأميركيون قادرون على توفير غطاء سياسي واقتصادي ودولي يعيد لسوريا دورها الإقليمي، ويمنحها فرصة الانخراط في منظومة التنمية العالمية. كما أن انفتاح دمشق على واشنطن يحمل في طياته رسائل تطمين لدول الإقليم والاتحاد الأوروبي والشرق الأقصى، ما يفتح الباب لعودة سوريا إلى الساحة الدولية من بوابة الشرعية لا من بوابة التبعية.
لكن في المقابل، فإن تجاهل المصالح الروسية في المنطقة سيكون خطأً استراتيجياً فادحاً. فموسكو، التي استثمرت سياسياً وعسكرياً في الصراع السوري، لن تتقبل بسهولة خروج سوريا من دائرة نفوذها. ولذلك، ورغم كل الماضي المعقد مع الروس، فإن مقاربة “الاحتواء الناعم” لروسيا تفرض نفسها.
نظرياً، من المفيد للحكومة السورية الجديدة أن تمارس المراوغة السياسية الذكية، بحيث تُظهر احترامها لدور روسيا، وتبدي استعدادها للتنسيق في قضايا أمنية أو اقتصادية، من دون أن تمنح موسكو مفتاح القرار السوري. المطلوب هو خلق حالة من “التوازن غير المعلن”، بحيث تشعر روسيا أن سوريا ليست خصماً، لكنها لم تعد ساحة حصرية لنفوذها.
إن نجاح الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع لن يُقاس فقط بما تنجزه داخلياً من إعادة إعمار أو إصلاح سياسي، بل بما ترسمه أيضاً من معالم للسياسة الخارجية التي ستحدد موقع سوريا في خريطة النفوذ الإقليمي والدولي.
المرونة وتجاوز خلافات الماضي
إن السير على هذا الحبل الدقيق يتطلب دبلوماسية نشطة وقيادة واعية تدرك أن التحولات العالمية، منذ الحرب الأوكرانية وحتى تغير موازين القوى في الشرق الأوسط، أفرزت واقعاً جديداً لا مكان فيه للدول الضعيفة التابعة. فإما أن تكون الدولة مرنة وذات خيارات استراتيجية مستقلة، أو تكون ساحة لتصفية الحسابات الدولية.
تجارب الماضي
التجربة التركية في مطلع الألفينات تقدم مثالاً يمكن الاستئناس به. تركيا حينها لم تتخلّ عن علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة والغرب، لكنها فتحت قنوات مع روسيا، ووسّعت مصالحها مع العالم العربي، حتى أصبحت لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاهله. سوريا اليوم بحاجة لسياسة خارجية تنتهج نفس المنطق: بناء تحالفات من دون ولاءات عمياء، وفتح جسور من دون انغلاق في محور واحد، والعمل على حماية القرار الوطني من الضغوط الخارجية، سواء أكانت من الشرق أو من الغرب.
في النهاية، إن نجاح الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع لن يُقاس فقط بما تنجزه داخلياً من إعادة إعمار أو إصلاح سياسي، بل بما ترسمه أيضاً من معالم للسياسة الخارجية التي ستحدد موقع سوريا في خريطة النفوذ الإقليمي والدولي. ومفتاح ذلك هو توازن مدروس بين شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، واحتواء سياسي للعلاقة مع روسيا، تحت سقف المصلحة الوطنية، وبروح دبلوماسية هادئة، عقلانية، واقعية، تنطلق من فهم عميق للمعادلات الدولية، وتضع سوريا أولاً، من دون شعارات، ومن دون استعراضات.
وليكون هذا هو نهج سوريا الجديدة: “لا عدو دائم، ولا ولاء أعمى، بل مصالح دائمة، ودولة ذات سيادة حقيقية.”
- تلفزيون سوريا