في أقصى الشمال الشرقي من الجغرافيا السورية، حيث تتداخل الرمال مع الذاكرة، وحيث كل حجرٍ ما زال يحتفظ بصدى الانفجارات وصرخات الغائبين، اجتمع الحاضرون تحت سقف واحد، وسمّوا لقاءهم “كونفراس الحسكة”. بدا العنوان كما لو أنه دعوة إلى التلاقي، غير أن اللغة أحيانًا تخون معناها، فالكلمات الجميلة تستطيع أن تخفي وراءها أعمق الخيانات.
كانوا يتحدثون عن “وحدة الموقف”، لكنك، حين تُصغي جيدًا، تسمع شروخًا في الجملة، كما لو أن الحروف ذاتها تريد أن تنسلّ من سياقها. كان المشهد أشبه بوردة بلا رائحة، أو عَلمٍ مرفوع على رياح لا تنتمي له.
الأرض التي تُستنزف تحت الأقدام
“قسد” التي أمسكت بزمام المنصّة، هي نفسها التي مرّت على الساحل كعاصفة غريبة، تسلّحت بالفلول، ودرّبتهم، وأطلقتهم في طرقٍ لا تعود. وهي نفسها التي أرسلت المال والسلاح إلى السويداء، لتغذّي جماعات خارجة عن القانون، وتفتح أبواب الفوضى في مدينة طالما اعتادت الصبر على الأطراف.
هي التي مدّت يدها لتحتضن فلول النظام البائد وضباطه الفارين، جنبًا إلى جنب مع تجار الكبتاغون والمخدرات، لتقيم معسكرات تدريب تحت إشراف ماضٍ لمّا يمت بعد. وهي التي لم تتردّد في ركل اتفاق آذار، بكل ما يحمله من فرصة لاستعادة وحدة الأرض، لتسلك طريقًا علنيًا نحو تمزيق الخريطة.
قناع التعدّدية… ووجه الانفصال
حين تُرفع صور الأقّليات وتُستحضر طقوسهم كديكور سياسي، علينا أن نسأل: من المستفيد من هذا العرض؟ إن توظيف التنوّع غطاءً يستبطن الاختلاف، هو أكثر أشكال العبث قسوةً، لأنه يحوّل الوجدان الثقافي الغنيّ إلى بطاقة دعوة لمشروع ضيّق، مشروع يرى في الفسيفساء السورية مجرّد أحجار يوزّعها كما يشاء على رقعة الانقسام.
سوريا… بين ذاكرة الجبال وخوف السهول
من يقرأ المشهد من علٍ، يدرك أن سوريا اليوم ليست فقط ساحة لصراع السلاح، بل ساحة لصراع السرديّات. هناك من يريد أن يكتب تاريخها القادم بلغته الخاصة، وأن يحدّد لها أفقًا ضيقًا لا يتجاوز حدود رايته. لكن سوريا، بتاريخها، لا تُختصَر في مؤتمر، ولا في راية عابرة؛ هي دمشق التي تحفظ أنفاس الفرات، وحلب التي تضع يدها على كتف درعا، والساحل الذي يعرف طريقه إلى الجزيرة بلا حواجز.
دمشق… النداء الأخير
في مواجهة هذا المشهد، لا بدّ من العودة إلى نقطة الارتكاز: مؤتمر وطني في دمشق، لا مكان فيه إلا للقوى الوطنية الصادقة، لا للحسابات الصغيرة أو ولاءات الخارج. مؤتمر ينطلق من معايير الثورة التي انطلقت من أجل الشعب، لا من أجل مشاريع سلطوية بديلة.
فالوطن ليس جغرافيا فقط، بل هو ذاكرة مشتركة، وألم واحد، ومستقبل إن أضعناه اليوم، فلن يعيده الغد. “كونفراس الحسكة” قد يكون محطة، لكنه ليس قدرًا محتومًا، ما دام في سوريا من يصرّ على أن الشمس لا تنطفئ أمام ظلّ عابر.
- كاتب سوري