في مجتمعات ما قبل الحداثة السياسية، يتداخل ما هو سياسي مع ما هو ديني وثقافي واجتماعي واقتصادي، إلى درجة يصعب (بل يستحيل) الفصل بين هذه المجالات داخل الظواهر الاجتماعية والسياسية، ذلك أن عملية الفصل هي نتاج الحداثة المتقدّمة. وليس غريباً في مجتمعات كهذه أن يُعلِن شيخ مُعمَّم مطالبته بنظام ديمقراطي علماني (غزال غزال، حكمت الهجري)، في حين يرفض رجال دين آخرون العلمانية، ويشدّدون على الدين ثقافةً ومرجعية تأسيسية للدولة والمجتمع مع الحفاظ على الحقوق الدينية والثقافية للأقليات. سبب التباين هذا بين موقفي رجال الدين ليس ناجماً عن المعتقدات الدينية في ذاتها، بمعنى أن ثقافة دينية تشجّع العلمانية وأخرى لا تشجّعها، بل يكمن السبب في وضع الجماعات بين أقلية وأكثرية، ذلك أن الوضع الأقلوي والأكثري هو المحدّد الرئيس للموقف السياسي، لا العقائد الدينية في ذاتها.
في أوروبا القرن السادس عشر، طالب “الهغونوت” (بروتستانت فرنسا)، الذين كانوا أقلّيةً دينية تتعرّض لاضطهاد الأكثرية الكاثوليكية، بنظام علماني (وإن لم يستخدموا هذا المصطلح) يسمح بحرية الضمير، وهو ما كانت ترفضه الأكثرية الكاثوليكية. في تلك المرحلة من تاريخ أوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، ساهم “الهغونوت” بتطوير نظريات سياسية انعكست في أفعالهم من خلال مقاومتهم الأكثرية الكاثوليكية، لينتهي الأمر بإعلان ملك فرنسا، هنري الرابع، مرسوم نانت للتسامح عام 1598، بعد سنوات من الحروب الدينية. كان منطلق الموقفَين المتباينيَن، الكاثوليكي والبروتستانتي، ناجماً من الوضعية والوزن الاجتماعي لكلّ طرف، لا من مقدّمات عقائدية. ففي حينه، كان الوضع في هولندا مقلوباً: الأكثرية بروتستانتية والأقلية كاثوليكية، وطالب الكاثوليك بحرّية الضمير على غرار بروتستانت فرنسا، وهو ما رفضه البروتستانت على غرار ما فعل الكاثوليك في فرنسا.
“الوضع الأقلوي والأكثري هو المحدّد الرئيس للموقف السياسي، لا العقائد الدينية في ذاتها
من هذا المنطلق، يجب النظر إلى مؤتمر “وحدة الموقف لمكوّنات شمال وشرق سورية” (عقد أخيراً في الحسكة)، الذي جمع مكوّنات كردية وعلوية ودرزية وغيرها، في خطابٍ سياسيٍّ موحّد، أي النظر إليه من منظار الأكثرية والأقلية الهُويَّاتية، لا من منظار عقائدي صرف. جاء البيان الختامي لمؤتمر “وحدة الموقف لمكوّنات شمال وشرق سورية” سياسياً بامتياز: “نبذ العنف والكراهية، والتأكيد على وحدة البلاد أرضاً وشعباً، مع اعتماد نظام اللامركزية الإدارية نموذجاً يضمن تمثيلاً عادلاً، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني سوري جامع وشامل، تشارك فيه مختلف القوى الوطنية والديمقراطية، بما يساهم في رسم الهُويَّة الوطنية الحقيقية الجامعة لكلّ السوريات والسوريين”.
في هذه اللحظة التاريخية الحالية، يمكن النظر إلى هذا التجمّع نواةً لما يمكن تسميتها الكتلة السياسية التاريخية القادرة على تشكيل قوة توازن سياسية تحدّ من الهيمنة الثقافية والسياسية للأكثرية السُّنِّية، التي لا يُخفى على أحد تداخل السُّنِّي، عقيدةً وطائفةً، في سلوكها السياسي، كما ظهر ذلك في الحكومتين، الأولى والثانية، وكما ظهر في الإعلان الدستوري الذي لا يرقى إلى مستوى البناء الوطني الجاد، وكما ظهر أيضاً في نصّ النظام الانتخابي الذي أقرّته السلطة أخيراً، فضلاً عن السلوكيات العملياتية في الأرض لما يسمى “الجيش السوري” أو قوات الحكومة السورية.
إذا كان منطلق المؤتمر تشكيل كتلة سياسية تاريخية، فيمكن القول إن تحالف الأقليات ليس سوى تحالف سياسي محض، غايته المشاركة في بناء سورية جديدة متعدّدة داخل الوحدة الجغرافية السياسية لسورية. وبهذا المعنى والغاية، نحن اليوم أمام خطوة في غاية الإيجابية، فمن دون توازن القوى السياسية في الداخل، لا يمكن تحويل الأكثرية والأقلية الهُويَّاتية أكثرية أو أقلية سياسية. غير أن ما يظلّ كامناً ومخيفاً أن بعض المشاركين في المؤتمر تمتلك توجّهات ما قبل وطنية، قائمة على فكرة الانفصال، غايةً نهائيةً بمساعدة الخارج، والخارج هنا ليس سوى إسرائيل. يذكّرنا هذا بطلب كلّ من شيخ عقل الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، ورئيس المجلس الديني الإسلامي العلوي، الشيخ غزال غزال، الحماية الدولية، وقد يجد هؤلاء الخارج أكثر أماناً لهم من دمشق. كما يذكّرنا بدعوة يائير رافيد رافيتز (رئيس الفرع العملياتي لجهاز الموساد في لبنان) إلى التعاون مع الأقليات السورية لمواجهة من أسماهم أعداء إسرائيل، وكشفه عمليات تنسيق تُجرى على الأرض بين إسرائيل والدروز، كما استعرض خطط تل أبيب المستقبلية لاستخدام الأكراد والعلويين في تحقيق أغراض الاحتلال في سورية، حسب ما نقلت صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية. ولذلك، يُخشى أن يكون المؤتمر مُطيةً أو مقدّمةً للمطالبة بالانفصال، والحماية الخارجية، وحجّةً لإبقاء على السلاح، الأمر الذي يقطع على “الدولة” الجديدة شرعية احتكار العنف، وهو أحد الشروط الرئيسة لبناء الدولة بالمعنى الحديث.
“من دون توازن القوى السياسية في الداخل، لا يمكن تحويل الأكثرية والأقلية الهُويَّاتية أكثرية أو أقلية سياسية
هذه المخاوف هي ما عبّر عنه مسؤول في الحكومة السورية بقوله “ما جرى (مؤتمر الحسكة) لا يمثل إطاراً وطنياً جامعاً، بل هو تحالف هشّ يضمّ أطرافاً متضرّرةً من انتصار الشعب السوري وسقوط عهد النظام البائد، وبعض الجهات التي احتكرت أو تحاول احتكار تمثيل مكوّنات سورية بقوة الأمر الواقع، وبالاستناد إلى دعم خارجي، تلجأ إلى مثل مؤتمرات كهذه هروباً من استحقاقات المستقبل، وتنكّراً لثوابت الدولة السورية القائمة على جيش واحد، حكومة واحدة، وبلد واحد… وتستعيد نهج المؤتمرات التي سعت إلى تقسيم سورية قبل الاستقلال”. ما يلفت الانتباه في تصريحات المسؤول الحكومي (بمثابة موقف رسمي للحكومة) أمور عدّة: أولها أن دمشق نظرت إلى المؤتمر بوصفه انعكاساً لأقليات دينية، وليس لأقليات سياسية تسعى إلى بناء نظام سياسي يعبّر عن كلّ السوريين، فتركت ظاهر النصّ (البيان الختامي للمؤتمر)، ولجأت إلى تأويل ذاتي يُخرِج النصّ من منطوقه الظاهري، مع التأكيد مجدّداً على أن في مخاوف السلطة في دمشق ما فيها من الوجاهة، ولكن لا يُبنى عليها قبل إثباتها في الواقع.
ثانياً، ترفض السلطة في دمشق من حيث المبدأ وجود خريطة طريقٍ سياسيةٍ مغايرةٍ لخريطة الطريق التي وضعتها، وفي هذا استبداد سياسي يلغي الآخر وحقوقه وآماله السياسية، طالما أنها محصورة في نطاق الجغرافية السورية وفي نطاق الدولة الوطنية. وثالثاً، الشعب السوري، وفق تصريح المسؤول الحكومي، هو المؤيّد لها فقط: “الحكومة السورية تؤكّد أن الشعب السوري، الذي أفشل تلك المخطّطات وأقام دولة الاستقلال، سيفُشِل اليوم هذه المشاريع مجدّداً”. وهذا ما يذكّرنا بما قاله الأسد: “إن السوري هو فقط الذي دافع عن سورية”، أي عن النظام.
من الواضح أن الهوّة تزداد عمقاً بين السلطة وباقي المكوّنات، في ظلّ خطابات وسلوكيات ما قبل وطنية ودولتية لدى الجميع، خصوصاً السلطة الحاكمة التي تنظر إلى الدولة غنيمةً وأدة قسر واستحواذ.
- العربي الجديد