لم ينل اتفاق وقف النار الأخير في جبل العرب ما يستحقه، ليس من الاهتمام الذي حصل بالطبع أمام قسوة ما جرى، وإنما من قراءة وتمعّن في خلفياته وآفاقه وتداعياته المستقبلية على الأوضاع في سوريا الجديدة، علماً أننا نتحدث عن ثلاثة وسطاء وأطراف ومراحل للاتفاق الذي يتضمن كذلك مستويين مختلفين أو، للدقة، متوازيين، بينما يسير تنفيذه وفق ما هو مرسوم ومخطط له، أقله حتى الآن.
بداية، نتحدث عن ثلاثة وسطاء انخرطوا في الاتفاق، يتعلق الأمر بأميركا التي توسطت بين إسرائيل والقيادة في سوريا الجديدة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين، ويمكن اعتباره منفصلاً ولكن ذا تأثير على الاتفاق في جبل العرب.
كان هناك حضور غير مباشر للوسيطين الآخرين، تركيا والأردن، في هذا الاتفاق أيضاً، من خلال إرسال رسائل على طريقتهم وبوسائلهم الخاصة، وتحديداً عبر قنوات أمنية خلفية إلى تل أبيب، مفادها الانزعاج والرفض القاطع للتدخل الإسرائيلي الفظّ والعدواني في الشأن السوري، خاصة مع قصف رئاسة الأركان ومحيط القصر الرئاسي والقوات الأمنية الشرعية في الجبل.
كانت إسرائيل قد أقحمت نفسها بالشأن السوري بفظاظة وعدوانية ودموية، كما فعلت منذ سقوط النظام نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، عبر الهجمات الإجرامية والعدوانية ضد معسكرات ومقدرات القوات الشرعية في سوريا الجديدة.
إلى ذلك، انخرط الوسطاء الثلاثة معاً ـ أميركا وتركيا والأردن ـ في جهد منسق من أجل التوصل إلى اتفاق وقف النار في جبل العرب بين الحكومة السورية والجماعات الخارجة عن القانون والميليشيات غير الشرعية في جبل العرب، من دون أن يعني ذلك أبداً وضع الطرفين، أي الحكومة الشرعية والمجموعات الخارجة عن القانون، على قدم المساواة والندية. وتضمن الاتفاق خريطة طريق من ثلاث مراحل للتنفيذ، لكن دون سقف زمني صارم نظراً للتعقيدات على الأرض، وبالعموم تسير الأمور وفق ما خُطِّط لها، حيث تم تنفيذ المرحلة الأولى وجزء كبير من الثانية بنجاح، على أمل السير قدماً في المرحلة الثالثة من خريطة الطريق التي ستكرّس نجاح الاتفاق وجعله نموذجاً للاقتداء والعمل من أجل سيطرة سوريا الجديدة على كامل أراضيها الموحَّدة غير القابلة للتجزئة أو الانفصال أو التقسيم.
بالنسبة للمستوى الأول، كانت إسرائيل قد أقحمت نفسها بالشأن السوري بفظاظة وعدوانية ودموية، كما فعلت منذ سقوط النظام نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، عبر الهجمات الإجرامية والعدوانية ضد معسكرات ومقدرات القوات الشرعية في سوريا الجديدة.
بدا التدخل الإسرائيلي هذه المرة فظاً وعدوانياً ودموياً أكثر، مع قصف رئاسة الأركان ومحيط القصر الرئاسي والقوات الأمنية الشرعية في جبل العرب.
أثار التدخل الفظّ والعدواني وغير المبرر غضباً شديداً في واشنطن، وبالطبع في أنقرة وعمان، وتدخلت الإدارة الأميركية عبر مفاوضات غير مباشرة من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين سوريا الجديدة وإسرائيل، وهو أول اتفاق يتم عقده بين الجانبين، وبالتأكيد أهم بكثير مما يبدو عليه.
تؤكد معطيات وحيثيات الاتفاق حقيقة أن إسرائيل ليست وصيّاً ولا حتى لاعباً جدياً ومؤثراً في سيرورة قيام ونهوض سوريا الجديدة، مع محاولات التسلل غير الشرعية والرفض الإقليمي والدولي القاطع لها، تحديداً من الرئيس دونالد ترامب الذي تدخل وطلب من تل أبيب التوقف، وهي ليست في وضع يسمح لها بالممانعة مع حاجتها إليه، حيث لا تستطيع المضي قدماً في سياسات العدوان الإقليمية من دون مظلة الحماية الأميركية.
يمثل اتفاق وقف النار، ولا شك، أرضية لحوار سوري إسرائيلي برعاية ووساطة أميركية، لكنه سيبقى دوماً ـ غير مباشر أو وجهاً لوجه ـ في الإطار الأمني البحت الخاص بالعودة إلى اتفاق فكّ الاشتباك عام 1974، ولو محدَّثاً، أي عبر زيادة القوات الدولية (يوندوـف) وانخراط قوات أميركية فيها، وربما تشكيل لجنة رباعية ـ أممية أميركية سورية إسرائيلية ـ للإشراف على التنفيذ الدقيق والأمين له، كما يجري مع نظيره 1701 في لبنان.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى رفض إسرائيل إجراء أي حوار حول اتفاق 1974، في محاولة منها كي تبقى أياديها طليقة وتستمر في عربدتها العدوانية كما تفعل منذ سنوات، قبل وبعد سقوط نظام آل الأسد، لكنها اضطرت للتراجع تحت ضغط أميركي ورفض إقليمي ودولي واسع لتدخلها الفظ والعدواني في تطورات جبل العرب الأخيرة.
الشاهد هنا هو إصرار الدولة السورية على فرض سيادتها وسلطتها على كامل أراضيها الموحَّدة، وهي ليست بوارد تهديد أحد، وتلتزم بالاتفاقيات والالتزامات والواجبات تجاه مواطنيها أولاً، ولا مصلحة ولا قدرة أصلاً على انتهاك اتفاق فكّ الاشتباك مع إسرائيل أو زعزعة الاستقرار في المنطقة، مع التذكير بالعبارات اللافتة للمبعوث الأميركي توم بارك عن الجيران الجيدين والحلفاء والأصدقاء المخلصين لسوريا الجديدة.
يبدو الاتفاق بمستوييه مهماً جداً، وأهم بكثير مما يبدو عليه، لجهة كسر خطط ومشاريع الانفصال والحماية الأجنبية، وفرض الدولة سيطرتها على كامل الجبل وطرقه الرئيسية.
وفيما يخص المستوى الثاني من الاتفاق، المتعلق بوقف إطلاق النار في جبل العرب، فقد كان نتاج عمل ثلاثي أميركي – تركي – أردني بين القيادة في دمشق والميليشيات، من دون حضور مباشر لإسرائيل فيه، وتضمّن ثلاث مراحل: فضّ الاشتباكات، وإيقاف النار أولاً، ثم إدخال المساعدات وإجلاء المدنيين المحاصرين. بينما تشمل المرحلة الأخيرة عودة الدولة إلى جبل العرب وعودته إلى حضن الوطن ـ ليست على طريقة نظام الأسد السيئة الصيت ـ وفق روح الاتفاق الذي كان مطروحاً على الطاولة طوال الوقت ورفضه التيار الانعزالي، كما شهدنا ونشهد ونعرف من الوقائع على الأرض، وكما قال ويقول، عن حق، الزعيمان وليد جنبلاط وليث البلعوس اللذان يمثلان التيار التاريخي والعقل الجمعي للموحدين العروبيين بالمنطقة، في مواجهة التيار الانعزالي.
إذن، جاءت فلسفة الاتفاق ثلاثية ومتدرجة عبر وقف النار أولاً، أي الإطفاء، ثم التبريد، ثم العمل على المدى البعيد، تماماً كما جرى في ملحمة إطفاء الحرائق بجبال وريف اللاذقية التي قادتها الحكومة السورية والوزير الثائر دوماً رائد الصالح، قائد الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) زمن الثورة، الذي رفض التيار الانعزالي وفلول النظام دخوله إلى جبل العرب، ضمن موقف يائس وهروب إلى الأمام من السلطة الشرعية ومن رائد الصالح والـ”خوذ البيضاء” التي كانت عاملاً معهم في إسقاط النظام وانتصار الثورة وتخليد روايتها.
بالعموم، تسير الأمور بصبر ونَفَس طويل وفق ما هو مخطط لها، إثر فضّ الاشتباك وتكريس وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات وإخراج المدنيين والمصابين، ثم ضرورة وحتمية دخول الدولة إلى جبل العرب للقيام بواجباتها ودمجه بالدولة السورية، ليس فقط من منظور ومنطق أمني على أهميته، وإنما في سياق مدني أوسع يشمل عمل كل المؤسسات في سياقاتها المختلفة التعليمية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، لإعادة دمج جبل العرب تماماً كما حصل في جرمانا وصحنايا من قبل.
في الأخير، باختصار وتركيز، يبدو الاتفاق بمستوييه مهماً جداً، وأهم بكثير مما يبدو عليه، لجهة كسر خطط ومشاريع الانفصال والحماية الأجنبية، وفرض الدولة سيطرتها على كامل الجبل وطرقه الرئيسية، والقيام بمسؤولياتها وواجباتها تجاه مواطنيها كافة، ولا يقل عن ذلك أهمية كفّ يد إسرائيل عن التدخل الفظّ والعدواني والدموي في سيرورة نهوض سوريا الجديدة، بمواكبة جدية من جيرانها الطيبين وحلفائها المخلصين.
- تلفزيون سوريا