تمر في بعض الأحيان بعض الأخبار دون لفت الانتباه، لكنها تحمل من الدلالة الرمزية ومن الثقل الجيوسياسي ما يجعلها تمهيدا لمنعطف تاريخي حقيقي، ويتعلق الأمر بخبر احتمال انضمام مصر إلى المشروع التركي مقاتلة «قآن» التي بدأت تصبح بمثابة المقاتلة الإسلامية. في هذا الصدد، اعتاد الباحثون والسياسيون وحتى ناشطو شبكات التواصل الاجتماعي رؤية تركيا، ومعالجة مواقفها انطلاقا من منطلقات أيديولوجية وتاريخية، وتجسيد هذا البلد في شخصية الرئيس طيب رجب أردوغان.
وهكذا، يرى فريق من الإسلاميين (الاسم السياسي) في أردوغان زعيما إسلاميا، وتهاجمه بشدة التيارات الليبرالية وبعض التيارات اليسارية، ويتعرض لأبشع النعوت من طرف بعض الحركات الإثنية في العالم العربي، خاصة التي ترى في تركيا مجرد دولة استعمارية، بسبب تاريخها العثماني. ووسط كل هذا، يغيب معطى رئيسي يتجاوز طيب رجب أردوغان، ومن سبقه ومن سيخلفه، سواء كان ينتمي إلى التيار الإسلامي أو التيار العلماني، وهو أن تركيا تشيد مشروعا حقيقيا نحو اكتفاء ذاتي في مختلف المجالات، وسيلتزم بهذا المشروع الرئيس المتشبع بالطرح الإسلامي، والرئيس المتشبع بالطرح العلماني، لأن الأمر يتعلق بمشروع وطني يقوم على ضرورة استعادة أمجاد الماضي، والتمركز ضمن الكبار في المستقبل. وعلى الرغم من اختلاف السياق، يمكن مقارنة هذا مع ما يحدث في الغرب، حيث يلتزم الرئيس، سواء كان يساريا، أم يمينيا بالمشروع الوطني الذي يتجاوز المذاهب السياسية.
غالبية السلاح العربي أمريكي، ولا سيادة للدول العربية على السلاح الذي تقتنيه من أمريكا خاصة المقاتلات، وليس لها حق التصرف في طائراتها إلا بترخيص من البنتاغون
اللافت في المشروع التركي هو النهضة الصناعية العسكرية، حيث تحولت تركيا خلال العقدين الأخيرين إلى دولة تصنع أسلحة نوعية، على رأسها الطائرات المسيرة، التي تتبوأ الريادة العالمية وأنظمة الاتصال المشفرة والمدرعات، والآن فرقاطات، حيث دخلت نادي الدول الكبار، لاسيما بعدما قررت إندونيسيا، خلال الأسبوعين الماضيين شراء فرقاطتين من صنع تركي، وهي سابقة. وسيكون جوهرة هذا المشروع الصناعي الحربي هو تطوير تركيا مقاتلة من الجيل الخامس تحمل اسم «قآن». وإذا نجحت في مشروعها فستكون ضمن نادي النخبة في العالم الذي يصنع مقاتلات، والذي لا يتعدى ست دول وهي الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا والسويد وبريطانيا، ومشاريع مشتركة بين عدد من الدول مثل مشروع «يوروفايتر» بمشاركة إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا.
لا شك في أن تركيا ماضية خلال السنوات المقبلة نحو تحقيق إنجاز استراتيجي يتمثل في إنتاج المقاتلة المذكورة، غير أن المنعطف الأهم لا يكمن في تصنيعها فحسب، بل في نجاح أنقرة في إقناع دول إقليمية ودولية بالمساهمة في هذا المشروع، سواء من خلال التعهد بشراء المقاتلات، كما تنوي المملكة العربية السعودية والإمارات، أو عبر الانخراط المباشر في عملية التصنيع. وفي هذا السياق، عقدت إندونيسيا الشهر الماضي اتفاقا مع أنقرة يضمن مشاركتها المباشرة في تطوير المقاتلة، وها هي مصر، وفق Tactical Report، تنوي المشاركة في هذا المشروع الطموح. وتدرس دول منها باكستان وأذربيجان وماليزيا ودول خليجية أخرى مثل، قطر والكويت الانضمام إلى المشروع، والتعهد بشراء المقاتلة والتمويل الجزئي، بل حتى إن دولة غير إسلامية وهي أوكرانيا تبدي رغبتها في المشاركة في المشروع عبر تطوير محرك المقاتلة.
ومشروع «قآن» يشبه مشروع مقاتلة «يوروفايتر» بمشاركة عدد من الدول الأوروبية، لماذا يعتبر هذا المشروع منعطفا تاريخيا؟ لأنه ببساطة خطوة رئيسية نحو السيادة في صناعة السلاح، التي تعني السيادة الوطنية الحقيقية، بحكم أن جزءاً مهماً من العلاقات الدولية والقرارات في هذا الشأن، رهين بنوعية السلاح الذي تمتلكه الشعوب. وهذا سيجرنا إلى موضوع مهم مثل الدعم العسكري لقضية فلسطين، لماذا كانت الدول العربية في الماضي تخوض حروبا ضد الكيان من أجل فلسطين، والآن تراجعت. في الماضي، كان السلاح غالبيته من الاتحاد السوفييتي، ولم يكن يعتمد على الشيفرة الإلكترونية للتحكم فيه، بينما الآن غالبية السلاح العربي هو أمريكي، ولا سيادة للدول العربية على السلاح الذي تقتنيه من الولايات المتحدة خاصة المقاتلات. لا يمكن لسلاح الجو الأردني المكون من مقاتلات أف 16 الأمريكية، وكذلك المصري التحرك ضد إسرائيل، لأن الشيفرة الخاصة بتحريك هذه المقاتلات يوجد في يد البنتاغون. ورغم توفر مصر على أكثر من 150 طائرة أف 16، إلا أنها لم تستطع تحريك أي واحدة منها كردع ضد إثيوبيا، خلال بناء سد النهضة، وهذا ما يفسر لماذا اقتنت الرافال الفرنسية من دون فرض شروط الاستخدام، وفكرت في مقاتلات روسية وتدرس في سرية الانضمام لا محالة للمشروع التركي. وخلال الثلاثة أشهر الماضية، تابع المهتمون كيف أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال الجدل حول الإنفاق العسكري لأعضاء الحلف الأطلسي، حذّر الدول الغربية، ومنها ألمانيا أن البنتاغون قادر على تطبيق kill switch وهو زر الإطفاء أو التوقف، أي منع الطائرة من الطيران. وعليه، لا تمتلك أي دولة عربية لها مقاتلات أمريكية حق التصرف في طائراتها إلا بترخيص من البنتاغون، وهي حقيقة مرة تغيب عن الرأي العام العربي. ولنستعد تصريحات رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، الذي قال منذ سنوات، إن الولايات المتحدة قامت ببيع ماليزيا طائرات مقاتلة من طراز F-16 لكنها تفتقر إلى القدرات الهجومية الكاملة، إذ لم تمنح الولايات المتحدة لماليزيا الشيفرات البرمجية، أو نصف إمكانيات التحكم، ما جعل هذه الطائرات مناسبة فقط للعروض الجوية، وليس للعمليات العسكرية القتالية.
وهكذا، بينما تجري أحداث، يبقى ما وراء الستار هو قلق الغرب من التقدم العسكري الذي تحققه دول مثل إيران وتركيا وباكستان، والخوف من الاكتفاء الذاتي عسكريا لهذه الدول وأخرى في الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي برمته. عرقلة الغرب للتطور العسكري التركي والباكستاني وهدف الغرب بفرض قوانين تحد من تطوير إيران لترسانتها العسكرية، يدخل في هذا الصدد. لهذا، لا تتفاجؤوا غدا إذا فرض الغرب على تركيا عقوبات بسبب تطويرها الأسلحة وسيعتبر أن صفقاتها مع بعض الدول تهدد الاستقرار الدولي والإقليمي في بعض المناطق، وهي تهمة وجهتها لها فرنسا بسبب بيعها مسيرات لدول الساحل.
في غضون ذلك، وبغض النظر عن التسمية، يعتبر المشروع التركي «قآن» بمثابة المقاتلة الإسلامية طالما أن الغرب يصر على التعاطي في أدبياته العسكرية والاستخباراتية على مفهوم العالم الإسلامي، ورؤية هذه المنطقة الجغرافية والبشرية بمنظار ديني.
كاتب مغربي
- القدس العربي