تُعدّ سوريا والمنطقة المجاورة لها من أكثر المناطق تداخلاً في القوميات والأديان والمذاهب والمكوّنات والهجرات، في ثراء وتنوع لا مثيل له، وهي على هذا الحال منذ قرون طويلة، وعاشت بسلام وأمان خلال تلك القرون. ولكن مع بدايات القرن العشرين، أبت القوى الغربية إلا أن تُحرّك المنطقة وتثير الانقسامات فيها، من أجل رسم خرائط جديدة قسّمت وفرّقت المجتمعات.
ولم تكتفِ بذلك، بل عملت على تعزيز هذه الانقسامات في الدول، من أجل استغلال المكوّنات فيها للتدخل وفرض سياسات معيّنة، وتعزيز الانقسام، وتقسيم المقسَّم، لتبقى منطقة ضعيفة تعيش في الصراعات ولا تقوم لها قائمة بعد الآن.
وتعيش بعض الدول متغلّبة على هذه الانقسامات، وفق مبادئ دولة القانون والحقوق والحريات القائمة على الاحترام المتبادل وحق الحياة المتساوي، والحقوق الثقافية، وقد وصلت إلى هذا المستوى أيضاً بعد صراعات لعقود طويلة، مثل تركيا التي يتساوى فيها حالياً جميع المواطنين أمام الدولة دون تمييز في المكوّنات والأعراق. في حين تعيش دول أخرى على وقع أزمات الانقسام هذه وتعزيزها بالتدخلات الخارجية، مما يدخل مؤسسات الدولة في جمود وعجز، تماماً كما يحصل في لبنان التي تعاني التدخلات بسبب الانقسامات الحاصلة فيه.
وينطبق التنوع والثراء على سوريا أيضاً، حيث تضم مكوّنات عديدة من مختلف الأعراق والأديان والمذاهب، وكانت تعيش بسلام قبل عقود، قبيل تدخلات الدول الأخرى، وسيطرة حزب البعث والنظام السابق، الذي عزّز التفرقة بين المكوّنات وقمع الحريات، واعتمد على فئات معيّنة مستبعداً عموم الشعب، ليعاني الجميع قبيل تحقيق النصر في ثورة مباركة شعبية شملت عموم سوريا، وانتهت بنجاح جميع السوريين داخل البلاد وخارجها.
المكوّنات في سوريا وفي الدول المتحضرة هي غنى للبلد، وعلى الصعيد الاجتماعي يمكنها أن تعبّر عن نفسها في ظل ممارسات مدنية بعيدة عن التجاذبات والتطرّف والاستبعاد والاستعداء.
ومع هذا النجاح الكبير والانتصار، الذي لم يرق لبعض الأطراف، ومنها فلول النظام والدول الداعمة له، وحيث إن اقتلاع المنظومة السابقة بحاجة إلى وقت، فإن الدول الأخرى ترى في بعض مكوّنات سوريا مدخلاً للتدخل في وحدة البلاد وأوضاعها الاجتماعية، وتحوّل بعض أفراد هذه المكوّنات إلى أدوات تحريضية تستغل الإعلام ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز الانشقاق والاختلاف بين السوريين. وما يجري في السويداء وشمال شرقي سوريا، والدعوات التي تصدر من البعض في الساحل السوري من بقايا النظام، كلها تأتي في سياق إضعاف سوريا وتقسيمها، تنفيذاً لمطالب غربية ليس إلا، دون أن تكون آمالاً عامة، حيث إن عموم السوريين باتوا يدركون في السنوات السابقة أهداف الدول الغربية عموماً، وإسرائيل وإيران بشكل خاص، للتدخل في سوريا والنيل منها لتحقيق أطماع معيّنة.
ولكن الناظر بعقلانية ومنطقية، ومن يرغب بأن تكون سوريا دستورية متساوية الحقوق للأفراد، ضامنة للحريات والتعبير، يدرك أن التنوع هو ثراء اجتماعي قادر على أن يلعب دوراً مهماً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، والتكاتف والتعاضد في المخاطر والكوارث، وتقديم الدعم المتبادل، والاحترام الدائم، حيث لا يمكن لأحد أن يُلغي الطرف الآخر مهما كانت طائفته أو دينه أو عرقه.
المكوّنات في سوريا وفي الدول المتحضرة هي غنى للبلد، وعلى الصعيد الاجتماعي يمكنها أن تعبّر عن نفسها في ظل ممارسات مدنية بعيدة عن التجاذبات والتطرّف والاستبعاد والاستعداء، من خلال الجمعيات والأوقاف ومنظمات المجتمع المدني. وتتيح هذه المؤسسات فرصاً كبيرة جداً من أجل العمل الخيري والإعلامي والثقافي والتعليمي، وهو ما يوفر مساحة كبيرة ومهمة للمكوّنات والأقليات والمذاهب والأديان لممارسة ما ترغب في ظل حماية الدستور والقانون، وهو ما يُفنّد أي مبررات للجوء إلى ابتزازات ومساومات وارتهان لدول خارجية تستخدمها كأدوات فقط للنيل من وحدة البلاد.
وعبر منظمات المجتمع المدني يمكن التواصل مع المكوّنات الأخرى من التركمان والأكراد وغيرهم، ويمكن ممارسة حرية العبادة لغير المسلمين ومن بقية المذاهب، ويمكن تعلم اللغات، وإقامة المهرجانات والنشاطات الثقافية والاجتماعية، وجمع التبرعات ودعم الأطراف الأخرى. إذ إن منظمات المجتمع المدني فرصة كبيرة جداً لكل راغب بعمل منظم، وتتيح المجال للجميع دون استثناء لأداء نشاطات مجتمعية مختلفة تحفظ الخصوصية ضمن وحدة البلاد، ضمن وحدة متكاملة قائمة على الاحترام والتقبّل وعدم رفض ونفي الآخر، وإلا فالنتيجة ستكون تقسيم المقسَّم، وإضعاف الضعيف، ومزيداً من التدخل وربما مزيداً من الآلام للجميع.
ومن القضايا التي تُعد ثراء لدى المكوّنات، إمكانيتها عبر تأسيس الأحزاب والقوائم السياسية التأثير في مستقبل البلاد وتحقيق التوازنات السياسية والتأثير في حسابات الانتخابات، تماماً كما يجري في الدول الديمقراطية، حيث إن التنوع الموجود والدخول في كنف الدولة وتحقيق التحالفات مع الأحزاب الأخرى يوفر فرصاً كبيرة للدخول في تحالف الحكم، وتشكيل تكتلات سياسية وازنة لها كلمتها في البلاد. إذ نرى في بعض الدول كيف تشكل أحزاب الأقليات أو مكوّنات معيّنة محسوبة على اليمين أو اليسار، وكيف تستطيع بناء حكومات أو إسقاطها، بل إن في بعض الدول قد تكون حاسمة جداً، ففي ألمانيا لا يستطيع حزب تحقيق الأغلبية، فتحتاج الأحزاب للتحالف مع بعضها البعض، وكذا الأمر في تركيا ودول عديدة في المنطقة.
هذا نداء لجميع المتوترين الذين يعدّون أنفسهم مفكرين لدى المكوّنات والأقليات وحتى من العموم، للهدوء والدعوة للوحدة السورية، للوصول إلى استكمال المرحلة الانتقالية، وتحقيق الأهداف التي طالب بها السوريون على مدى 14 عاماً.
هذا الدور السياسي المهم، إضافة إلى الدور المجتمعي، قادر على تقديم الحقوق والمطالب بشكل ديمقراطي دون اللجوء لأساليب الابتزاز والاحتماء بالقوى الخارجية، وهو ما يتطلب من المكوّنات تحويل كونها أقلية إلى قوة كبيرة تستطيع فرض نفسها في البلاد عبر العمل الاجتماعي والسياسي، وتحقيق مطالبها، وأن تكون شريكة في الحكم أو شريكة في المعارضة التي قد تصل لاحقاً للحكم، المهم أن لديها مساحة لتعبّر عن نفسها بمجرد الدخول في العمل المنظم الصحيح.
كما أن هذه المكوّنات تشكّل هدفاً سياسياً للأحزاب الكبرى أو التي لديها أغلبية. وعلى سبيل المثال في تركيا، تشكل المجموعات مثل الشركس أو الغجر أو أبناء الشعب من أصول بلقانية أو مناطق مختلفة، هدفاً للأحزاب السياسية لكسب أصواتها في الانتخابات. وهنا تكون الحنكة في معرفة بناء التحالفات والتوازنات وتبادل الأدوار بما يحقق المصالح، ضمن أطر الديمقراطية والعمل المنظم.
ومن المهم في هذه المرحلة عمل جميع السوريين على هذه المبادئ، وأن يتم الوصول إلى دستور حامٍ لحقوق السوريين ومساوٍ بينهم، ويمكنهم من ممارسة الحرية والديمقراطية وحرية التعبير والمعتقد والثقافة، وممارسة العمل السياسي والاجتماعي ضمن منظمات المجتمع المدني والأحزاب. ولا خلاص للسوريين إلا في تحقيق ذلك ضمن دولة موحدة، تجعل من كل فرد له مكانة، ولكل صوت قيمة، ولكل رأي أهمية، وإلا فإن الآلام ستتواصل، وتتعزز الفرقة ويزداد الشرخ، وهو أمر لا يرغب به عموم السوريين. وهذا نداء لجميع المتوترين الذين يعدّون أنفسهم مفكرين لدى المكوّنات والأقليات وحتى من العموم، للهدوء والدعوة للوحدة السورية، للوصول إلى استكمال المرحلة الانتقالية، وتحقيق الأهداف التي طالب بها السوريون على مدى 14 عاماً، ووصلوا إليها بعد تضحيات كبيرة، واستغلال هذه الفرصة والنافذة التاريخية المفتوحة لكل السوريين.
- تلفزيون سوريا