أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا يوم السبت 18 من تشرين الأول الجاري وثيقة بعنوان “وثيقة العيش المشترك في سوريا”، تتضمّن رؤية الجماعة لنواظم الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد.
وتستقي الوثيقة مشروعية صدورها من حالة التصدّع والتشظّي التي باتت تهدّد أسس العيش المشترك في سوريا، وذلك بفعل الحكم المديد للدكتاتورية التي حكمت البلاد قرابة ستين عامًا. بل إن الخشية من حالة الانهيار المجتمعي باتت تجسّد التحدّي الأكبر أمام العقلاء والنخب المجتمعية، وفقًا للوثيقة التي أشارت إلى أن من أبرز تداعيات هذا التصدّع هو ظهور خطاب يعزّز الانقسام المجتمعي ويترك آثارًا سلبية على سائر الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
حرصت الوثيقة في فقرة مكثّفة على أن توجز تصورًا تحرص جماعة الإخوان المسلمين على تصديره، من خلال التأكيد على أن سوريا دولة ديمقراطية قائمة على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة
وانطلاقًا من الشعور بالمسؤولية في مواجهة تحدّي الانقسامات المجتمعية، تتوجه الوثيقة إلى السوريين جميعًا بمجموعة من الأسس التي تعتقد أنها تجسّد حوامل مناسبة وضرورية لتجاوز الأزمة الراهنة، ولعل أبرز هذه الأسس:
-
الأسس الشرعية: وتتضمّن التأكيد على وحدة الأصل الإنساني التي توجب الإقرار بتساوي جميع البشر من حيث الحقوق والواجبات، ذلك أن اختلاف الناس في أعراقهم وأديانهم لا ينبغي أن يحول دون التعارف، وأن التقوى هي المرجعية الأصل للكرامة الإنسانية، وفقًا لما جاء في الوثيقة.
-
العيش المشترك: الذي يقوم على جملة من الأمور أهمّها احترام الآخر والاعتراف به والتعامل معه، انطلاقًا من أن الاختلاف بين البشر سنّة كونية، وبالتالي يصبح التعامل مع الآخر المختلف وفقًا لمعايير إنسانية تحفظ الكرامة والحقوق للجميع، بحسب الوثيقة.
-
العدالة: وهي أهمّ القيم الإنسانية على الإطلاق، والتي لا يمكن حصر تجلياتها في مكوّن محدّد، بل هي ذات صفة عامة وشمولية.
-
التعاون: ويعني العمل مع الآخر من أجل المصالح المشتركة، ولو أن هذا الآخر كان من المختلفين، ذلك أن التنوع الثقافي والديني لا يبرر الصراع والصدام، بل ينبغي أن يدفع إلى إقامة شراكة وتواصل وتعارف يجعل من التنوّع جسراً نحو مصالح المجتمع، وفقًا لما تضمنته الوثيقة.
إلى ذلك، لم تغفل الوثيقة الدور المناط بالدولة فيما يخص مسألة التعايش المجتمعي، إذ يتوجب على الدولة في هذه الحال تأمين الإطار القانوني لتوفير الأمن وحماية الحقوق والحريات وحماية قيم العدالة، فضلًا عن دعم سياسات المواطنة وضبط التجاوزات على القيم الإنسانية. كما أشارت الوثيقة إلى ضرورة مشاركة منظمات المجتمع المدني في إرساء مفهوم التعايش، من خلال المساهمة في بناء الهوية الوطنية، ومبادرات اجتماعية وثقافية وفنية أخرى.
كما حرصت الوثيقة في فقرة مكثّفة على أن توجز تصورًا تحرص جماعة الإخوان المسلمين على تصديره، من خلال التأكيد على أن سوريا دولة ديمقراطية قائمة على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وضامنة لحرية الاعتقاد وتجريم خطاب الكراهية، وتكفل حق تشكيل الأحزاب السياسية وحق المواطن في المشاركة السياسية.
وبعيدًا عن تقييم ما تضمنته الوثيقة، فإن صدورها في هذا التوقيت يحيل إلى أكثر من تساؤل. يفصح أولها عن رغبة الإخوان المسلمين في تقديم رؤية متكاملة للحكومة الحالية، تكون بمنزلة خارطة طريق للمرحلة الانتقالية. أمّا السؤال الثاني والأهمّ، فيُضمر رغبة الجماعة في الردّ غير المباشر على الدعوة التي طالبت جماعة الإخوان المسلمين بحلّ نفسها، تلك الدعوة التي تضمنتها مقالة السيد أحمد موفق زيدان، المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية، والتي نُشرت على موقع الجزيرة نت بتاريخ 25 آب 2025.
ليس بمقدور الإخوان المسلمين تجاهل السؤال الداهم للأذهان على الدوام: لماذا يُتاح للأحزاب ذوات المرجعيات التقليدية الأخرى (ماركسية – قومية) استمرار العمل والنشاط، في حين تُحرَم جماعة الإخوان من هذا الحق.
وتكمن حساسية تلك المقالة في كونها نُشرت بعد أيام قليلة من تعيين السيد زيدان مستشارًا إعلاميًا، الأمر الذي جعل كثيرين يعتقدون أن دعوة المستشار تحمل في طياتها موقفًا للسلطة الجديدة من جماعة الإخوان المسلمين، وأن هذا الموقف ربما حمل رسالة اطمئنان واسترضاء في آنٍ معًا لجهات دولية وإقليمية لا تبدي قبولها لأي نشاط مستقبلي للجماعة. وثمة من رأى في دعوة المستشار موقفًا واضحًا للسلطة الحالية يقضي بعدم قبول جماعة الإخوان المسلمين كطرف فاعل في السياسة السورية، بسبب المرجعية المشتركة بين الإخوان وهيئة تحرير الشام، إذ على الرغم من الخلافات الكثيرة بين الجانبين – من الناحية الفكرية والسياسية – إلا أن وحدة الإطار العام للمرجعية الإسلامية تعني أن ثمة من ينافس أو يزاحم السلطة على أرضية أيديولوجية واحدة، وهذا ما لا تريده السلطة.
على أية حال، وسواء أكانت دعوة السيد أحمد زيدان شخصية أو أنها تعبّر عن توجه حكومي مستقبلي، فإنها أثارت المزيد من الريبة، ولم تلقَ إلا زيادة من الحذر والشك لدى شرائح واسعة من السوريين، إذ رأى فيها كثيرون أنها لا تُضمر موقفًا حيال جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل تجسّد إرهاصًا أوليًا عن موقف الحكومة الحالية من العمل الحزبي في سوريا الجديدة.
فضلًا عن أن الدعوة إلى حل جماعة الإخوان المسلمين تعني استهدافًا لكيان سياسي يرى ذاته من أكثر الكيانات السياسية عراقةً ومشروعيةً في سوريا، فضلًا عن إرث حافل بالمواجهات مع نظام الأسد أفضت إلى تضحيات هائلة منذ أواخر السبعينيات في القرن الماضي. إذ ليس بمقدور الإخوان المسلمين تجاهل السؤال الداهم للأذهان على الدوام: لماذا يُتاح للأحزاب ذوات المرجعيات التقليدية الأخرى (ماركسية – قومية) استمرار العمل والنشاط، في حين تُحرَم جماعة الإخوان من هذا الحق، علمًا أنها تؤكّد على الدوام التزامها بمبدأ رفض العنف والتداول السلمي للسلطة، والالتزام بآليات العملية الديمقراطية كالانتخابات النزيهة، وحق تمثيل المرأة، واحترام الدستور؟
ما هو راجح أن دعوة المستشار الرئاسي أحمد زيدان إلى حل جماعة الإخوان المسلمين تبقى غائمة، ولا يمكن الجزم في كونها دعوة شخصية من صاحبها أم أنها جاءت متماهية مع توجه حكومي لم يتم الإفصاح عنه بعد. وبناءً على ذلك، يمكن النظر إلى “وثيقة العيش المشترك” باعتبارها ردًّا صريحًا على ما جاء في مقالة زيدان، ولكن بطريقة أكثر عمومية ووضوحًا في آنٍ معًا.
- تلفزيون سوريا



























