من أخطر المصطلحات التي لوّثت الخطاب السياسي والإعلامي السوري خلال العقود الماضية مصطلح الأقليات والأكثريات الذي سمّم عقول السوريين وخرّب وعيهم الوطني. هذا التصنيف لم يكن بريئاً يوماً، بل كان سلاحاً سياسياً في يد الأنظمة المتعاقبة، يستخدم لتقسيم السوريين وإضعاف روح المواطنة الجامعة بينهم، وتحويلهم إلى جماعات متناحرة بدل أن يكونوا شعباً واحداً متساوي الحقوق والواجبات.
المشكلة لم تكن يوماً في وجود تنوّع ديني أو مذهبي أو قومي داخل المجتمع السوري – فهذا التنوع في الأصل ثروة حضارية وإنسانية. المشكلة الحقيقية هي في الوعي المشوَّه الذي حوّل التنوع إلى تهديد، والمواطنة إلى معركة هوية.
هذه اللغة الطائفية المقيتة التي استُخدمت لعقود لتقسيم الناس وتثبيت حكم الطغاة يجب أن تختفي إلى الأبد. من الذي اخترع هذه المصطلحات أصلاً؟ من الذي أراد أن يرى السوريين جماعات مذهبية وقومية بدل أن يراهم مواطنين في وطن واحد؟
النظام الذي حكم سوريا نصف قرن بنظام الخوف هو من غذّى هذه الفكرة حتى النخاع. جعل الأقليات تخشى الأكثرية، وجعل الأكثرية تحذر من الأقليات، فنجح في تحويل الشعب إلى قبائل متوجسة، كل منها تحتمي بطائفتها لا بوطنها. وهكذا حكمهم جميعاً مستمتعاً بفرقتهم.
في الحقيقة، لا توجد في سوريا «أقليات» ولا «أكثريات». توجد عقول مريضة تفرّق بين الناس، وتُصنّف المواطنين حسب طائفتهم، وكأنّ الانتماء الديني صار بطاقة هوية سياسية. أي انحطاط هذا؟
سوريا لم تعرف عبر تاريخها الطويل مذابح دينية أو صراعات مذهبية. لقد عاش المسلم والمسيحي والدرزي والإسماعيلي والعلوي والكردي والآشوري والتركماني في نسيج واحد، وكانت العلاقات الطبيعية هي القاعدة، والصراع هو الاستثناء. ولم يتغير الوضع إلا في العقود الأخيرة، يوم دخلت السلطة نفسها على خطّ الطوائف، وحين جاء النظام البعثي الأسدي الطائفي الذي استغل الأقليات سياسياً، فصار الجميع سجناء لعبة السلطة، وأقام حكمه على معادلة الخوف والتقسيم: إخافة الأقليات من الأكثرية، وتخويف الأكثرية من الأقليات، مما أدى إلى نتائج وخيمة بالآونة الأخيرة في الساحل والسويداء، حيث وقعت مجازر رهيبة بدوافع طائفية، فاهتزت وحدة البلاد الاجتماعية والسياسية. لقد زرع نظام البعث بين السوريين الفتن ليحكم باسم «التوازن». كأنّ الوطن صار «غنيمة» تُوزع بين الطوائف، لا وطناً يضمّهم جميعاً.
إن تجاوز مصطلحي «الأقليات» و«الأكثريات» لا يكون بالشعارات، بل بإعادة بناء دولة المواطنة
في المجتمعات الحديثة، لا وجود لهذه المفاهيم البالية. المواطن هناك يُعرَّف أولاً بصفته القانونية، لا بانتمائه الديني أو العرقي. في فرنسا أو بريطانيا أو كندا، يعيش الناس على اختلاف أصولهم وثقافاتهم تحت سقف واحد اسمه «الدولة والقانون»، ويُعامل الجميع على قدم المساواة. لا أحد يسأل جاره عن دينه أو طائفته أو عشيرته. الدولة هناك لا تحكم باسم طائفة، ولا تعيّن موظفيها بناء على الانتماء، ولا تمنح الولاءات على أساس المذهب. أما نحن، فقد حوّلنا الطائفة إلى بطاقة اعتماد، والهوية إلى سلاح.
الديمقراطية — لمن لا يفهمها — لا تقوم على «مراعاة الأقليات» كما يتوهم البعض، بل على حكم الأغلبية السياسية وفق القانون. في أي دولة طبيعية، من يحكم هو من يفوز في الانتخابات، حتى لو بنسبة واحد بالمئة، وعلى الخاسر أن يحترم النتيجة. أما عندنا، فبعض «الأقليات» السياسية أو الطائفية تتحدث وكأنها فوق الصندوق وفوق الشعب، وكأن الأغلبية يجب أن تسير حسب مزاجها!
بالمقابل فإن النظام الديمقراطي الحقيقي لا يحتاج إلى وصاية على الأقليات، لأنه بطبيعته يحمي حقوقهم عبر الدستور والمؤسسات والقانون. لكنه أيضاً يقوم على مبدأ بديهي هو أن حكم الأكثرية هو جوهر الديمقراطية.
تخيّلوا لو أن الأقليات العربية أو الإسلامية في بريطانيا قررت أن تستفز الأكثرية الأنغليكانية أو تهاجم ثقافتها ومعتقداتها، أو العكس. هل سيقبل النظام البريطاني ذلك؟ قطعاً لا، ولكان الردّ حازماً وقاسياً جداً في الاتجاهين. الديمقراطية لا تعني الفوضى، ولا تعني أن تتطاول الأقليات على الأغلبية باسم الحرية، وعليها أن تعرف أن التعايش يقوم على احترام القوانين، لا على تحدي الأغلبية أو استفزازها في معتقداتها وثقافتها وتوجهاتها. والعكس صحيح.
المشكلة أن بعض القوى الطائفية في سوريا — سواء من الأقليات أو حتى من المتطرفين في الأكثرية — لا تريد دولة مواطنة. تريد دولة محاصصة، دولة حصص ومقاعد، دولة امتيازات طائفية باسم «الحقوق التاريخية» أو «المظلومية القديمة». لكن المظلومية لا تعطي أحداً حقاً في إذلال الآخرين، تماماً كما أن الأكثرية لا تملك حق الاستعلاء أو الإقصاء أو تهميش الآخرين.
القاعدة الطبيعية في الحياة السياسية واضحة منذ قرون: من يحكم هو من يملك الأغلبية السياسية، ومن يشارك هو من يحترم القوانين، ومن يعيش بكرامة هو من يقبل التعايش دون استقواء.
إن تجاوز مصطلحي «الأقليات» و«الأكثريات» لا يكون بالشعارات، بل بإعادة بناء دولة المواطنة، حيث لا يُسأل المواطن: من أي طائفة أنت؟ بل يُسأل: ماذا قدّمت لوطنك؟ وما واجباتك تجاهه؟ لكن في المقابل، على كل مكوّن أن يعرف حدوده ضمن الإطار الوطني العام. فالمواطنة لا تعني محو الهوية الخاصة، لكنها أيضاً لا تبرر التعدي أو الاستفزاز أو التمرد على إرادة الأغلبية الوطنية. كما أن على الأغلبية نفسها أن تحافظ على حقوق الجميع وأن تحمي تنوعهم، لا أن تتعامل معه بتعال أو استئثار.
آن الأوان لدفن هذه الثقافة النتنة. كفانا حديثاً عن «أقليات» و«أكثريات». هذه لغة القرون الوسطى، لا لغة القرن الحادي والعشرين. نريد أن نسمع عن مواطنين، لا عن طوائف. عن دولة قانون، لا عن «توازن طائفي». عن شعب واحد، لا عن «مكونات».
في النهاية، رحم الله امرأً عرف حده فوقف عنده. من هنا يبدأ التوازن الوطني الحقيقي: عندما يدرك الجميع أن الوطن لا يُدار بالمزايدات الطائفية ولا بالاستفزازات الهويّاتية، بل بالاحترام المتبادل، وبإيمان صادق أن لا أحد يمكن أن يعيش حراً على حساب إذلال أو تهميش الآخر. عندما تصبح أي دولة في العالم لكل مواطنيها تختفي كل الأمراض الطائفية والدينية والعرقية أوتوماتيكياً.
كاتب واعلامي سوري
- القدس العربي


























