دمشق – «القدس العربي»: شهدت الأسواق السورية، أمس الخميس، تحسناً في قيمة العملة المحلية، على خلفية الأجواء الإيجابية التي تركتها زيارة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى السعودية.
ووصلت قيمة الدولار الأمريكي الواحد إلى أكثر من 12 ألف ليرة سورية للمرة الأولى منذ سبعة أشهر، أول أمس الأربعاء.
وأوضح مختصون ورجال أعمال لـ «القدس العربي» أن الليرة سجلت خسائرها خلال الأيام الماضية بسبب استمرار انخفاض الاحتياطات النقدية الأجنبية في المصرف المركزي، وعدم المباشرة بتنفيذ أي من العقود المليارية الموقعة أخيراً، مع بقاء جانب مهم من العقوبات وسط بيئة غير آمنة للتجارة والاستثمار أضعف القوة الشرائية، ما دفع الكثير لاستبدال مدخراته بالدولار كملاذ آمن، وخصوصا مع اقتراب موعد استبدال العملية الحالية بأخرى جديدة نهاية العام الجاري.
تحويلات مباشرة
وأنهى الشرع زيارة استمرت يومين إلى السعودية شارك خلالها في فعاليات «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض.
وأكد في جلسة خاصة ضمن فعاليات المؤتمر بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أنه راهن على شعبه في بناء سوريا الجديدة، مشدداً على أن الدعم السعودي كان مفتاح بلاده للاستثمار والانفتاح على العالم، وذلك بفضل جهود جبارة قادها ولي العهد محمد بن سلمان، مشيراً إلى أن تلك الجهود أسفرت عن جذب استثمارات تجاوز حجمها 28 مليار دولار خلال 6 أشهر فقط، مؤكداً عزمه، بدعم من شعبه، على إعادة إعمار سوريا لتصبح نموذجاً للتعاون بسرعة تمكن بلاده من الاندماج في العالم.
وفي تغريدة له، قال حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية إن الجهود المشتركة بين وزارة الاستثمار والبنك المركزي السعودي ومصرف سوريا المركزي أسفرت عن تقدّم ملموس في مشروع تفعيل التحويلات المصرفية المباشرة بين البلدين، بما يسهم في تسهيل حركة رؤوس الأموال ودعم الأنشطة التجارية والاستثمارية، ويُعزّز الثقة في النظام المالي السوري.
وتابع: نُثمّن هذا التعاون الأخوي الصادق، ونتطلّع إلى مزيد من الشراكات والمشروعات المشتركة التي تُسهم في تعزيز التكامل الاقتصادي والمالي بين الجمهورية العربية السورية والمملكة العربية السعودية، لما فيه خير ومصلحة الشعبين الشقيقين
واعتبر الأكاديمي والمستشار الاقتصادي زياد أيوب عربش في تصريح لـ «القدس العربي» أن تفعيل التحويلات المصرفية المباشرة مع السعودية يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الليرة والاقتصاد السوري.
واعتبر أن ذلك سيقلل من الاعتماد على السوق السوداء ويساعد على تعزيز الثقة في النظام المالي، وقد يحدّ من تدهور الليرة ويزيد من فرص النمو الاقتصادي من خلال تدفق الاستثمارات وتسهيل التجارة، لكنه يحتاج إلى وقت لتفعيل كامل وتأثير ملموس، كما يعتمد على استمرار العلاقات التجارية والسياسية المستقرة.
ووفق قوله، فإن زيارة الشرع إلى الرياض وحفاوة الاستقبال، مؤشر مهم على تحسن العلاقات الثنائية وإمكانية دخول سوريا في مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والسياسي.
وتوقع أن تفتح الزيارة فرصاً لتعزيز الاستثمارات السعودية في مختلف القطاعات السورية، ودعم المشاريع التنموية، وتحسين وصول سوريا إلى الأسواق الخليجية، ما يعزز من فرص تعافي الاقتصاد ويحدث توازناً إيجابياً في العلاقات الإقليمية، لكنه يتطلب جهوداً مستمرة لترجمة هذا الدعم السياسي إلى إجراءات اقتصادية ملموسة، مؤكداً أن الدعم السعودي يمكن أن يسهم في تخفيف الضغوط الخارجية على سوريا عبر تحفيز صادراتها وتحسين بيئة الأعمال.
علبي: صانعو القرار يواجهون تحديات في تنسيق السياسة النقدية والمالية
وتحدث عن أثر الزيارة على العملة المحلية، وقال إن تدهور الليرة خلال فترة الزيارة يظهر أن العوامل الاقتصادية الأساسية ما زالت تلقي بظلالها على الأسواق، وأن الدعم السعودي لم يظهر تأثيره الفوري، والأسواق تتفاعل بحذر مع الأخبار الإيجابية حتى تتحقق على أرض الواقع، إضافة إلى أن تراجع الليرة يعكس توقعات المستثمرين والمضاربين الذين يرون أن التحديات البنيوية والمالية تلقي بثقلها على العملة، وأن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على نتائج الزيارة التي قد تحتاج إلى تنفيذ خطوات عملية ملموسة لثبات سعر الصرف.
التعويم المدار
ومنذ تموز/ يوليو الماضي بدأت قيمة الليرة بالتدهور تدريجيا، فكان سعر صرف الدولار يساوي حينها نحو 10250 ليرة.
وفي آب/ أغسطس وصل سعر صرف الدولار إلى أكثر من 11 ألف ليرة، وحافظ على وضعه إلى تشرين الأول/ أكتوبر الجاري ثم عادت الليرة لتتعرض إلى مزيد من الخسائر حتى وصل سعر الصرف إلى أكثر من 12 الف ليرة للدولار قبل أن يسجل أمس تحسنا بسيطا بسعر 11900 ليرة.
عوامل متشابكة
وأعاد عربش تراجع قيمة الليرة السورية إلى عوامل متشابكة، منها تصاعد الضغوط الاقتصادية الداخلية بسبب استمرار انخفاض الاحتياطات النقدية الأجنبية في المصرف المركزي، إلى جانب ارتفاع الطلب على الدولار نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية المستمرة، كما أثرت زيادة التضخم وارتفاع تكاليف الإنتاج في القطاع المحلي على ثقة السوق، إضافة إلى تأثير العقوبات الدولية وتدهور الوضع الأمني الذي حدّ من التدفقات الاستثمارية الخارجية. عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، لؤي الأشقر، أرجع في تصريح لـ«القدس العربي» أسباب تدهور قيمة الليرة إلى ضعف الإنتاج المحلي وازدياد الاعتماد على الاستيراد، ما أدى إلى رفع الطلب على الدولار، إلى جانب شحّ القطع الأجنبي في السوق وعدم وجود مصادر ثابتة للعملة الصعبة مثل الصادرات أو التحويلات الخارجية.
واعتبر أن من الأسباب الأخرى عدم وضوح السياسات النقدية واستمرار التذبذب في الإجراءات الاقتصادية، والمضاربة في السوق السوداء وغياب الرقابة الفعالة.
أما الباحث الاقتصادي محمد علبي فرأى أن بين أسباب تدهور قيمة الليرة هو التوسّع النقدي دون نمو اقتصادي، حيث قام المصرف المركزي من خلال التعويم المُدار بضخ كميات من النقود مرحلياً لدعم الإنفاق العام ورفع الأجور، لكن دون أن يقابله نمو حقيقي في الإنتاج.
واعتبر في تصريحه لـ «القدس العربي» أن التوسع النقدي غير المدعوم بالإنتاج أدّى إلى فقدان الليرة جزءا من قيمتها أمام الدولار وتراجع سعر الصرف، بالإضافة إلى أسباب مُزمنة أخرى كالتضخم وانعدام الثقة، ومع تآكل قيمة المدّخرات، لجأ الكثيرون إلى استبدال الليرة بالدولار كملاذ آمن، الأمر الذي زاد الطلب على الدولار في السوق السوداء.
وحسب علبي، بسبب العقوبات تأخر وصول المنح من السعودية وقطر لتمويل احتياجاتٍ إنمائية (دفع أجور بعض العاملين والموظفين) عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ما أدى إلى أن الاقتصاد بقي يعاني من نقص في العملات الصعبة.
ورأى أن السياسات المالية المتضاربة لا تُسهّل كثيراً مهمة الاقتصاد السوري والليرة، فيواجه صانعو القرار تحديات في تنسيق السياسة النقدية والمالية خلال المرحلة الانتقالية، وأدى غياب التنسيق بين الجهات الرسمية إلى تفاقم أزمة سعر الصرف وتعمّقها، مشيراً إلى أن وجود حالة عدم يقين سياسي ومخاوف أمنية في بعض المناطق، تدفع الناس ورؤوس الأموال نحو العملات الأجنبية الآمنة بدل الثقة بالعملة المحلية.
استبدال العملة
واعتبر عربش أن القرار المتوقع لاستبدال العملة القديمة بأخرى جديدة مع نهاية العام خلق حالة من القلق وعدم اليقين في السوق، حيث بدأ التجار والمودعون بالاحتفاظ بالدولار أو العمل على تحويل أموالهم إلى العملات الأجنبية خوفاً من فقدان القيمة خلال عملية تغيير العملة، وزاد هذا السلوك الاستباقي من الطلب على الدولار وقلل من الطلب على الليرة، ما أدى إلى انخفاض قيمتها في السوق الموازية، بالإضافة إلى أن عدم وضوح تفاصيل آليات الاستبدال والقيود المحتملة ساهم في زيادة حالة الهلع المالي.
وتعليقا على أثر العملية السابقة على استقرار قيمة الليرة، قال علبي إن نجاح خطة تبديل العملة يعتمد على تزامنها مع سياسات مالية صارمة لكبح التضخم وضمان عدم تكرار انهيار القيمة، حتى ضمن الحكومة، ويعترف بعض المستشارين بأن مجرد تغيير شكل العملة خطوة شكلية ما لم تترافق مع إصلاحات حقيقية في بنية الاقتصاد وإجراءات لكبح عجز الموازنة وضبط الكتلة النقدية.
واعتبر أن القرار بحد ذاته لم يكن السبب الرئيس لانخفاض سعر الصرف مؤخراً، لكنه ساهم في زيادة الترقب والمضاربة في السوق، فغياب المعلومات التفصيلية حول آليات التنفيذ مثل سعر التحويل، والفترة الانتقالية، وكيفية ضبط السيولة أوجد بيئة خصبة للشائعات، ما أثّر سلباً على معنويات السوق وعلى قيمة الليرة في المدى القريب.
خطة متكاملة
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق لؤي الأشقر اعتبر أن فقدان الاستقرار في سعر الصرف يخلق بيئة غير آمنة للتجارة والاستثمار، ويجعل من التخطيط المالي مستحيلاً، ويؤدي لرفع أسعار المواد الأساسية، ما يضغط على المواطن ويُضعف القوة الشرائية. واعتبر الأشقر بصفته رجل أعمال، أن الحل لا يكمن فقط بإجراءات نقدية، بل بخطة اقتصادية متكاملة تبدأ بإعادة تنشيط الإنتاج المحلي، وتشجيع التصدير، وتحسين بيئة الأعمال لجذب رؤوس الأموال، مع دور واضح وشفاف للسياسات النقدية والمالية.
- القدس العربي


























