ملخص
دعا المستشار للرئيس السوري أحمد الشرع الإعلامي أحمد موفق زيدان جماعة “الإخوان المسلمين” إلى حل نفسها، وكان يمكن فهم مزاج السلطة من دعوة المستشار، فسلطة دمشق لا تعتبرهم شركاء بـ”النصر”، بل قد تراهم جزءاً من إرث ثقيل كان على صدام دائم مع سلطات سابقة، كما يخشى من خبراتهم التنظيمية والسياسية.
برز اسم جماعة “الإخوان المسلمين” كلاعب سياسي وميداني قوي خلال التاريخ السوري الحديث، وحفرت الجماعة لنفسها اسماً بارزاً منذ أواسط القرن الماضي، قبل أن تتلقف العداء العلني وتتبناه عسكرياً مع نظام البعث منذ أطوار تشكيله الأولى، قبل حكم حافظ الأسد في عام 1970 وبعده، ذلك العداء الذي اتخذ شكلاً دموياً في مواقع عديدة ومريرة ما زال يذكرها السوريون جيداً، إذ جلبت عليهم في أطوار مختلفة وبالاً من القمع العسكري المركز الذي أفضى غير مرة إلى مجازر في حق الجماعة ومناصريها، بل وإلى دمار مدن كاملة احتمت بها.
منذ بدء وجود الجماعة الأولي في ثلاثينيات القرن الماضي تركز عملها على استهداف البيئات الفقيرة على الخط الممتد من حلب شمالاً إلى إدلب وحماة فحمص جنوباً، كمعاقل رئيسة تختلف شدة الحضور في ما بينها. وتبقى حماة على وجه التحديد حاضنتها الكبرى تاريخياً، أقله حتى عام 1982، حين قررت السلطات السورية شن عملية عسكرية كبرى ضد “الإخوان”، مدمرة أجزاء واسعة من حماة، إلى جانب مقتل آلاف من سكان في المدينة وسط إحصاءات ما زالت غامضة حتى اليوم، فيما ترجح مصادر أن يكون عدد القتلى وصل إلى 40 ألفاً، خلال تلك الحملة.
وبين النشوء والتدمير النهائي في الداخل السوري، عرفت الجماعة حضوراً سياسياً قصيراً من خلال الحياة النيابية في الخمسينيات متأثرة بصعود القوى اليسارية والليبرالية والشيوعية والوحدوية والبعثية، إذ كانت تقف ضدهم، قبل أن تتخذ الطابع المسلح وتتغير ملامح المشهد لعقود تالية.
في الثورة السورية
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011 وبعد عقود من تهميش وإقصاء وتشتت “الإخوان” خارج سوريا بعد عام 1982 عاد اسم الجماعة ليبرز من جديد في محافل المعارضة الخارجية، ولتمتد نحو المعارضة المسلحة الداخلية، مستفيدة من دعم دول إقليمية قادت بها لتكون شريكاً في بعض الأحيان من خلال “المجلس الوطني المعارض” و”ائتلاف المعارضة” في تركيا، كشكل متجدد من أشكال الإسلام السياسي في المنطقة، الذي كان ينتظر إزاحة قمقم المصباح عن رأسه ونفض الغبار عن جسده ليظهر من جديد. ومع تتالي سني الحرب خف زخم الجماعة وتأثيرها الأولي المباشر في بعض الداخل، لكنها ظلت تحتفظ بمكانتها الخارجية كجزء من النسيج المعارض ولو بوتيرة أقل، في انتظار تحول الأمور على الأرض السورية وتبدل موازين القوى وتحقيق انتصار إسلامي بخطوط عريضة يحفظ لها مكانة مستقبلية.
بعد طول انتظار سقط النظام السوري، ومعه سقط حظر ونفي دام نحو نصف قرن للجماعة وأعضائها، ولكن الصورة لم تكن وردية تماماً، فالخروج من الظل كان صعباً، خصوصاً مع وجود خصوم قدامى في المشهد، وخصوم جدد أيضاً، يشاطرونها البعد الإسلامي، ويبتعدون منها في الإيديولوجيا المركبة، وفوق ذلك شارع عريض ما زال موقفه ملتبساً حيالها.
جماعة بلا شارع
الخبير في الجماعات الإسلامية الدكتور مناف عبدالباسط يقول إن “إخوان اليوم ليسوا إخوان العسكرة القوية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، فالأنظمة التي كانت تدعمهم رحلت، وحل مكانها داعمون جدد لكن بصورة أقل بكثير نتيجة إدراكهم أن الإخوان نفسهم لم يعودوا يمتلكون شارعاً جماهيرياً واسعاً يمكن له إسنادهم في مواقفهم ومنعطفات طرقهم، وعلى رغم ذلك فالإخوان كجماعة مجردة يمتلكون من الحس التنظيمي والإداري والسياسي أكثر ما تملكه أية جماعة أخرى على الأرض، لكن ذلك لا يؤخذ بالمعايير السياسية من دون شارع داعم. الحرب السورية بدلت المفاهيم، والإخوان صاروا من المنسيات”.
من جانب آخر يرى أستاذ علم النفس ظافر ياسين أن “الإخوان اليوم يملكون مشروعاً أكثر اتساعاً من إمكانية تأطيره، وذلك عبر تقديم أنفسهم بصورة جديدة تعتمد التعريف الوطني الخالص أكثر من التعريف الإسلامي الجاف”. وأضاف “الإخوان أدركوا أن مشاريع الإسلام العابرة للحدود ولى زمانها، والعمل من داخل سوريا ولأجلها، يتطلب خطاباً مجتمعياً تعايشياً جديداً لا يستند إلى العقيدة المركزة في جوانب إقصائية”.
بعد عقود من النفي
أخيراً وجد “الإخوان المسلمون” أنفسهم غير منفيين، ولكنهم في الوقت ذاته ليسوا شركاء في إسقاط النظام الذي أقصاهم وطاردهم لعقود، كما ليس لهم امتدادات داخلية وشبكات نفوذ حقيقية على الأرض، بينما كانت عودة المرشد السابق للجماعة علي صدر الدين البيانوني صيف العام الحالي إلى سوريا، خطوة مغرقة في الرمزية بعد رحلة نفي امتدت لأكثر من 40 عاماً.
دخل المرشد السابق عبر مطار حلب الدولي شمال سوريا، وبدا أن العمر قد غلبه وقد طعن في السن، وكان يدفعه رجل بينما جلس على كرسيه المتحرك، دخل بأقل ضجة ممكنة، لا استقبال رسمياً، لا عدسات إعلام معتبرة حاضرة، لا ترحاب شعبياً، بدت العودة كرسالة للذاكرة لا أكثر.
في السياق يرى الباحث الأكاديمي في مجال العلوم السياسية بهيج حسن أن “عودة المرشد السابق تحمل مدلولات ملخصها أنهم منفتحون بلا عداء، مقبلون بلا مشكلات، قابلون للانحناء حتى تمر العاصفة”. ويضيف “لا يريدون ثأراً ولا لفت أنظار ولا صراعات تخيف عدواً أو صديقاً، إنما عمل مغرق في الهدوء عبر محاولة التواصل مع القواعد القديمة على أسس مدنية خالصة، لا حزبية ولا إسلامية ولا تعبوية ولا جماهيرية، أقله في هذه المرحلة الدقيقة”.
وثيقة العيش المشترك
أخيراً أصدرت جماعة “الإخوان المسلمون” وثيقة بعنوان “العيش المشترك في سوريا”، وقد مثلت الوثيقة خطاباً غير معهود أيديولوجياً من الجماعة، إذ ركزت على المواطنة، وفصل السلطات، والتداول السلمي للسلطة، وضمان الحريات الدينية والسياسية، ضمن عقد اجتماعي يحمي الاختلاف ولا يقوده ليصير صراعاً.
بدت الوثيقة بحد ذاتها غريبة للمراقبين والمهتمين بالشأن السوري، فقد جاءت من جماعة إسلامية اتسمت بتعقيد التركيبة طويلاً لتخاطب فجأة كل المكونات والطوائف الدينية والعرقية في سوريا، بعيداً من الحشد التعبوي العقائدي والأفكار الجاهزة التي عرفت بها طوال رحلتها.
ورأى المراقبون في الوثيقة محاولة إعادة تموضع أمام سيول جارفة، إعادة تموضع تتكفل بإرسال رسائل لينة إلى الإقليم، إضافة إلى كسب الشرعية الداخلية، فيما يعتقد آخرون أنها مجرد دعاية إعلامية تهدف لكسب الوقت إذا لم تتم ترجمتها فعلياً على أرض الواقع.
الملفت كانت سرعة تمكن الجماعة من طرح رؤية ديمقراطية مدنية تعددية، بعد أن كانت نواة التمرد الدموي في مراحل كثيرة خلال التاريخ السوري الحديث، بل حتى إنها اتسمت بأشنع صنوف التكفير، وارتكاب عمليات الاغتيال والتفجيرات والمجازر الطائفية، ولعل أشهرها وما يرتبط بالذاكرة الجمعية السورية هي تفجيرات الأزبكية في دمشق، ومجزرة مدرسة المدفعية في حلب، في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، إضافة إلى اغتيال خيرة العلماء ومدرسي الجامعات والأطباء السوريين وغيرهم.
الحقوقي ناصر زهران يعتقد أن إطلاق الوثيقة من خارج سوريا ليس عاملاً مؤثراً في سياقها العام، فالمهم فحواها، ويشير إلى أن “الإخوان وضعوا أنفسهم اليوم في مكان يبحث عن تحصيل حقوق الشعب وضمانات لعيش حر كريم له، ولكن هل هذه الحقيقة التي يسعون إليها؟ وهل ستكون بوابة لدفع بقية التيارات الدينية لمراجعة خطابها العام، أم أن الأمر لن يكون إلا تلميع صورة ضمن حملة علاقات عامة تستهدف كسب ثقة الجمهور من جديد؟”.
الإخوان والسلطة في دمشق
دعا أحمد موفق زيدان، المستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، جماعة “الإخوان المسلمين” إلى حل نفسها، وكان يمكن فهم مزاج السلطة من دعوة المستشار، فسلطة دمشق لا تعتبرهم شركاء بـ”النصر”، بل قد تراهم جزءاً من إرث ثقيل كان على صدام دائم مع سلطات سابقة، كما يخشى من خبراتهم التنظيمية والسياسية، إضافة إلى جنوحهم المنظم نحو التعامل البراغماتي مع أي تقلب وموقف ومفترق طرق مفترض، مما يجعل ملفهم أمنياً وسياسياً يتسم بالحساسية، وهو ما يفرض نوعاً من “المسافة الآمنة” الواسعة بينهم وبين دمشق. فلا يعني مجرد كون الجماعة شكلاً من الإسلام السياسي أنها حليف موثوق، خصوصاً أنها ضعيفة في الشارع فلا يمكن حتى الاستفادة منها، وكذلك لا يمكن تقويتها فتصير عبئاً.
القاعدة الواضحة حتى الآن أن لا ملاحقة لهم، ولا محاكم غيابية لأسباب سياسية، ولا نفي جديداً، ولكن في الوقت ذاته لا يوجد اعتراف قانوني بوجودهم.
من الداخل
يعتبر كثيرون أن طرح الجماعة لـ”وثيقة العيش المشترك” هو رد على مطالب علنية وأخرى من تحت الطاولة تطالب الجماعة بحل نفسها وإعلان انتهاء دورها وجودياً وتنظيمياً، وهو ما دفعها لتظهر بصورة براغماتية غير متطرفة تسعى وراء حقوق المواطنة في محاولة جذب قبول إقليمي من دول كثيرة ترى في الجماعة خطراً محدقاً، وبالضرورة تضع الشرع في موقف صعب حال قبوله بوجود الجماعة شكلاً وموضوعاً على أراضي سوريا، ضمن حالتها الحزبية السياسية أياً يكن شكلها. ليأتي الرد سريعاً من المتحدث الرسمي باسم جماعة “الإخوان المسلمون” في سوريا سعد الخطيب، متسائلاً “لمصلحة من ستحل الجماعة نفسها؟”، مضيفاً “نحن جماعة تجاوز عمرها أكثر من 80 سنة، وليست جسماً طارئاً، ولم تؤسس في فترة الثورة فقط وكانت حاضرة في كل المراحل، على رغم قسوة ما واجهها من ظلم وقتل وإجرام من النظام البائد، الذي حكم بالإعدام على كل من ينتسب إلى هذه الجماعة من خلال قانون العار رقم 49 لعام 1980، لذا فالجماعة كانت وما زالت قائمة، بإذن الله تعالى. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحل الجماعة نفسها؟ وهي ذات البعد الثوري منذ أكثر من 60 سنة، وتموضعها المعلن بعد التحرير يدل على عقلانية عالية، ودعمنا الدولة السورية، لنكون جزءاً من حركة البناء لسوريا الجديدة، فلمصلحة من حل الجماعة؟”.
بين تصريحات المتحدث الرسمي باسم الجماعة، وموقف السلطة في دمشق، والضغوط الإقليمية، لا يبدو أن الجماعة مؤهلة بأية صورة لتتخذ موقعاً في المشهد السياسي ضمن إطار سياسي منظم وواضح في المرحلة الراهنة، في حين يمكنها العمل مع قواعدها بصيغ مدنية متعددة لا تثير الشبهات، خصوصاً أنها تمتلك المفاتيح الملائمة لتظل أداة ضغط في الوقت الحرج الذي قد ترغب فيه دول بعينها الاستثمار في الجماعة، وهي الدول ذاتها التي تخالف الإجماع الكبير حول الإخوان، ولعل ذلك ما يفسر تمكن مرشحين مقربين أو محسوبين بصورة أو بأخرى على الإخوان من دخول مجلس الشعب بصفتهم الشخصية لا الحزبية، خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
- إندبندنت



























