إن كان تظاهرُ السوريين في 31-10-2025 ضد “قسد” في الجزيرة السورية ناتج سلوكات ممنهجة سياسياً وقمعاً أمنياً وفساداً اجتماعياً وفشلاً إدارياً وابتزازاً ونهباً اقتصادياً، مرفَقة باستعلاء مرضيّ وذاتية متضخّمة، وفائض قوّة مدعوم خارجياً، واستقواء يجيد لعبة التناقضات على حبال المتصارعين، فإن توقيع اتفاق 10-آذار مع الحكومة السورية جعل “قسد” تعيش ورطة حشرتها في زاوية ضغوط خارجية من حلفائها وداعميها ومعارضيها ومعاديها! فصار هاجسها معاناة عميقة نسمّيها “متلازمة انتهاء الصلاحية”، فهي لم تنفّذ ما التزمت به من دمج، بل زادت تملّصاً وتباطؤاً بفرض مناهجها التعليمية واستمرار الاعتقالات والقمع وحفر الأنفاق ونشر المخدرات والتجنيد الإجباري ورعاية فلول الأسد وبقايا ميليشيات إيران والقنديليين الأتراك في صفوفها، وافتعال الصدامات مع الحكومة ومتابعة النهب للاقتصاد، وجعلت من نفسها مركز استقطاب لكل الخارجين على وحدة سورية ونهضتها، داخلياً وخارجياً، وناطقاً ومرشداً للمكونات المتذمّرة أو ذات المطالب مستحيلة التحقيق أو المرتبطة بأجندة إسرائيلية أو إيرانية.
قامت ” قسد ” 2015، برعاية أميركية، تعاقداً عسكرياً لمواجهة الإرهاب، لا مشروعاً سياسياً لخلق كيان كردي على حساب وحدة سورية، واستقرار دول المنطقة، ونموّ استثماراتها واقتصاداتها، فهي شريك ضرورات، وحليف متغيّرات، وسلاح تبديل أو استقرار تموضعات. وعلى الرغم من ذلك لم تستجب لدعوة أميركا العمل لمواجهة الميليشيات الإيرانية، وقطع شريان إيران لتغذية النظام البائد وحزب الله عبر الجزيرة والبادية! وتحايلت على إشراك المجتمعات المحلية، ومعالجة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والحوكمة بمواجهة رفض الأمريكان العقد الاجتماعي “القسدي”، ومشروع “الإدارة الذاتية”؛ لأن دمج الجزيرة أساس استقرار سورية الموحّدة.
بسقوط النظام تتالت تطوّرات وانعطافات القضية السورية، لا لتستقرّ، بل لتتموضع بمتنها وحواشيها حوامل وعوامل جديدة في صراع أُريد له أن يكون ترويضاُ للجميع! فتحوّلت “قسد”، إبان مهمّتها، أداة وظيفية للنظام يضغط بها على الثورة داخلياً، ويبتز الأتراك، ويساوم الروس والإيرانيين خارجياً، لتكون سلاحاً للتحالف الدولي، يكرّس وجوداً أميركياً إستراتيجياً، يحجّم المشاريع ويدير الصراعات لحسابه، وتُرسم الأولويات بإعادة تموضعه.
إن تولّي الحكومة السورية ملفّ مراكز احتجاز عناصر داعش ومخيّمات عوائلهم، بعد فتح باب التعاون والتنسيق بين التحالف الدولي والحكومة السورية، التي ستنضمّ له رسمياً، تُجرّد “قسد” من آخر ذرائعها، ويجعل دورها ضمن الحكومة المركزية، ولكنها – كأداة عسكرية لتحقيق إرادة خارجية – عملت بالوقت ذاته لخلق كيان يوازي الدولة، يطوي في بواطنه إيديولوجيا تحقيق حلم سياسي أسموه “روجافا”!
سقطت أوراق التوت التي كانت تخفي المشاريع المتعارضة لسورية والمنطقة، من سورية البدء، ولا يتمّ الانتهاء بدونها، هكذا يقول التاريخ، وكذا تحكم الجغرافيا! فهي ساحة الحرب على الإرهاب، وهي مرتكز سلاسل التوريد الدولية وممرّات الطاقة، وانعكاس أوضاعها الاجتماعية على محيطها مجرّب؛ ففيها تتقاطع التناقضات بين الحلفاء، والصراعات بين الخصوم، وعبرها تتكوّن التوازنات والتوافقات.
لعلّ الصور التي تناقلها الأثير إبان انسحاب أميركا من أفغانستان لا تغيب عن مخيال القسديين، تذكرهم بانتهاء الصلاحيّة، وهي المتلازمة التي تقضّ مضاجع الواهمين، فيستمرون بطلباتهم المستحيلة، لتستمرّ سردية المظلومية.
عملت “قسد” لتكون وصياً على مستقبل سورية برؤيتها لشكل الدولة وجيشها، وادّعائها الحديث باسم مكوّنات سورية وتمثيلهم! وجهدت لتسويق نفسها كياناً موازياً عسكرياً وسياسياً عبر تدويل ملفّ الجزيرة أو تعريبه، وفشلت، وأعيدت إلى وصفها الواقعي بعد أن عانت من تضخّم مرضي، وتضخيم إعلامي، كذّبه فسادها واهتراؤها، وتناقضاتها وصراعات تيّاراتها، وارتباطها بالمشروع الإيراني، وارتهانها لمشروع التقسيم والتفتيت الإسرائيلي، بضمّها فلول النظام، ودعمها هجريّي الجنوب، واعتمادها الميليشيات الطائفية، واحتضانها إرهابيّي حزب العمال الكردستاني بعد حلّه في تركيا.
إن عزم أميركا سحب قواتها من الجزيرة، وسعي تركيا إحياء اتفاقية أضنة وتوسيع نطاقها، وانضمام سورية للتحالف الدولي وإمساك ملف مخلّفات داعش، ورفع العقوبات الدولية لتحقيق انتعاش اقتصادي، وأمان اجتماعيّ، هو إعلان لانتهاء صلاحية “قسد” ومشروعها، وإيذان بتحجيم مشروع “حماية الأقليات” الإسرائيلي وتغذيتها للصراعات الاجتماعية لاستثمارها سياسياً، وعصف لمشاريع الانفصال الهجرية في السويداء.
إن ما يريده السوريّون تفكيك كيان “قسد” وهيكلتها ضمن أُطُر الدولة، والتوحّد مع ” الدولة ” الجديدة، لا “سلطة” لأمر واقع، تختلف عن البائدة بالأسماء والرموز والبلاغة وحسب. وهو ما يتطلب بناء ثقة متبادلة، تؤكّد على وحدة سورية وجيشها، والتزام الدولة بالتشاركية مع كلّ المكوّنات الاجتماعية، لتنهض دولة المواطنة الكاملة المتساوية على كلّ المساحة السورية.
- رئيس التحرير





















