بين “الدمج” و”الاندماج” في سورية لم يعد الجدل لغوياً، بل صراعاً وجودياً، يحدد شكل السيادة وطبيعة السلطة في مرحلتها الانتقالية، ويشكّل تناقضاً جوهرياً بين التفكيك، والشراكة “اللامركزية” المبهمة التي تطلبها بعض الكيانات المحلية.
وـ”قسد” لا تملك ترف الاختيار، بعدما أوغلت في عسفها للجزيرة السورية، وتراجع العرّاب الأمريكي، وتصاعد الضغط التركي، المتوّج باندفاع دمشق لاستعادة السيادة على كامل سورية، أمام خياري الانصهار الكامل، أو التدوير المُراوغ.
الجزيرة السورية أضحت اليوم مسرحاً لتصفية الحسابات. لقد بلغت “قسد” نهاية مطاف وهمها المؤقت؛ لتعلن الجغرافيا انتهاء صلاحية الكيانات الموازية، وتصبح في محفل التاريخ؛ إذ لم يبقَ أمام “الإدارة الذاتية” إلا بوابة النجاة الوحيدة: الانصهار تحت سقف الدولة السورية الموحدة، مهما كانت تكلفة البقاء موجعة. هذه المشهدية جوهر التصفية الإجبارية الموسومة برهن الأصول الأيديولوجية لقاء حصانة الوجود.
مشروع “قسد” اليوم غلاف زائف لأسطورة “حكم ذاتي”، عاشت في كنف “فراغ أمني”. لكن طموح “روجافا” أخذ يتهاوى، كاشفاً تناقضاته التي أفضت إلى الانهيار! لأن السقوط لم يكن عسكرياً وحسب، بل إفلاس سياسي داخلي أعمق؛ فالفساد المستشري وانهيار الخدمات وقمع المجتمعات المحلية، قوضت مصداقية خطاب “الإدارة البديلة”، معلنة نهاية شرعية الأمر الواقع.
إن استخدام المكوّن العربي واجهة لمشروع كردي، قوبل بالقهر والتهميش. وهذا السخط تحوّل إلى قوة طرد ذاتية الدفع نحو دمشق، ممهدة لتحرر المكونات المحلية من الهيمنة “القسدية”.
تدرك قيادة “قسد” أن الحل يكمن في إدارة احتواء الخسائر عبر التسويف والمناورة، وتعي أن المفاوضات –حول اتفاق 10آذار- لا تدور حول مبدأ الوحدة، بل حول آلية البقاء بعد التفكيك، ليبقى مسار التنفيذ مسدوداً أو محفوفاً بالتصعيد. وتسعى لشراء حصانة الوجود بمراوغة إعادة التدوير متمسكة باندماج قواتها ومناصبها العليا، وهدفها التحوّل إلى “جيب وظيفي مُقنَّع”، يضمن استمرارية التمويل الخارجي لمكافحة الإرهاب، بينما تصرّ دمشق على المركزية رافضة لهذا الوضع التوفيقي الملتبس. وما استخدام قسد ورقة “اللامركزية المبهمة” والسيطرة على الأصول الحيوية (النفط والمعابر والثروات الزراعية) ورقة ابتزاز أخيرة. ترفضها دمشق.
إن مصير الاندماج يُحسم في دوائر القوى الكبرى، ضمن سياق تصفية حساباتها الجيوسياسية، فأنقرة بمطرقتها العسكرية ترفض “تدوير” ما يمكن أن يكون خطراً، وتصر على “التفكيك التام”، ولا تقبل المساومة، وتسعى واشنطن لـ “تبرير انسحابها المشروط” بتحويل “قسد” إلى رصيد عسكري يهدف لمراقبة النفوذ الإيراني ومكافحة “داعش”، بمحاولة لتقليل خسائرها الإستراتيجية.
وما توقيع انضمام سورية للتحالف الدولي ضد الإرهاب، إلا مناورة إستراتيجية لكسر العزلة تدريجياً، ويدفع لتجريد “قسد” من غطائها الدولي كوكيل حصري لمكافحة الإرهاب، مانحاً دمشق سلاح الشرعية الدولية لفرض الاندماج، ولو متدرّجاً، ورفض أي صيغة أخرى كشرط لاستعادة السيادة. في الوقت الذي تسهّل روسيا الصفقة الكبرى، بينما تتراجع مسوّغات إسرائيل لمزيد من التوغّلات، أو متابعة مساندتها لمروّجي اللااستقرار في السويداء، وتراقب إيران المتغيّرات لتحديد شكل أي ترتيبات وظيفية في المنطقة.
إن الاندماج إعلان لانتهاء عهد الكيانات الموازية واسترداد للسيادة، لكن التاريخ يحذّر من “متلازمة عدم الاستقرار” الناتجة عن دمج كيانات متنافرة في هيكل هشّ، وتجارب لبنان وبعض الدول الأفريقية بعد الحروب الأهلية خير مثال. ولذا فإن الاختبار الحقيقي للدولة السورية الجديدة، يكمن في هيكل ينهي التناقضات ببناء وحدة وطنية مستقرّة. وما لم تُبنَ هذه السيادة على تفكيك جذري للهياكل المتعدّدة وتوزيع عادل للموارد وتشاركية في السلطة والإدارة، فسيظل الترتيب الجديد “هيكلاً هشاً قابلاً للاشتعال”. فلا استقرار لسورية الوطن ودولة القانون والمساواة، إلا بسيادة لا تقبل القسمة أو فرض الإرادات والشروط المستحيلة التي تؤخّر النهوض وتبلسم الجراح.
- رئيس التحرير





















