من حينٍ لآخر، تطفو على السطح جدالات حامية حول شخصيات سورية أثارت مواقفها كثيرا من الالتباس؛ شخصيات كانت يومًا ما جزءًا من النظام السابق، مؤيدة له أو فاعلة ضمن مؤسساته ومراكزه القيادية. وبرغم هذا التاريخ الملتبس، ما تزال هذه الوجوه تحافظ على مكانتها ومكاسبها بعد انتصار الثورة، وكأن شيئًا لم يكن.
المفارقة أن كثيرًا من هؤلاء لم يجدوا حرجًا في “التكويع” السياسي؛ أي تغيير اتجاههم بما يتلاءم مع موازين القوى الجديدة، طمعًا في مواقع ومصالح ضمن النظام القائم اليوم، أو للحفاظ على مكاسبهم السابقة. يفعلون ذلك من دون اعتذارٍ عن مواقفهم المشينة، أو حتى مراجعةٍ ذاتيةٍ نقدية لما ارتكبوه من أخطاء أو ما أسهموا به –بشكل مباشر أو غير مباشر– في إطالة أمد المأساة السورية. والأسوأ من ذلك أن معظمهم لا يشعر أصلًا بالذنب، وكأن ما جرى في سوريا لم يكن يعنيهم إلا بقدر ما مسّ امتيازاتهم الشخصية.
ما نراه اليوم في المشهد السوري هو تجسيد صارخ للفئة الثانية، حيث تحوّلت السياسة إلى وسيلة للبقاء والمصلحة لا إلى مسؤولية وطنية.
يمكن تصنيف هذه الشخصيات إلى ثلاث فئات رئيسة. الفئة الأولى تضم أولئك الذين ما زالوا غير مقتنعين بانتصار الثورة، فيكيلون للحكم الجديد الانتقادات من موقع الخاسر المتحسر على جاهٍ ومكانةٍ فقدوها. وغالبًا ما نجد بينهم بعض الفنانين والمثقفين وأصحاب المناصب المدنية الذين لم يتقبلوا خسارة امتيازاتهم. أما الفئة الثانية، فهي التي اختارت “التكويع” خوفًا على نفسها أو على مصالحها، متبنية خطابًا جديدًا يضمن لها موطئ قدم في الواقع المستجد، أو يكفيها شر من يعرف تاريخهم. وأخيرًا، هناك الفئة التي تخلت عن النظام السابق في أواخر أيامه، أو في مراحل سابقة، محاولةً الالتحاق بمركب الثورة حين بدا أنه المنتصر، لكنها لم تفعل ذلك عن قناعة أو التزام وطني، بل بدافع المصلحة ذاتها التي حكمت سلوكها منذ البداية.
ورغم اختلاف المواقف والخلفيات، فإن خيطًا واحدًا يجمع بين هذه الفئات جميعًا: التمركز حول الذات ومصالحها الشخصية البحتة. فالقضية الوطنية، والسياسة، بل حتى الثورة نفسها، لم تكن بالنسبة إليهم سوى قضايا هامشية ساقتها الظروف إلى طريقهم، دون أن تمسّ جوهر شخصية.
في هذا السياق، يحضر تقسيم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بين نوعين من العاملين في الشأن السياسي: الأول، من يمارس السياسة كرسالة ومسؤولية يعيش من أجلها، مدفوعًا بدافع وطني وأخلاقي يربطه بالناس والمصلحة العامة.
والثاني، من يتعامل مع السياسة كمهنةٍ يعتاش منها، ماديا عبر المكاسب والامتيازات، أو معنويا عن طريق المكانة والوجاهة الاجتماعية، هدفه تأمين مكاسبه الشخصية ومستقبل أبنائه، بغضّ النظر عن أخلاقية الدور الذي يقوم به أو عدالته، أو حتى عن طبيعة النظام الذي يخدمه، أكان عادلًا أم مجرمًا.
ما نراه اليوم في المشهد السوري هو تجسيد صارخ للفئة الثانية، حيث تحوّلت السياسة إلى وسيلة للبقاء والمصلحة لا إلى مسؤولية وطنية. وبين النظامين – القديم والجديد – ظلّ مبدأ هؤلاء واحدًا: الأنا أولًا، والوطن من ملحقات الذات ومصالحها.
تبدو عقلية التمركز حول الذات في الحالة السورية أكثر من مجرّد سلوك فردي نفعي أو اضطرار اجتماعي، بل يمكن النظر إليها بوصفها حالة ثقافية سورية تشكّلت تحت وطأة الاستبداد، وكرّستها أنماط السلطة والاقتصاد والتعليم والدين والإعلام على حدّ سواء. فالفرد السوري لم يُترك ليكون ذاتًا حرّة قادرة على الفعل العمومي، بل جرى تكوينه في فضاء مغلق، يُكافَأ فيه الولاء وتُعاقَب فيه المبادرة، حتى غدت النجاة الفردية هي المعنى الأسمى للحياة، ويبدو أن هذه الفئات لم تقاوم أخلاقيات مرحلة الاستبداد، بل وجدت فيها قافلة تسير بها طالما أن هناك مكاسب لهذه الذات.
إن هذا التكوين أنتج ذاتًا هشّة، قلقة، مهووسة بالبقاء، تعيد تعريف الأخلاق وفق معايير المصلحة والقدرة على التكيّف. هنا يتجلّى ما وصفته حنّة أرندت بـ”تفاهة الشر”؛ ذلك النمط من الفعل الذي يصدر عن بشرٍ عاديين، غير أشرار بطبيعتهم، لكنهم فقدوا القدرة على التفكير النقدي وعلى إدراك أبعاد أفعالهم الأخلاقية. فالانتهازي السوري ليس شريرً بطبعها، بل هو نتاج بيئة سلطوية حرمت الأفراد من ممارسة المسؤولية الأخلاقية كفعل حرّ، فصاروا يتحركون وفق منطق الضرورة لا القناعة، والمكاسب لا المبادئ.
في كل المجتمعات هناك من مجموعة من الناس تنظر إلى الخضوع على أنه سلوكًا عقلانيًا، ومن المراوغة مهارة حياتية، ومن الانتهازية وسيلة للترقي والبقاء. بهذا المعنى، لم تكن الانتهازية مجرد انحراف أخلاقي أو وضع اضطراري، بل استراتيجية عيشٍ رسّختها لا أخلاقيتهم، بالإضافة إلى منظومة السلطة، وتعمقت أكثر مع الحرب.
إن الخروج من هذه الحلقة لا يكون بإسقاط أنظمة الحكم فحسب، بل بإعادة تأسيس الذات السورية على أسس جديدة: ذات قدرة على الفعل المشترك، على التفكير الأخلاقي المستقل.
الذات الأخلاقية كثيرا ما يفتقدها الإنسان تحت ضغط الخوف والبحث عن النجاة، أو الرغبة في المكانة، الأمر الذي يؤدي إلى تكاثر الشخصيات الملتبسة، المتقلبة بين خطاب الضحية وخطاب الشريك، بين معارضة شكلية
وولاءٍ باطني، وكلّها تنهل من المصدر ذاته: التمركز حول الذات كآلية دفاعية ضد الانهيار، لا كاختيار فلسفي واعٍ.
وإذا كانت الثورات، في جوهرها، تمثّل لحظة استعادة الإنسان لفاعليته ولصوته الأخلاقي، فإن تلك الفئات أظهرت عجزا واضحا عن تجاوز الحالة القديمة للذات السلطوية. فحتى في لحظات الانفجار الثوري، بقيت المصلحة الشخصية أقوى من المبدأ، وبقي هؤلاء يعانون من العجز عن خلق فضاءٍ عموميّ يُمارَس فيه الفعل من أجل المجموع لا من أجل الأنا.
إن الخروج من هذه الحلقة لا يكون بإسقاط أنظمة الحكم فحسب، بل بإعادة تأسيس الذات السورية على أسس جديدة: ذات قدرة على الفعل المشترك، على التفكير الأخلاقي المستقل، وعلى إدراك أن الحرية والحقوق لا تكتمل إلا حين تتحوّل من مطلبٍ شخصي إلى التزامٍ جمعي. فالمسألة، في عمقها، ليست سياسية فقط، بل وجودية وأخلاقية؛ إنها مسألة استعادة الإنسان السوري لإنسانيته التي ضاعت في خضم الانتهازية والتمركز حول الذات.
- تلفزيون سوريا






















