مع كتابة هذه السطور سيكون الرئيس السوري «الانتقالي» أحمد الشرع في طريقه لتسجيل حدث تاريخي باعتباره أول رئيس سوري يزور الولايات المتحدة الأمريكية ويلتقي رئيسها في «البيت الأبيض».
تكتسب الزيارة طابعا تاريخيا أيضا من واقع أن الشرع، كان حتى قبل سنة تقريبا، قائدا لفصيل جهادي انشق عن تنظيم «القاعدة» الذي نفّذ هجوم نيويورك الشهير، وكان قبلها مقاتلا ضد القوات الأمريكية في العراق حيث سجن خمس سنوات بصفته عضوا في تنظيم «الدولة»، وأنه، رغم كل ذلك، يتوجّه إلى واشنطن العاصمة لإعلان انضمام سوريا إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد التنظيم آنف الذكر، وربما الموافقة أيضا على إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من دمشق، حسب ما أشارت مصادر دبلوماسية.
ينطلق الشرع إلى واشنطن التي نجحت في صدور قرار عن «مجلس الأمن» التابع للأمم المتحدة يخرج الرئيس السوري من قائمة الإرهاب، وجاء بعدها قرار بريطانيا، أمس الجمعة، رفع عقوبات مالية عن الشرع (ووزير داخليته أنس خطاب) كانت تستهدف التنظيمين المذكورين، كما أعلن الاتحاد الأوروبي، في اليوم نفسه، أنه سيلتزم بقرار الأمم المتحدة ويرفع عقوبات مماثلة.
شهد شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الذي تجري فيه الزيارة أيضا انقلابين هائلين آخرين في تاريخ سوريا، ففي 13 من هذا الشهر عام 1970 نجح انقلاب حافظ الأسد العسكريّ الذي أسس لحكم الأسرة الأسدية الطويل والوحشيّ، لينتهي في الشهر نفسه بعد 54 عاما مع انقلاب تاريخي آخر نفّذه الشرع بقيادته لهجوم مذهل لفصائل المعارضة السورية الإسلامية الطابع التي انطلقت من إدلب فجر 27 تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي وأنهت خلال 11 يوماً هيمنة النظام السوريّ السابق على البلاد وآثاره الفظيعة على سكان محيطه الإقليمي من اللبنانيين والأردنيين والعراقيين والفلسطينيين.
تمثّل الزيارة غير المسبوقة نقطة علام في هذه الديناميّة الغربية مع سوريا والمنطقة، وتشكّل على صعيد سوريا نفسها، قطعا مع عالم بأكمله كان النظام الأسديّ يمثّله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأيديولوجيا، بدءا من تموضعه، في مجال المحاور الدولية، مع الاتحاد السوفييتي السابق، الذي استعار نظام الأسد عدّته الأيديولوجية الشمولية والاستبدادية ونظامه السياسي وحتى أساليب وأدوات استخباراته (مثل «الكرسي الألماني» الذي قدّمته مخابرات ألمانيا الشرقية حينها) مرورا بعلاقته العدائية (والانتهازية الابتزازية) مع العالم العربيّ، والذي تمثّل، على وجه الخصوص، لعقود طويلة، بعلاقات استراتيجية مع إيران.
وضعت هذه التطوّرات «سوريا الجديدة» على مساق مختلف كلّيا أدى إلى إعادة توازن جديد في المنطقة، بدءا من العلاقة الاستراتيجية الخاصة مع الجغرافيا التركيّة وما وراءها، نحو أوروبا، التي تعزّز انفتاحها يوما بعد يوم مع دمشق، وكذلك آسيا الوسطى، التي كانت، بسبب العداء مع تركيا، عالما مقفلا وغامضا على السوريين.
دشّن الحكم الجديد علاقات جيدة مع الأردن، طريقه الى دول الخليج العربيّ التي انفتحت بشكل هائل على هذا التطوّر وشكّلت، وخصوصا عبر السعودية وقطر، الحاضنة العربية، والحليف الاستراتيجي الوازن، الذي تعبّر زيارة واشنطن عن نجاحاته في اختراق ما كان يبدو مستحيلا. أما في اتجاه العراق ولبنان، يبدو الحكم الجديد مثقلا بأعباء الماضي، فبغداد، التي توازن بين النفوذ الإيراني والأحزاب الشيعية وذكريات الحرب الأهلية الطائفية بين السنة والشيعة والدور الأمريكي، تعلن عن قلقها من حكم الشرع، فيما أعاد النزوح الجزئي إلى لبنان الذي تبع أحداث الساحل السوري، وأحداث السويداء، إحياء قلق مستجدّ داخل توازنات الطوائف اللبنانية الحساسة.
لا يمكن لسيناريوهات تغيّر التوازنات في المنطقة أن تتجاهل «الفيل في الغرفة»، إسرائيل، التي تتوغّل بشكل يوميّ في الأراضي السورية، والتي تعتبر لقاء الشرع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقدّما تركيّا وعربيا في وضع سوريا على الطاولة، فيما لا تخفي واشنطن، في المقابل، رغبتها في تحويل المفاوضات بين دمشق وتل أبيب إلى انخراط في «الاتفاقيات الإبراهيمية».
لا ينفي تضارب المصالح والاستراتيجيات هذا أن الزيارة هي إعلان عن تغيّر استراتيجي كبير تتوضّح معالمه شيئا فشيئا.
- القدس العربي
























