في أيلول، عيّنت ألبانيا نظاماً يعمل بالذكاء الاصطناعيّ في منصب وزاريّ، وهو الأوّل من نوعه في العالم. أُطلق على النظام اسم “دييلا” (وتعني “الشمس” بالألبانيّة)، ليكون “وزيرة دولة للذكاء الاصطناعيّ”، وكلّفها رئيس وزراء ألبانيا بمعالجة الفساد في العقود الحكوميّة.
بحسب تقرير لمجلّة “تايم” الأميركيّة، أثار ذلك غضب حزب المعارضة الألبانيّ الذي وصف الذكاء الاصطناعيّ بأنّه “وهم دعائيّ”، وطعن في تعيين “دييلا” أمام المحكمة. غير أنّ دييلا ردّت على هذا الاعتراض في كلمة خلال جلسة برلمانيّة للتصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة في تيرانا، في 18 أيلول، في فيديو ظهرت فيه على شاشتين كبيرتين على شكل امرأة ترتدي الزيّ التقليديّ وخاطبت البرلمان: “وصفني البعض بأنّني غير دستوريّة لأنّني لست إنسانة. هذا يؤلمني”.
في الواقع، يكمن وراء هذا المشهد السياسيّ توجّه حقيقيّ يسود في عالم اليوم: تعمل الحكومات في جميع أنحاء العالم على إدخال الذكاء الاصطناعيّ في آليّة الحكومة للحدّ من البيروقراطيّة وزيادة الكفاءة والمساعدة في اتّخاذ القرارات. غير أنّ تعيين دييلا يثير سؤالاً مهمّاً: هل نصل إلى مرحلة تتجاوز فيها أنظمة الذكاء الاصطناعيّ تقديم المساعدة وتبدأ اتّخاذ القرارات في الحكومة بنفسها؟
تحوُّل حكوميّ نحو اعتماد الذّكاء الاصطناعيّ
يقول كاري كوغليانيز، أستاذ القانون في جامعة بنسلفانيا والخبير في استخدام الذكاء الاصطناعيّ في الوكالات الحكوميّة، لمجلّة “تايم” إنّ هذا التحوّل هو أمر حتميّ، ويرجّح أن يزداد قبوله، وربّما حتّى الطلب عليه مع اعتياد الجمهور استخدامه في الأوساط الخاصّة، في كلّ شيء بدءاً من اختيار الأفلام التي يشاهدونها على نتفليكس إلى مساعدة الطلبة في واجباتهم المدرسيّة.
بالفعل، بحلول نهاية عام 2024، أبلغت الوكالات الحكوميّة الفدراليّة الأميركيّة عن أكثر من 1,700 طريقة لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ، بما في ذلك تدوين الملاحظات وتلخيص الوثائق الداخليّة ومراجعة التعليقات التنظيميّة، أي أكثر من ضعف عدد حالات الاستخدام المبلّغ عنها في نهاية عام 2023.
في ألبانيا، يعتبر دور دييلا الحكوميّ محدوداً جدّاً مقارنة بما يوحي به عنوانه، بحسب “تايم”
يقول كوغليانيز إنّ قاعدة بياناته الخاصّة تتعقّب الآن أكثر من 3,000 استخدام. يوضح أنّ العديد من استخدامات الذكاء الاصطناعيّ هذه لا تتضمّن أنظمة الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ التي تنتج محتوى جديداً، بل تعتمد بدلاً من ذلك على تقنيّات التعلُّم الآليّ التقليديّة لأداء مهامّ أساسيّة في الأغلب.
تنقل “تايم” عن تقرير صادر في تمّوز الماضي عن مكتب المساءلة الحكوميّة الأميركي، في مراجعة لـ11 وكالة اتّحاديّة مختارة، أنّ عدد حالات استخدام الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ زاد تسعة أضعاف بين عامَي 2023 و2024.
توفير 45 مليار جنيه
وفقاً للتقرير يقود القادة السياسيّون هذا التغيير. يُعتبر تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعيّ في الحكومة أولويّة رئيسة في خطّة عمل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للذكاء الاصطناعيّ، التي صدرت في تمّوز وتنصّ على أنّ “الاستخدام التحويليّ للذكاء الاصطناعيّ يمكن أن يساعد في تقديم حكومة سريعة الاستجابة يتوقّعها الشعب الأميركي ويستحقّها”. بينما تُقدّر المملكة المتّحدة أنّ استخدام مساعدات الذكاء الاصطناعيّ لزيادة كفاءة القطاع العامّ يُمكن أن يُوفّر على دافعي الضرائب ما يصل إلى 45 مليار جنيه إسترليني.

يعتقد كوغليانيز أنّه إذا ثبت أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي تُحسّن أداءها مقارنةً بالبشر وفقاً لمعايير محدّدة بوضوح، يجب أن نرحّب بتبنّيها. مع ذلك، يقول لمجلّة “تايم”: “قد يكون هناك تطبيق واستخدام غير مسؤول أو مهمل أو متهاون للذكاء الاصطناعيّ من قِبل الحكومات، وهو ما يجب انتقاده واستنكاره”. ويوضح: “يتمثّل البعدان الرئيسان في درجة تأثير أداة الذكاء الاصطناعيّ ومدى مساعدته في اتّخاذ القرارات مقارنةً باتّخاذها بشكل مستقلّ. ومع التعمّق في هذه الأبعاد، تحتاج الحكومات حقّاً إلى إخضاع هذه الأمور لأقصى درجات التدقيق والشفافيّة والمشاركة العامّة”.
لم يتمّ تطبيق هذه الضمانات دائماً. لكن كما توضح “تايم” استخدمت وزارة الكفاءة في الحكومة الأميركيّة التي تمّ إنشاؤها حديثاً أنظمة الذكاء الاصطناعيّ في مجموعة من المهامّ، في وقت سابق من هذا العام، بما في ذلك تحديد 100 ألف لائحة فدراليّة لإمكان إلغائها، ومراقبة الاتّصالات الداخليّة لوكالة فدراليّة واحدة على الأقلّ بحثاً عن أيّ عداء للرئيس ترامب وبرنامجه.
في أيلول، عيّنت ألبانيا نظاماً يعمل بالذكاء الاصطناعيّ في منصب وزاريّ، وهو الأوّل من نوعه في العالم
دور رقابيّ يقظ
في ألبانيا، يعتبر دور دييلا الحكوميّ محدوداً جدّاً مقارنة بما يوحي به عنوانه، بحسب “تايم”. غير أنّ رئيس الوزراء إيدي راما ارتقى بالنظام إلى مرتبة وزاريّة لتأكيد جدّيّته في مكافحة الفساد، والتزامه إضفاء الطابع المؤسّسي على التقنيّات المتقدّمة.
لمّا كانت المشتريات العامّة، أي التعاقدات الحكوميّة، هي أكبر سوق عامّة في العالم، إذ تشكّل ما يقارب دولاراً واحداً من كلّ ثلاثة دولارات من الإنفاق الحكوميّ، فقد باتت محوراً رئيساً لجهود مكافحة الفساد في جميع أنحاء العالم. ولذلك تصوّر رئيس الوزراء الألبانيّ الوزيرة دييلا جهة رقابيّة يقظة على هذا القطاع. قال في خطابه الأخير: “دييلا لا تنام أبداً، ولا تحتاج إلى أجر، وليست لديها مصالح شخصيّة، ولا أقارب لأنّ الأقارب هم مشكلة كبيرة في ألبانيا”.
لكنّ نظام “دييلا” لم يُفعّل بعد، ونطاق نشره محدود على الأقلّ في الوقت الحالي. من المقرّر استخدامه في أربع مراحل رئيسة: صياغة شروط العقد، تحديد معايير الأهليّة للجهات المستخدمة، وضع حدّ أقصى للأسعار، والتحقّق من صحّة الوثائق المقدّمة. في كلّ مرحلة، يجب أن يصادق خبير مشتريات بشريّ على توصيات الذكاء الاصطناعيّ.
يوضح إينيو كاسو، مدير الذكاء الاصطناعيّ في الوكالة الوطنيّة للمجتمع المعلوماتيّ في ألبانيا، التي أنشأت النظام بالتعاون مع مايكروسوفت من خلال ضبط نسخة من نموذج GPT الخاصّ بـOpenAI، أنّه يتمّ تسجيل كلّ شيء ومراقبته تقنيّاً.
قبل ترقيتها، كانت الوزيرة “دييلا “التي وُلدت في 19 كانون الثاني 2025 وفقاً لصفحتها الإلكترونيّة الوزاريّة بمنزلة روبوت محادثة على منصّة e-Albania في البلاد، تساعد المواطنين في الوصول إلى معظم الخدمات العامّة في البلاد.
سيحدّد ما سيحدث بعد إجراء ألبانيا ما اذا كان هذا الإجراء نموذجاً طموحاً لمستقبل الحكم
من خلال نحو مليون تفاعل نصّيّ وصوتيّ، أصدرت أكثر من 36,000 وثيقة رسميّة حتّى الآن. يقول كاسو: “لدينا هدف رئيس واحد، وهو جعل كلّ شيء شفّافاً وسهل التفسير قدر الإمكان”. يؤكّد أنّ “النظام وجميع البيانات التي يعالجها مخزّنة في بيئة آمنة”. لكنّه لم يوضح تفاصيل كيفيّة تمكين المواطنين من مراجعة هذه التفسيرات في سياق المشتريات.
ليست حيلة
في خطاب ألقاه أخيراً، قال رئيس الوزراء راما إنّ “ألبانيا بإنشاء أوّل وزيرة للذكاء الاصطناعيّ في العالم، لا تكتفي باحتضان المستقبل، بل تسعى أيضاً إلى القيام بدورها في تصميمه”. أضاف: “دييلا بعيدة كلّ البعد عن كونها حيلة”.
يُعتبر هذا النظام، على الأقلّ في الوقت الحالي، أكثر رمزيّة منه جوهريّة. لكنّ كوغليانيز يتوقّع أن يزداد الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعيّ باطّراد، على الرغم من صعوبة التنبّؤ بوتيرة ذلك. ويقول: “قد تتحرّك بعض الدول بسرعة كبيرة في هذا المجال، فتتعرّض لخطر فشل كارثيّ حقيقي، سواء بسبب مشاكل الأمن السيبرانيّ أو ببساطة بسبب سوء تصميم الأنظمة. وقد يؤدّي ذلك إلى إبطاء تبنّي الذكاء الاصطناعيّ، بالطريقة نفسها التي أبطأت بها كارثة تشيرنوبيل تبنّي الطاقة النوويّة”.
حتّى الآن لا تزال السلطة بيد الإنسان، ودييلا ليست مؤهّلة بعد لإدارة وزارة. لكن مع ازدياد كفاءة الذكاء الاصطناعيّ كلّ بضعة أشهر، وتبنّي المواطنين والمسؤولين الحكوميّين في العالم لهذه التكنولوجيا، فقد يتغيّر هذا الوضع قريباً.
سيحدّد ما سيحدث بعد إجراء ألبانيا ما اذا كان هذا الإجراء نموذجاً طموحاً لمستقبل الحكم، أو تحذيراً من مخاطر انتشار مثل هذه التقنيّة دون قدر كافٍ من الشفافيّة والمشاركة العامّة.
- أساس ميديا



























