كان أقلّ من عام كافياً ليقفز أبو محمّد الجولاني من معقله الإدلبيّ إلى عاصمة أكبر دول في العالم. لكنّ الأمر استغرق 8 عقود ليعبر أوّل رئيس سوريّ منذ الاستقلال من دمشق إلى واشنطن. لئن جال الشرع على عواصم العرب، وأطلّ على الإليزيه في باريس والكرملين في موسكو، فإنّ بكين ولندن تنتظرانه من ضمن رحلة وصلٍ لبلاده مع بقاع الأرض البعيدة والقريبة. حين أثار ترامب “ماضي” الشرع، وجد المعادلة المضادّة. قال: “كلّنا كان ماضينا قاسياً”، وكأنّها استعارة من تعليق وليد جنبلاط قبل أشهر في الموضوع نفسه. قال: “من منّا بلا ماضٍ”.
بدا أنّ الحدث جلل يطلق ثرثرة كثيرة في الولايات المتّحدة وداخل أروقة الإدارة وممرّات الكونغرس. قبل أقلّ من عام كانت الولايات المتّحدة تضع مكافأة من 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن زائر واشنطن وضيف الرئيس الحاليّ. داخل الكونغرس من يتمسّك بقانون قيصر لعام 2019 الذي يفرض عقوبات على “سوريا الأسد” تكبح طموحات “سوريا الشرع”.
يمثّل الشرع لحظة فارقة في الشرق الأوسط ولحظة نادرة في تاريخ سوريا
خبز وملح مع معارضيه
التقى الرئيس السوريّ بأعضاء من الكونغرس، ومنهم من عرفه في دمشق أخيراً. دبّرت سيّدة أميركيّة من أصول سوريّة كرديّة (جاسمين نعمو) مع مجموعة من الأكراد السوريّين (وجب تأمّل هذا التفصيل) لقاء الرئيس السوريّ برئيس لجنة الشؤون الخارجيّة التابعة لمجلس النوّاب الأميركي، النائب برايان ماست (الذي يعارض مع السناتور ليندسي غراهام إلغاء قانون قيصر). الرجل فقد ساقيه في أفغانستان جرّاء انفجار لغم زرعه “إرهابيّون”. بعد اللقاء قال ماست: أصبح بيني وبين الشرع “خبز وملح”.

يمثّل الشرع لحظة فارقة في الشرق الأوسط ولحظة نادرة في تاريخ سوريا. بدا أنّ هندسة اجتماع الشرع – ترامب حملت كثيراً من الرموز والأسئلة. دام الاجتماع ساعتين، بعيداً على غير العادة عن الإعلام. لم يقطع الوفد السوريّ الطريق المخصّص لكبار الشخصيّات التي تزور البيت الأبيض وتعبر مدخل الجناح الغربيّ الممتدّ على الطريق الشماليّ، بل اجتاز مدخل الجناح التنفيذيّ الغربيّ، الذي يُمنع على الصحافيّين دخوله. انشرح صدر الخصوم وراجت قصائد الشماتة.
بروتوكول البيت الأبيض
في آب الماضي عبر قادة أوروبا المدخل نفسه. تعاقبوا واحداً بعد آخر وكانت تنتظرهم على الباب رئيسة البروتوكول نفسها التي استقبلت الشرع ووفده. هكذا هو بروتوكول البيت الأبيض في استقبال رؤساء الدول في زياراتهم الخاصّة وليست الرسميّة الحكوميّة. في الزيارة الأوروبيّة اصطفّ القادة الزائرون، كما حال الوفد السوريّ، أمام ترامب الجالس وراء مكتبه في ذلك الاجتماع الشهير بعد قمّة ترامب – بوتين.
نجح الشرع في إعادة وصل بلاده مع الولايات المتّحدة قد تكون المناسبة إعلان انتقال سوريا إلى المعسكر الغربيّ بقيادة واشنطن
لكن بعيداً عن الاجتهادات البروتوكوليّة، بعث شكل اجتماع ترامب – الشرع وطقوسه بإشارة إلى سوريا وقائدها عن “المرحلة التجريبيّة” التي يمرّر بها ترامب إقدامه الشخصيّ على مدّ سوريا بالدعم وإغداق المديح على زعيمها. ووجّه البيت الأبيض رسالة احترام إلى الكونغرس، إذ لا يستبق الرئيس مزاجاً تشريعيّاً ما يزال قانون قيصر جزءاً من ترسانته. وإن كان القانون الصادر عن الكونغرس لا يسقط إلّا بتصويت الكونغرس، فإنّ ما تستطيعه الإدارة هو تعليق ذلك القانون لمدّة 180 يوماً، وهو تعليق قد يمهّد لـ”برَكة” يمنحها الكونغرس لسوريا وتحوّلاتها.
يردّد ترامب ما يُفهم منه أنّ “الورشة السوريّة” تجري بشراكة ثلاثيّة بين واشنطن والرياض وأنقرة. لكنّه حين أشار إلى أنّ طلب رفع العقوبات عن سوريا أتى من إسرائيل أيضاً، بدا الأمر غير مفهوم وخارج أيّ سياق. قد تكون “الحادثة” سهواً، أو زلّة لسان، أو غاية مفخّخة لسوريا وإسرائيل على السواء. تتناقض الرواية مع تيّار ضاغط، إسرائيليّ الهوى، داخل الكونغرس يدعو إلى عدم رفع العقوبات عن سوريا، وعدم التعويل على حكومتها المركزيّة، وإلى مدّ سبل الوصل، على الطريقة الإسرائيليّة، مع “مكونّات” البلد لا عاصمته.
نجح الشرع في إعادة وصل بلاده مع الولايات المتّحدة. قد تكون المناسبة إعلان انتقال سوريا إلى المعسكر الغربيّ بقيادة واشنطن بعد عقود من تموضعها الثابت داخل المعسكر المضادّ، قريبة من الاتّحاد السوفيتيّ إبّان الحرب الباردة. لم تعُد سوريا داخل الحدائق الخلفيّة لروسيا، ولم تعُد دمشق من العواصم التي تفاخرت إيران بإعلان إخضاعها. باتت سوريا عضواً، إلى جانب 89 دولة، في التحالف الدوليّ ضدّ تنظيم “داعش”. تؤكّد بذلك قطيعتها مع أيّ شبهة في هذا الصدد، وتتدثّر بغطاء أمنيّ معلوماتيّ دوليّ يقي سوريا شرور ذلك الإرهاب.
تريد واشنطن علناً جعل التحوّل السوريّ نهائيّاً، وجعل سوريا حليفاً للولايات المتّحدة داخل المشهد الدوليّ العامّ
تحوُّل نهائيّ
تريد واشنطن علناً جعل التحوّل السوريّ نهائيّاً، وجعل سوريا حليفاً للولايات المتّحدة داخل المشهد الدوليّ العامّ، بما في ذلك ما يخدم سياساتها الشرق الأوسطيّة. تريد واشنطن نهائيّة ما حقّقه ذلك التحوّل من قطع لممرّ طهران – بيروت وتقويض لنفوذ إيران داخل “هلالها” الشهير. بالمقابل تريد سوريا أن تستقوي بدعم واشنطن وحلفائها لوقف عبث إسرائيل في جنوب البلاد وتدخّلها في شؤونها المحلّيّة.
تعوّل دمشق على اتّفاق أمنيّ مع إسرائيل يخفّف أيضاً من الاحتقان في السويداء، وعلى دعم واشنطن لإقناع “قسد” في الاندماج بالدولة السوريّة الجديدة، وعلى مساهمة روسيا (بعد قمّة الشرع – بوتين) في تبريد الرؤوس الساخنة في منطقة “الساحل”. يبقى استرضاء الصين (التي يزورها الشرع قريباً) العاتبة على الشرع احتضان متمرّدين من الإيغور في صفوف قوّاته. لكنّها مع ذلك أبدت مرونة حين لم تعطّل قرار مجلس الأمن لرفع العقوبات الأمميّة عن الشرع ووزير داخليّته.
يبدو رجل سوريا، الذي ما برح يبهر العواصم، قارئاً عميقاً للتاريخ، عالماً بقواعد الجغرافيا، معترفاً أنّ إدارة راهن ومستقبل سوريا تحتاج إلى دراية حاذقة بـ”لعبة الأمم”.
- أساس ميديا























