يتزايد الحديث في وسائل إعلام أميركيّة وإسرائيليّة عن “جهود أميركيّة نشطة”، وإمكان إرسال وفد سياسيّ أمنيّ لاحتواء التوتّر على الحدود الجنوبيّة لسوريا. تُدرك إدارة ترامب أنّ المشهد يتّجه نحو مسار انحداريّ قد يقود إلى مواجهة مباشرة. الغارات الإسرائيليّة، تنامي حضور مجموعات مسلّحة في جنوب سوريا واندفاع دمشق نحو تحسين موقعها التفاوضيّ بعد انفتاحها على واشنطن، كلّها عوامل تجعل أيّ خطأ تقديريّ قابلاً للتحوّل إلى أزمة تتجاوز الحدود السوريّة.
وساطة بارّاك قائمة
تفضّل الإدارة الأميركيّة العمل عبر مبعوثها الخاصّ إلى سوريا توم بارّاك الذي يقود الوساطة الحسّاسة بين دمشق وتل أبيب منذ أشهر، لكنّ مهمّته باتت اليوم أصعب من أيّ وقت مضى، وخصوصاً بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو لخطوط التماسّ في 19 تشرين الثاني التي جمّدت المحادثات عمليّاً.
في واشنطن قناعة واضحة بأنّ الوضع يتدهور بسرعة: أكثر من ألف غارة إسرائيليّة نُفّذت على جنوب سوريا منذ كانون الأوّل 2024، ومجموعات مسلّحة تعيد التموضع قرب الحدود، وسوريا بعد رفع العقوبات الأميركيّة في آب 2025 تسعى إلى فرض معادلة سياسيّة وأمنيّة جديدة تختلف جذريّاً عن مرحلة الأسد.
في الأيّام الأخيرة، عاد التوتّر على الجبهة السوريّة– الإسرائيليّة ليحلّ في صدارة المشهد الإقليميّ
لهذا تتمسّك الإدارة الأميركيّة بوساطة بارّاك، التي تهدف إلى “تثبيت قواعد الاشتباك” ومنع أيّ احتكاك يقود إلى حرب لا يريدها أحد. وكان بارّاك تحدّث عن محادثات “معنويّة” لإعادة الهدوء، مع إمكان إقامة وجود عسكريّ أميركيّ في قاعدة جوّيّة قرب دمشق لمراقبة أيّ اتّفاق محتمل—مقترح لا يزال قيد النقاش ولم يُحسم.
حمل لقاء الشرع– ترامب في 10 تشرين الثاني أيضاً مؤشّراً إضافيّاً إلى رغبة أميركيّة في احتواء الموقف، إذ طرح الطرفان إمكان انضمام سوريا إلى اتّفاقات أبراهام، لكنّ الفجوات الكبيرة بقيت من دون ردم.
بالنسبة لإسرائيل، لا مساومة على جبل الشيخ. الهضبة الاستراتيجيّة بالنسبة لجيش الاحتلال ليست مرتفعاً عسكريّاً وحسب، بل مركز مراقبة وتحكُّم يشرف على العمق السوريّ. لذلك يؤكّد وزير الدفاع الإسرائيليّ إسرائيل كاتس أنّ “الاحتلال سيستمرّ لفترة غير محدودة”، بينما شدّد نتنياهو خلال زيارته الأخيرة على أنّ الوجود الإسرائيليّ “موقع دفاعيّ مؤقّت”، وهي عبارة أثارت إدانات دوليّة لكنّها لم تُترجَم إلى تغيير في السياسة.

يهدف تعامل إسرائيل مع الوساطة الأميركيّة إلى اختبار حدود التحوّل السوريّ – الأميركيّ الجديد. تريد طمأنة واشنطن إلى ثباتها الأمنيّ، لكنّها لا ترغب في أن يؤدّي التقارب الأميركيّ–السوريّ إلى تنازلات على حسابها.
على الجانب السوريّ، تبدو الحسابات مختلفة: الشرع، الذي جاء إلى السلطة بعد إسقاط الأسد، يريد تثبيت شرعيّة دوليّة لسوريا “الجديدة” من خلال اتّفاق واضح يوقف الغارات الإسرائيليّة ويعيد خطوط السيطرة إلى ما قبل 8 كانون الأوّل 2024، وهو شرط أعلنه بوضوح في خطاب 12 تشرين الثاني 2025.
تفضّل الإدارة الأميركيّة العمل عبر مبعوثها الخاصّ إلى سوريا توم بارّاك الذي يقود الوساطة الحسّاسة بين دمشق وتل أبيب منذ أشهر
ترفض دمشق التي تتلقّى دعماً سياسيّاً من تركيا وغطاءً عربيّاً واسعاً فكرة “المناطق المنزوعة السلاح” في سوريا التي طرحتها إسرائيل، وتصرّ على تكامل الجيش السوريّ الجديد، بما في ذلك دمج قوّات سوريا الديمقراطيّة (SDF)، في منظومة واحدة تمتلك السيطرة على كامل الحدود. في المقابل، لا تريد دمشق الحرب الآن. لكنّها لن تقدّم تهدئة مجّانيّة بلا مقابل سياسيّ، ولا اتّفاقاً يُبقي الاحتلال في موقعه الحاليّ ويكرّس الأمر الواقع.
هل تنجح الوساطة الأميركيّة؟
الجواب الأقرب إلى الواقع: النجاح ممكن… لكنّ احتمالاته تتراجع. تمتلك الولايات المتّحدة نفوذاً على إسرائيل، لكنّ تل أبيب تعيش لحظة أمنيّة داخليّة مشحونة: يضغط الجيش لتثبيت خطوطه الحمر، وتخشى القيادة السياسيّة أن يُقرأ أيّ تراجع ضعفاً.
أمّا دمشق فترى أنّ اللحظة مناسبة لفرض شروط سياسيّة قبل أيّ تهدئة عسكريّة، وخصوصاً أنّها خرجت من العزلة وتبحث عن اعتراف إقليميّ ودوليّ بدورها الجديد. لكنّ زيارة نتنياهو الأخيرة، التي وصفتها الأمم المتّحدة بأنّها “مقلقة”، أدّت إلى تجميد المحادثات. وهذا يعني عمليّاً أنّ أمام بارّاك طريقاً ضيّقة ومعقّدة، وأنّ أيّ تقدّم سيتطلّب ضغطاً شخصيّاً من ترامب على نتنياهو، وهو أمر غير مؤكّد في الوقت الراهن.
ترفض دمشق التي تتلقّى دعماً سياسيّاً من تركيا وغطاءً عربيّاً واسعاً فكرة “المناطق المنزوعة السلاح” في سوريا التي طرحتها إسرائيل
السّيناريوهات المحتملة
إزاء هذا الواقع أصبحت السيناريوهات محدودة:
1- تهدئة مؤقّتة: استعادة الهدوء عبر تثبيت خطوط ما قبل كانون الثاني 2024، من دون اتّفاق نهائيّ. قد تصمد أسابيع أو أشهراً.
2- تصعيد تدريجيّ: إذا أصرّت إسرائيل على تعديل قواعد الاشتباك في جبل الشيخ، وتصاعدت العمليّات ضدّ المواقع الإسرائيليّة من قبل منظّمات غير منضبطة لكن قريبة من دمشق.
ليست الوساطة الأميركيّة اليوم بلا قيمة، لكنّها ليست قادرة بعد على فرض حلّ. لا تزال موازين القوى على الأرض لمصلحة إسرائيل، لكنّ الشرعيّة السياسيّة تميل باتّجاه دمشق بعد التحوّل الكبير الذي شهدته منذ سقوط الأسد. حتّى اللحظة، يبدو أنّ الجهود الأميركيّة، مهما كانت جدّيّتها، ستبقى محاولة لتأخير الانفجار، لا منعه، ما لم يُعَدْ ضبط الإيقاع الإسرائيليّ ومعرفة حقيقة نوايا حكومة نتنياهو في ما يخصّ سوريا.
- أساس ميديا



























