لم يسقط في أحد عشر يوماً – في ضرورة مقاومة النسيان رغم صعوبة التذكّر

صادق عبد الرحمن

    • لم يسقط نظام الأسد في أحد عشر يوماً، بل في ثلاثة عشر عاماً وتسعة أشهر.

      أين ذهب النظام العاتي الذي لم يكن يجرؤ أي سوري يعيش في سوريا على المطالبة بسقوطه بصوت مرتفع ووجه مكشوف قبل آذار (مارس) 2011؟ أين اختفت أجهزة الأمن المرعبة التي كنّا نخشاها حتى في أحلامنا؟ ما الذي أسقطه فعلاً؟ ما الذي قاده إلى نهايته في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الماضي؟

      قد تبدو الإجابة الأسهل والأقصر أنَّ تحالفاً من فصائل إسلامية مُسلحة أسقطه في معركة من أحد عشر يوماً، لكن هذه الإجابة ناقصةٌ إلى درجة تكاد تجعلها خاطئة كلياً، لأن الصحيح أن تلك الفصائل أطلقت الرصاصات الأخيرة على جسد نظام مُحطَّم كان يعيش على دعم يومي لا ينقطع من حلفائه.

      لكن من الذي حطّمَ جسد هذا النظام وجعله لقمة سائغة لتلك الفصائل؟ الإجابة ليست عسيرة، لكنها تختفي عند كثيرين تحت طبقة من الرغبة في تجيير سقوط النظام لصالح سلطة تستأثر بالحكم، وعند كثيرين آخرين تحت طبقة من ثقل الذاكرة وصعوبة التذكّر، وصعوبة استخلاص المعنى السياسي من كل تلك السنوات الطويلة بالغة القسوة.

      لقد تظاهرَ مئاتُ آلاف السوريين لأشهر طويلة حتى أفقدوا نظام الأسد سطوته وهيمنته على العقول والقلوب والمصائر، وراح النظام يردّ عليهم بعنف دموي قتلَ الآلاف منهم، ما أفضى إلى تقويض أُسسه وإفراغه من أي بُعد وطني، وأدّى بعدها إلى حرب ضارية مفتوحة خاضت فيها قواته معارك مدمّرة طويلة ضد فصائل معارضة متنوعة راحت تظهر في كل منطقة ثائرة، وتحظى بمقادير متفاوتة من الدعم الإقليمي والدولي بعد أن جفت مواردها المحلية سريعاً. فقدَ النظام سيادته على مساحات واسعة من أراضي البلد ومقدراته، وتسبَّبَ ذلك بإخضاعه لتفاهمات وتوازنات دولية أفقدته استقلاليته وقدرته على المناورة السياسية. دَمّرَ النظام بالمدافع والطائرات المناطق التي انتفضت ضده، ودمّرَ اقتصادَ البلد ومقدراته ومجتمعاته، واحتاج إلى قوات أجنبية تُسانده بينما كان جيشه يتهتك ويتفكك وتَحلُّ محله ميليشيات أهلية وطائفية وأجنبية، بالتزامن مع تحول أجهزته الأمنية إلى ما يُشبه عصابات القتل والنهب أكثر بكثير مما يُشبه مؤسسات أمنية. فُرضت عليه عقوبات قاسية نتيجة مسالكه الدموية الإبادية ونتيجة ارتباطه العضوي بدولة أجنبية هي إيران، وأصبح وجوده رهيناً بدفاع قوات إيرانية عن أرضه وطائرات روسية عن سمائه، وصولاً إلى لحظة جيوسياسية قررت فيها إسرائيل تحطيم القوة الإيرانية في الإقليم، بينما تخلت روسيا عن القتال دفاعاً عن أرضٍ لا تحميها قواتٌ برية قادرة على المواجهة، وتخلّى أنصار النظام السوريون عن أي رغبة بالقتال لأجله بعد أن أصبح هيكلاً فارغاً تماماً. اقتنصت أكثر مجموعات المعارضة المسلحة تنظيماً تلك اللحظة الفارقة بدعمٍ من جهاتٍ إقليمية، وهاجمته بقوات أكثر تماسكاً من قواته، فانهار كقلعة رملية تافهة خلال أيام قليلة.

      كانت إذن سنوات شهدت مظاهرات ضخمة، أعقبتها حرب طويلة ومدمّرة انخرطت فيها جهات عديدة بما فيها دول عظمى، فقد خلالها مئات آلاف السوريين حياتهم، ودُمِّرت حياة الملايين وتفككت مجتمعات بأكملها وتحولت حواضر وأحياء إلى ركام، وهُجِّر ملايين في أربع أصقاع الأرض، وعاش ملايين ضروباً من معاناة إنسانية لا تُحتمَل.

      هكذا سقط نظام الأسد، ليس في أحد عشر يوماً، بل في ثلاثة عشر عاماً وتسعة أشهر.

      ليس التلخيصُ أعلاه جامعاً ولا كافياً، وهو ككلِّ تكثيف وتلخيص سيبدو ناقصاً، لكن القصد أن سقوط الأسد كان حصاداً لسنوات طويلة وآلام عظيمة، وليس لمعركة خاطفة ما كان لها أن تحدث لولا كل تلك السنوات وما شهدته من أحداث وضحايا.

      لقد أطلقت فصائل ردع العدوان الرصاصات الأخيرة على جسد نظام الأسد، وقاتلت طويلاً ضده وكانت مُساهِماً رئيسياً في تقويضه وإضعافه وصولاً إلى إسقاطه. لا يَسعُ أحداً أن ينكر هذا، ولا أن ينكر بالتالي شراكتها المحتومة في صياغة مستقبل البلد وشكل نظامه السياسي، لكن سلوكها وسلوك قيادتها منذ اليوم الأول اتجه نحو السعي للاستفراد بالسلطة في البلد وصياغة شكله الجديد بمفردها، وهذا لا يعني شيئاً إلّا تجيير كل تلك التضحيات والآلام لصالحها وحدها. هذا غير عادل، لكنه – قبل ذلك – لن ينجح بصرف النظر عن الرأي في عدالته من عدمها.

      لن تنجح عملية بناء البلد وحُكمه على يد هذه الفصائل وقيادتها من دون شراكة وطنية واسعة، ليس لأن هناك مبدأ أخلاقياً مجرداً يحول دون هذا النجاح، بل لأن الوقائع على الأرض تحول دونه، منها أن في البلد قوىً أخرى منظمة أو شبه منظمة، ومنها أن تحالفَ الفصائلِ هشٌّ وغير قائم على أسس متينة أو مشروع متماسك، ومنها أن البلد منهارٌ اقتصادياً واجتماعياً بحيث يستحيل توحيده واستقراره دون مشروع وطني جامع، ومنها أولاً وقبل أي شيء آخر أن نظام الأسد لم يسقط في أحد عشر يوماً، بل في ثلاثة عشر عاماً وتسعة أشهر.

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

ديسمبر 2025
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist