لم يستفق السوريون من “سكرة” الفرح بعد. سنة مرّت على ما كانوا يتخيلونه حلماً غير قابل للتحقيق، لكنه أصبح واقعاً. وهم في معرض التعبير عن فرحهم ما زالت عيونهم تشخص نحو المستقبل وما يحمله. أحداث كثيرة “نغّصت” على السوريين فرحتهم، أبرزها أحداث الساحل والسويداء والمجازر التي ارتكبت فيهما، من دون الوصول إلى مصالحة جدية بعد، تعيد دمج كل مكونات سوريا في بنيتها السياسية وبتركيبة الدولة وفي إعادة بنائها، بالإضافة إلى ملف شمال شرق سوريا الذي لا يزال عالقاً، ولا بوادر لحلّه قريباً بطريقة سلمية.
تبقى هذه الجروح الغائرة في الجسد السوري أخطر ما يواجهه المجتمع السوري أو الدولة السورية.
احتفلت سوريا بالذكرى الأولى لسقوط نظام بشار الأسد. غالبية المحافظات خرجت للمشاركة بالاحتفال، لكن مركزية المشهد كانت في دمشق. تلك العاصمة التي تمثل مرتكزاً جيوسياسياً في المنطقة على مرّ التاريخ، منذ معركة عين جالوت أو معركة اليرموك إلى اليوم. والأخطر أن دمشق هذه، لطالما شكلت عنواناً للصراع من أجل السيطرة عليها. وهو يتجدد اليوم من خلال شعور “الأكثرية- الطائفة” بأنها استعادت حقاً كان مسلوباً منها، مع محاولات كثيرة لتطييف الدولة من خلال تطييف العاصمة، ووصف الحكم في سوريا بأنه لـ”السنّة”، أما أبناء المكونات الأخرى فهم من المستلحقين في الحكم وآلية تشكيل الدولة. هذه النزعة تأتي كرد فعل على ما سمي طوال العقود الماضية بأن سيطرة الأقليات على السلطة في المنطقة.
في حال استمر هذا التنازع وتصاعد، فهو بالتأكيد يشكل خطراً وجودياً يهدد وحدة الكيان السوري.
ثمة من يعتبر أن سوريا كدولة وطنية موحَّدة تبقى أمام خيارين، إما أن تكون قيد التشكل عبر دمج مختلف القوى في بناء الدولة والمشاركة السياسية. وإما أن تكون محفوفة بمخاطر السقوط، في حال استمرت الصراعات التي تأخذ بعداً قومياً، أو طائفياً، أو مذهبياً، وبمعنى نزاع الأقليات مع الأكثرية.
هناك نظرة تتكون في دمشق عن نهاية “سوريا السايكس-بيكوية” والتي بموجبها جرى تقسيم المشرق العربي، وهو ما يعود إليه المبعوث الأميركي توم باراك دوماً في تصريحاته حول مساعي أميركا لتصحيح أخطاء دول الاستعمار. وهو ما تحاول دمشق أن تلعبه اليوم من خلال تعزيز العلاقات بينها وبين تركيا، وبينها وبين السعودية وصولاً إلى حد إعادة إحياء خط الحجاز القديم. إذ تكمن أهمية سوريا في استراتيجية موقعها، لأن من يجلس في دمشق سيكون قادراً على التأثير في حواضر وعواصم كثيرة: الأردن، فلسطين، لبنان وحتى بغداد. لذلك، دول كثيرة تريد الحفاظ على مواطن نفوذها في دمشق، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، التي تسربت أخبار عن نيتها بناء قاعدة عسكرية في جنوب دمشق.
تبدو الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة دونالد ترامب أكثر المهتمين بسوريا في هذه المرحلة، وتمنحها الفرصة، مع مواصلة السعي لإلغاء قانون قيصر من قبل الكونغرس، منتصف الشهر الجاري. تتقاطع الولايات المتحدة في نظرتها تجاه سوريا مع المملكة العربية السعودية، تركيا، قطر ودول أخرى. لكن الاستراتيجية الأميركية في عهد ترامب تركز على التعاون والتحالف بين هذه القوى، في محاولة لتقويض أدوار أوروبا على المستوى العالمي. ففي الحرب الروسية الأوكرانية يراهن ترامب على علاقته ببوتين وعلى دور تركيا. وفي الملف الإيراني يستند إلى الدور السعودي- القطري. الأمر نفسه الذي يعتمده في فنزويلا من خلال اتصاله الشخصي بالرئيس الفنزويلي نيقولاس مادورو، أو من خلال مطالبة رجب طيب أردوغان بمساعدته أيضاً.
بالنظر إلى هذه المعادلة، من الواضح أن واشنطن التي وضعت استراتيجية جديدة للأمن القومي، مع استعدادها للتفرغ لمواجهة تحديات في مناطق أخرى من العالم، تريد للشرق الأوسط أن يستقر تحت نفوذها ويكون موالياً لمشروعها. وهي بذلك تريد منح الأدوار لحلفائها مثل تركيا أو دول الخليج، ومن خلال إشرافها المباشر لتثبيت ما تراه استقراراً، عبر إشراف قوات أميركية على كل ما تتم صياغته في المنطقة. وهنا لا يمكن فصل هذا المسار عن التشدد الأميركي في رفض التجديد لقوات اليونيفيل في لبنان، لا سيما أن نتيجة إنهاء عمل اليونيفيل تعني إنهاء النفوذ الأوروبي، ولا سيما الفرنسي. فيما يظهر التنسيق الأميركي، الخليجي، التركي حول ملفات المنطقة ككل، ولا سيما غزة، لبنان وسوريا.
تبقى سوريا أمام تحديات كثيرة، أولها تحدي الوحدة الداخلية، من خلال الوصول إلى حل سياسي للمشاكل في الجنوب، الساحل، وشمال شرق البلاد. وفيما تحتاج سوريا إلى الاستقرار، والذي بدوره يشكل ضرورة لكل دول المنطقة، ربطاً بالمشاريع الإقليمية والدولية، واعتمادها كنقطة تقاطع لخطوط التجارة ومجالات تصدير النفط والغاز، بالاضافة إلى جعلها نقطة ارتكاز محورية تتأثر بها دول الجوار.
وتبقى إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي لا يريد تثبيت الاستقرار فيها، ولذلك هي لا تزال ترفع سقف شروطها للتهرب من توقيع الاتفاق الأمني، كي تتمكن تل أبيب من الاستمرار في التلاعب بالواقع الداخلي السوري، وتغذية الصراعات بين المكونات، خصوصاً بين الأقليات والأكثرية. وهو طبق قد يكون مغرياً لدول كثيرة، تبحث عن مواطن نفوذ أو مصالح على الساحة السورية.
لا يمكن إغفال أن روسيا بدورها تريد استقراراً في الساحل السوري، بناء على تفاهمات مع الشرع، وسط ترجيحات بأن هذه التفاهمات والحرص على الاستقرار، هو الذي دفع بجهات عديدة إلى تسريب كل المعلومات المتعلقة بالتحضير من قبل شخصيات في النظام القديم، للاستثمار بتحركات سياسية أو اجتماعية أو عسكرية في منطقة الساحل. ويضاف هذا إلى استمرار جهات دولية أخرى بمحاولة زعزعة الاستقرار، في إطار مواجهتها للنفوذ الروسي من أوروبا إلى سواحل البحر المتوسط.
وعليه، يبدو الرئيس السوري أحمد الشرع، كمن يعمل على توزيع مناطق النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، برعاية من الولايات المتحدة الأميركية، ليتضح أن المصالح ومناطق النفوذ موزعة، وخصوصاً في الساحل السوري، حيث أبقى على المصالح الروسية عسكرياً واقتصادياً. وأعطى لفرنسا حصة في ميناء طرطوس. بينما تركيا وبتفاهم مع السعودية وقطر تسعى إلى تثبيت الحكم والاستقرار في سوريا، بالإضافة إلى تمتعها بدور بارز لإدارة الوضع ومساعدة الدولة الناشئة، عبر التواصل مع الروس، الأميركيين، وحتى الإيرانيين.


























