تتباين القراءات حول طبيعة العملية العسكرية الأميركية الواسعة الجارية في وسط وبادية سوريا، بين من يراها جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد للقضاء على تنظيم “داعش”، ومن يعتبرها رداً انتقامياً مضبوط الإيقاع وحدود الفعل. ففيما يؤكد مختصون أن الإطار القانوني الدولي لا يسمح بحملة استئصال شاملة ومفتوحة، يشير محللون عسكريون إلى امتلاك التحالف أدوات عملياتية تتيح له خوض عمليات طويلة الأمد، بينما يرى باحثون في الشؤون الدولية أن الهدف الأميركي يتركز على إضعاف التنظيم ومنع تمدده، لا القضاء النهائي عليه.
وهذا التباين يطرح سؤالاً جوهرياً: هل ما يجري في البادية السورية يمثل بداية حسم شامل ضد “داعش”، أم مجرد إدارة مدروسة للتهديد؟
هجوم تدمر: شرارة التصعيد وحدود الرد
جاء التصعيد العسكري الأميركي عقب هجوم استهدف قافلة مشتركة لقوات أميركية وقوات سورية حليفة قرب مدينة تدمر في 13 كانون الأول/ديسمبر الجاري، وأسفر عن مقتل جنديين أميركيين ومترجم مدني وإصابة ثلاثة آخرين، في هجوم نُسب إلى خلايا مرتبطة بتنظيم “داعش” تنشط في البادية السورية.
ويرى الدكتور علاء النشوع، المحلل العسكري الاستراتيجي، في تصريحات لـ”963+” أن هذا الهجوم شكّل عامل تسريع لعمليات كانت أصلاً قائمة ضمن استراتيجية أميركية مستمرة منذ عام 2014، مؤكداً أن واشنطن تعتمد على الرصد الاستخباري طويل الأمد لتحركات التنظيم في البادية السورية وامتداداتها، وأن العمليات الأخيرة تأتي ضمن مسار تحجيم القدرات ومنع تنفيذ هجمات تهدد الاستقرار أو القواعد الأميركية.
في المقابل، يوضح المعتصم الكيلاني، المختص في القانون الدولي وحقوق الإنسان، في تصريحات لـ”963+” أن هذا النوع من الهجمات “يتيح قانونياً الرد الدفاعي المؤقت فقط، استناداً إلى المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، مشدداً على أن الرد على هجوم مسلح يختلف جذرياً عن السعي إلى القضاء الكامل على تنظيم مسلح داخل دولة ذات سيادة”.
أما عصام خوري، كبير باحثي المركز التشيكي السلوفاكي للدراسات الشرقية، فيعتبر في حديثه لـ”963+” أن واشنطن أرادت من هذه الضربات “توجيه رسالة انتقام أولى عقب مقتل جنودها، أكثر من كونها إعلاناً عن معركة حسم نهائي”، لافتاً إلى أن توقيت العملية وأسلوبها “يعكسان رغبة في تثبيت الردع لا توسيع المواجهة”.
استئصال أم إضعاف ممنهج؟
أعلنت القيادة المركزية الأميركية إطلاق عملية واسعة استهدفت بنية “داعش” التحتية، شملت عشرات المواقع في البادية السورية باستخدام مقاتلات ومروحيات هجومية وذخائر دقيقة، في نطاق جغرافي امتد بين ريف الرقة الشرقي وريف دير الزور الغربي وريف حمص الشرقي.
ويؤكد النشوع أن هذا النمط من العمليات يعكس مقاربة عسكرية تقوم على استهداف القيادات ومراكز الثقل العملياتي بدل الانخراط في مواجهات ميدانية مفتوحة، معتبراً أن شلّ مراكز القيادة والإمداد كفيل بمنع التنظيم من إعادة بناء قدراته، حتى دون السيطرة المباشرة على الأرض.
لكن الكيلاني يحذّر من الخلط بين إضعاف تنظيم مسلح والقضاء الكامل عليه، موضحاً أن “الاستئصال يتطلب سيطرة أمنية طويلة الأمد، وملاحقة شاملة للبنية التنظيمية والفكرية، وهو ما يستلزم أساساً قانونياً دولياً أقوى، مثل تفويض صريح من مجلس الأمن أو موافقة رسمية من الحكومة السورية، وهو ما لا يتوافر حالياً”.
من جانبه، يرى خوري أن الاستراتيجية الأميركية “لا تهدف أصلاً إلى تفكيك داعش كتنظيم أيديولوجي، بل إلى منعه من السيطرة على مناطق هشة أمنياً أو موارد اقتصادية قد تمنحه استقلالية مالية”، مشيراً إلى أن “واشنطن تدرك صعوبة القضاء على تنظيم قائم على عقيدة دينية دون شراكة إسلامية معتدلة فاعلة على الأرض”.
رسائل القوة وحدود التأثير
شملت الضربات مناطق واسعة من البادية السورية، واستهدفت مخازن أسلحة ومقرات قيادة ومواقع لوجستية، وسط تقديرات بمقتل عدد محدود من عناصر التنظيم، بينهم قائد خلية للطائرات المسيّرة.
ويعتبر النشوع أن التركيز على الجغرافيا الصحراوية يعكس فهماً لطبيعة عمل “داعش”، الذي يعتمد على المساحات المفتوحة والفراغ الأمني، لافتاً إلى أن “توجيه ضربات دقيقة في هذه المناطق يحدّ من حرية حركة التنظيم ويمنع تحوله إلى تهديد عابر للحدود”.
في المقابل، يرى الكيلاني أن هذه الخسائر، مهما كانت مؤثرة عسكرياً، “لا تغيّر من الطبيعة القانونية للعمليات، التي تبقى محكومة بمنطق الرد الدفاعي، ولا ترقى إلى مستوى حملة استئصال مشروعة دولياً”.
أما خوري، فيربط بين حجم الخسائر المحدود وطبيعة الرسائل السياسية للعملية، معتبراً أن “الهدف هو تثبيت معادلة ردع إقليمية، لا فتح جبهة استنزاف جديدة، خصوصاً في ظل حسابات واشنطن المتعلقة بحلفائها وتوازناتها مع قوى إقليمية ودولية”.
نحو توسعة أم ضبط الصراع؟
أشارت تقارير إلى مشاركة سلاح الجو الأردني في ضربات ليلية، إضافة إلى معلومات عن عمليات مشتركة مع القوات السورية عقب هجوم تدمر.
يرى النشوع أن هذا التنسيق يعكس قدرة التحالف على بناء شبكة عملياتية إقليمية قادرة على دعم عمليات طويلة الأمد، مؤكداً أن التعاون الاستخباري والعسكري مع دول الجوار يشكّل عنصر قوة في مواجهة التنظيم.
لكن الكيلاني يشدد على أن “أي تنسيق غير معلن أو غير موثق قانونياً لا يمنح شرعية كاملة للعمل العسكري”، مؤكداً أن “غياب إعلان رسمي من الحكومة السورية يبقي العمليات في منطقة رمادية من حيث الشرعية الدولية”.
من جانبه، يقرأ خوري مشاركة الأردن كرسالة سياسية مفادها أن “قوى عربية إسلامية معتدلة ستكون شريكاً في رسم مستقبل أمني لسوريا خالٍ من الفكر الجهادي المتطرف”، معتبراً أن “هذا التوجه يخدم استراتيجية واشنطن في دعم قوى الاعتدال، لا فرض حسم عسكري شامل”.
إدارة التهديد أم القضاء عليه؟
تتقاطع آراء الخبراء الثلاثة عند نقطة أساسية: ما يجري في البادية السورية لا يرقى، حتى الآن، إلى مستوى حملة استئصال كاملة لتنظيم “داعش”. فبين القيود القانونية التي تحكم الفعل العسكري، والمقاربة العملياتية التي تفضّل الإضعاف على السيطرة، والحسابات السياسية والإقليمية التي تضبط سقف التصعيد، تبدو استراتيجية التحالف الدولي أقرب إلى إدارة التهديد ومنع تمدده، لا إنهائه جذرياً.
وعليه، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تمثّل هذه العمليات تمهيداً لتحوّل استراتيجي أوسع، أم أنها حلقة جديدة في سياسة الاحتواء طويل الأمد؟ الإجابة، وفق معطيات اللحظة، تميل إلى الخيار الثاني.
- 963+


























