أيا تكن الطريقة الشخصية التي قدم بها أمين عام جامعة الدول العربية فكرة "رابطة دول الجوار العربي" في خطابه أمام القمة العربية، بل أيا يكن موقف النخبة المصرية الحاكمة من خطاب الامين العام، وهو أحد أعضائها البارزين، بل أيا يكن موقف الرئيس المصري حسني مبارك والمجموعة النافذة المحيطة به من هذه الفكرة التي أطلق معها عمرو موسى فكرة حوار عربي – ايراني.
أيا يكن كل ذلك – ومن المثير الاقتناع بأن عمرو موسى سيطلق اقتراحين بهذه الخطورة (الرابطة والحوار) من دون موافقة الرئاسة المصرية وعبرها البلاط السعودي – … أيا يكن، فان خطاب عمرو موسى دلالة واضحة، بل اعتراف واضح بمستوى المتغيرات الاستراتيجية في المنطقة، حتى لو أن وزيري الخارجية المصري والسعودي سارعا الى "استبعاد الحوار مع ايران حاليا".
ها هو النظام العربي الاقليمي او الأدق "الاستاتيكو الاقليمي العربي" في مرحلته الانتقالية الراهنة التي أطلقها الحدث العراقي عام 2003… ها هو هذا "الاستاتيكو" يدخل مرة جديدة مرحلة تكيف مع معطيات لا سابق لها بكل المكر التكتيكي والقلق الاستراتيجي اللذين يتداخلان في نص شخصية عربية محترمة من نوع عمرو موسى.
أخيرا اذن، اعترف "النظام الاقليمي العربي" بالحاجة الى رابطة جوار اقليمي، قاطعا مسافة أكثر من أربعين عاما على عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي وسم فكرة دول الجوار بمضمون عدائي وتحديدا ضد تركيا وايران (مضافتين على العدو الرسمي الاسرائيلي) بعدما استطاع اقصاء بل ضرب المفهوم الايجابي لفكرة "دول الجوار" التي حاول ان يقودها النظام الملكي الهاشمي في العراق وتحديدا نوري السعيد تحت مظلة غربية أصبحت مظلة بريطانية فقط بعد انسحاب الولايات المتحدة السريع من دعم مشروع "حلف بغداد" مع تركيا وايران وباكستان ولربما بعدما حاربته (أي الحلف) اسرائيل بسبب رفض نوري السعيد القاطع ادخالها فيه ومسايرة رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس الثابتة له.
ثم يأتي هذا الاقتراح – في دلالته العربية حتى ولو لم يتحول بعد الى فكرة رسمية – بعد أقل من عقد على تشكيل لجنة دول جوار العراق، والتي شكلت أول مبادرة عربية لعمل مشترك جيوبوليتيكي مع تركيا وايران… الى ان جاء الاختراق الكبير الذي شكل أكبر منعطف في مستوى العلاقات العربية – التركية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وبعد طول "حرب باردة" ثنائية… أي الاختراق الذي قاده النظام السوري باتجاه تركيا، وقادته تركيا باتجاهه في اقامة علاقات وثيقة جدا بين الدولتين، تأسست قاعدتها مع اتفاق أضنه عام 1998 ثم تلاحق ليتحول الى بناء متين بين الدولتين في عهد الرئيس بشار الاسد.
لا أتكلم هنا عن العلاقات المديدة الطبيعية بين تركيا ودول الخليج وبين تركيا ومصر منذ عقود، لكن كل تلك العلاقات لم تكن في السابق لتشكل مع غيرها إطارا للدور التركي الجديد في الشرق الاوسط. بينما عبر سوريا والعراق… وفلسطين صارت تركيا لاعبا كبيرا في المنطقة بأدوات مختلفة عن اللاعب الكبير الآخر ايران.
•••
لم يعد سرا أن الطاقم الحاكم المصري ليس مرتاحا فعليا الى الدرجة "العضوية" التي بلغها الدور التركي في عدد من الدوائر في المنطقة، إلا أن الاكثر احراجا كانت تطورات الدائرة الفلسطينية منذ حرب غزة، ناهيك طبعا عن أن العلاقة التركية – السورية شكلت لاجما للاندفاعة المصرية – السعودية في الضغط على النظام السوري بعد العام 2005 وخصوصا عبر لبنان، قبل ان تدفع التطورات السعودية الى مصالحة جدية ومتينة مع سوريا في العامين المنصرمين.
في صياغة عمرو موسى توصيف حساس من موقع النظام الاقليمي العربي للفارق بين العلاقات العربية مع تركيا والعلاقات العربية مع ايران، يقدم الاولى باعتبارها نموذجا ايجابيا، والثانية باعتبارها حسب تعبير الامين العام نموذجا لـ"مدى قلق البعض منا ازاء عدد من المواقف الايرانية".
المفارقة المدهشة في هذا المجال ان الجزء الأكبر من "النظام الاقليمي العربي" وخصوصا السعودية ومصر أظهر كفاءة في القدرة على استخدام الصورة السلبية لايران اكثر مما استطاع الاعتماد على الدور التركي!
بهذا المعنى فان المخاوف من ايران، وهي فعلية، خدمت استقرار السعودية ومصر، او على الاقل أعطتهما أوراقا دفاعية وحتى هجومية ساهمت في تقويتهما في مرحلة كانت سياساتهما الداخلية كما الخارجية تواجه العديد من المعضلات وتعوزها "قضية" تعبوية. بينما – على الاقل بالنسبة لنظام كالنظام المصري – فان استقبال "الصديق" التركي في معادلات المنطقة الجديدة يبدو اكثر صعوبة بأشواط ولأسباب متعددة، من التعامل مع "العدو" الايراني. فالمسافات المذهبية كما القومية كما الصورة الايديولوجية المتوترة لطهران سمحت بخطاب مصري – سعودي فعال ضد ايران بينما النجاحات التركية التحديثية والديموقراطية والاقتصادية ناهيك عن الديبلوماسية القوية كانت محرجة غالبا في السنوات الاخيرة للعاصمة المصرية.
بكلام مختصر: بدا سهلا ولا يزال على القاهرة والسعودية ان تواجها بفعالية "قوة عدم استقرار" كايران، تعتمد "عدم الاستقرار" حتى الآن ورقة في مواجهتها مع الولايات المتحدة الاميركية، من استيعاب "قوة استقرار" كتركيا، تبني كل ديبلوماسيتها على دعم الاستقرار في المناطق المحيطة بها، وليس لديها في الشرق الاوسط – باستثناء المشكلة المتصلة بأكرادها في الجنوب الشرقي وهي مشكلة داخلية – أي توتر عسكري، ودعم لأي مشروع عسكري – سياسي في المنطقة.
إذن الصديق التركي، أكثر تحديا – من الناحية العملية للدور من "العدو" الايراني. وهذا ما ينطبق على السياسة المصرية.
لهذا ربما يشكل خطاب عمرو موسى أول صياغة لرؤية تخرج النخبة المصرية الحاكمة نفسها من الاطار الذي وضعت نفسها او أرغمت على وضع نفسها فيه.
"النهار"




















