تسجل الحياة السياسية اللبنانية اليوم مفارقة كبرى، قوامها سيطرة الهدوء السياسي بين الفرقاء، وانتشار الأمن في مختلف الربوع اللبنانية.. مقابل استمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية معلقة من غير حلول، بدءا من الانتخابات البلدية، وصولاً إلى التعيينات في المراكز الشاغرة في المؤسسات الرسمية أو التي تشرف عليها الدولة.
مروراً بالإضرابات المتتالية في قطاع التعليم الجامعي والثانوي، وانتهاء بأزمة الكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات عموماً. فمن أين تنشأ هذه المفارقة؟ وما سبب الارتخاء في الحياة السياسية؟
المراقبون المطلعون يعيدون ما ينعم به لبنان من سلم أهلي، إلى التوافق السعودي السوري، الذي بات واضحا أنه يشمل عددا كبيراً من ملفات النزاعات العربية. ويتجلى هذا التوافق، لبنانيا وعربياً، في الميادين الآتية:
أولاً؛ نجاح زيارة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري إلى سوريا، في تفكيك القنابل الموقوتة التي كانت مزروعة على كل صعيد. فالتنسيق بين الأجهزة اللبنانية والسورية استعيد بدرجة كبيرة، فضلاً عن التنسيق العسكري المتنامي بين الجيشين.
والملفات العالقة بين البلدين، بدءا من الاتفاقات الاقتصادية والاجتماعية التي عقدت بينهما في فترة الوصاية السورية، بدأت تناقش في إطار اللجان المشتركة. والرئيس الحريري يعد دراسات مفصلة حول الاتفاقات المبرمة، من أجل مناقشتها مع الجانب السوري في زيارته المرتقبة أواسط ابريل إلى دمشق.
ثانيا؛ إقدام الرئيس الحريري على إجراء تغييرات في هيكلية تيار «المستقبل»، وفي جهازه الإعلامي الصحافي والتلفزيوني، من أجل إبعاد من كانوا رموزاً في العداء لسوريا خلال مرحلة الصدام بين الطرفين، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وقد لعبت الاجتماعات المتتالية بين المسؤولين السعوديين والسوريين، دوراً حاسماً في بدء الشروع في هذه العملية التغييرية داخل مؤسسات الحريري، كما كان للضغط السعودي على الرئيس الحريري دوره الرئيس في جعل حركة التحرك الحريرية تنسجم مع أجواء التوافق الجديد.
ثالثاً؛ نجاح وساطة «حزب الله» في فتح الطريق أمام زيارة النائب وليد جنبلاط إلى سوريا (المتوقعة بعد القمة العربية بأيام، وفق ما أعلنه الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع محطة «المنار»). ومعلوم أن العلاقة الحالية بين «حزب الله» والقيادة السعودية، تتسم بالدفء والتنسيق في الملفات اللبنانية الكبرى.
رابعاً؛ تجاوز الحملة التي شنت أخيراً على رئيس الجمهورية ميشال سليمان، الذي يحظى بدعم سوري وسعودي تجلى أخيراً في التحرك الذي قام به السفير السوري في بيروت.
خامساً؛ قيام السعودية وسوريا بدور رئيسي في التحضير لإجراء المصالحة بين «فتح» و«حماس» وحلفائهما، استعداداً لتوقيع وثيقة التفاهم بين الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين. وكان لافتا للنظر مؤخراً، قيام رئيس المكتب التنفيذي في «حماس» خالد مشعل، بزيارة الرياض واللقاء بكبار المسؤولين السعوديين.
سادساً؛ الاتفاق بين السعودية وسوريا على دعم إياد علاوي في الانتخابات العراقية، والضغط المشترك من أجل وصوله إلى رئاسة الحكومة، تعبيرا عن تفاهم تشارك فيه إيران.
سابعاً؛ نجاح الوساطة السعودية في منع التدهور في العلاقات السورية ـ المصرية، والشروع في مرحلة استعادة التنسيق الذي كان قائماً بين الثلاثي السعودي ـ المصري ـ السوري، والذي طبع الواقع السياسي العربي لفترة طويلة. وكان واضحا من خلال مواقف الرئيس بشار الأسد، أن المصالحة السورية المصرية تنتظر تعافي الرئيس حسني مبارك من أزمته الصحية واستعادة نشاطه السياسي.
ثامناً؛ نجاح التنسيق السعودي السوري في إطفاء حرب اليمن، والوصول إلى توافقات أمنية مع الحوثيين، وضعت حدا للحرب التي كادت تهددّ المملكة العربية السعودية بالانتقال إلى داخل أراضيها. وليس سراً ان الحوثيين كانوا يلقون دعما من طهران، التي دفعها حرصها على العلاقة الاستراتيجية مع سوريا إلى إعادة النظر في مواقفها على الساحة اليمنية.
هذه العناوين من التفاهم السعودي ـ السوري، بدأت من التفاهم على وصول الرئيس ميشال سليمان إلى الرئاسة، وتجلت في قمة الدوحة التي شكلت ثمرة هذا التفاهم، الذي حال دون دخول لبنان في حرب أهلية جديدة، بعد حوادث 7 مايو ذات البعد المذهبي الصريح.
إلى كل ذلك، يضاف أن الرياض تلعب دوراً رئيسياً في التقارب الأميركي السوري، الذي ينعكس بدوره هدوءا أمنيا وسياسياً على الساحة اللبنانية.
فهل تدوم هذه العلاقة الدافئة بين القطبين العربيين لمصلحة العالم العربي كلاً، ولبنان على وجه التخصيص؟
كاتب لبناني
"البيان"




















