ارتفعت في الآونة الأخيرة بالأوساط الرسمية والشعبية والإعلامية أصوات التأوه والتحسر على حال التعليم ومؤسساته ، واتسعت دوائر الأنين والشكوى بين الأهل على مستقبل أولادهم وفرصهم في الحصول على نصيب من التعليم يوازي ما ناله أهلهم قبل عقود من الزمن . جاء ذلك إثر صدور قرار وزارة التربية بإغلاق 2500 معهداً خاصاً ، يقوم بتدريس المناهج الرسمية ، وخاصة لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية ، بعد أن نجحت هذه المعاهد ( التي ولدت نتيجة تواطؤ وفساد مكشوفين من قبل الإدارات التربوية والوصائية ، ٍحين أعطت التراخيص باسم " معاهد لتدريس اللغات " فقط ، وهي تعلم بحقيقتها وحقيقة ما يجري بين جدرانها . فالشراكات قائمة والدفع والقبض مستمران ) ، نقول نجحت هذه المعاهد في تسريب الطلاب ، وتهجير المدرسين إليها شيئاً فشيئاً . بحيث صارت المدارس الرسمية قاعاً صفصفاً ، تتعايش مع عجزها وتخلفها وسمعتها التي تتردى بين عام دراسي وآخر ، لتصل إلى الحضيض .
أمَّن " أولاد الست " من المسؤولين والمتمولين أبناءهم في المدارس الدولية والمتميزة ذات الأقساط الخيالية ، وتركوا لـ " أولاد الجارية " الثانويات الرسمية أبنية فسيحة وملاعب واسعة وأماكن كثيرة شاغرة ، يسكنها الخمول والإهمال وآلية الاستمرار . فالمدرسة التي كانت تخرِّج ثلاث أو أربع شعب من طلاب الثانوية العامة بفرعيها ، أصبح اليوم رصيدها من الطلبة لا يكاد يغطي ملاك شعبة واحدة . ومثل ذلك في صفوف الثالث الإعدادي . وعن محتوى العملية التربوية داخل هذه المدارس حدِّث ولا حرج ، فنتائج آخر العام تكشف المستور . أما التعليم الفني بمختلف اختصاصاته فلا أراك الله مكروهاً ، لأن الوضع كارثي بكل المعايير .
لم يقتصر تردي الوضع التعليمي ومؤسساته على المراحل ما قبل الجامعية ، بل تعداه للتعليم الجامعي في مختلف جامعات البلاد . وشهادة وزيرة الاقتصاد السيدة لمياء عاصي خير دليل حين تقول : " ثمة خريجون ليس لديهم الكفاءات والمهارات ليقوموا بأعمال واختصاصات معينة " . مما يعني وجود فجوة كبيرة بين متطلبات سوق العمل واحتياجاته وبين مخرجات التعليم الجامعي ومستوياته . وهو وضع يعرفه المديرون وأرباب العمل حق المعرفة ، وحتى الخريجون أنفسهم لا ينكرونه . دون أن نتحدث عن الفساد المستشري المخجل والمؤلم معاً .
كيف وصل التعليم الرسمي في سورية إلى هذا الوضع ؟ !
هل كان ضحية زلزال أو صاعقة وقعت عليه فجأة ؟ !
وأي تسونامي اجتاح وزارة التربية ومديرياتها ومؤسساتها ، ليصل القطاع التربوي إلى هذا الدرك ؟ !
لقد قامت الدولة ومؤسساتها التربوية بقيادة عملية التعليم بكفاءة واقتدار خلال ثلاثة عقود بعد الاستقلال ، وتخرجت من مدارسها وجامعاتها النخب العلمية والثقافية المؤهلة في مختلف المجالات . وكان عطاؤها محط فخر واعتزاز للسوريين ، يضاف إلى الرصيد الكبير لدولتهم الوطنية الفتية .
هل تدرك السلطة – التي يعلو صوت البكائين فيها – أن زرعها أنتج هذا الحصاد ، وأن البلاد تجني اليوم ثمار السياسات التي طبقت في هذا القطاع ؟ ! فالمنهاج المدرسي والطلاب والمدرسين والأهل أيضاً بعض ضحايا نهج التلقين والتمييز والتسييس المسطح للتربية ، الذي أدى إلى هذا الخراب .
بدأ تشويه العملية التربوية في المدارس والجامعات عبر تحويلها إلى مراكز سلطوية ، وأحياناً أمنية ، للتصفيق والتهليل والتهريج لما تريده السلطة ، ما أدى إلى انفصالها كلياً عن المجتمع وإرادته وحاجاته . وتطور الأمر دراماتيكياً ، عندما باشرت السلطة سياسة " تبعيث التعليم " مع بداية السبعينات ، حين جرى حرمان التعليم من عدد كبير من خيرة خبراته التربوية ، بنقلهم من ملاك التربية إلى الأعمال الإدارية في وزارات الدولة الأخرى . وصارت الإدارات التربوية والصفوف المدرسية تزدحم بنماذج بديلة ، كل كفاءتها تقديم الولاء وتنفيذ التعليمات وإتقان الاحتفال والتصفيق وتقديم التقارير . فتحولت المدارس إلى أماكن سياسية لا سياسة فيها ، تطبل وتزمر للحزب الحاكم والجبهة والسلطة المستبدة . وفي ظل هذه المناخات التي تزخر بكل شيء إلا التربية ، فقد المدرسون هيبتهم ودورهم وأسباب عيشهم بكفاية أيضاً ، حيث تعرض كثيرون منهم لحوادث اعتداء وامتهان كرامة مادي ومعنوي ، دون أن يجدوا من ينصفهم أو يدافع عنهم . فنقابة المعلمين نفسها أضحت أداة من أدوات السلطة ، بل واحدة من أقسى هراواتها على المعلمين .
وعندما تتحول الصفوف إلى ميدان للاستقواء السلطوي ، ومنابر للحشو والتعبئة والتحريض بعيداً عن العلم والمعرفة والأخلاق وأصول التربية ، وتصير المخابر المدرسية دون تجارب ومختبرين ، والمكتبات يسكنها النعاس ويعلوها الغبار ، والإدارات تتلهى بنفسها ، وتهتم بإرضاء أولي الأمر من السلك التربوي ومن خارجه .
فأي نتائج يتوقع السادة القائمون على السياسة التربوية الحصول عليها ؟ ! وماذا ينتظرون بعد أن حولوا كل شيء في المدارس الرسمية إلى عوامل طرد للطلاب وأساتذتهم نحو المدارس الخاصة ؟ !
وهل يدفع هذا الواقع المرير السادة المسؤولين في وزارة التربية ومكتب التربية القطري والفرعي وفي نقابة المعلمين وفي الفروع الأمنية ، وكذلك المسؤولون التربويون في الشعب الحزبية والجبهوية وفي مجالس المدن والبلدات إلى استخلاص الدروس الصحيحة والاستنتاجات المناسبة ؟ !
الآن وبعد أن هجر الطلاب المدارس الرسمية ، ووصلت أزمة التعليم في سورية إلى الأوج ، يتكاثر الندابون والبكاؤون الذين ساهموا في صنع هذه الحالة .
فهل تنفع عمليات الزجر والتقييد والقسر والإلغاء لتراخيص المعاهد الخاصة في إصلاح الوضع ؟ !
وأين هي خطة الإصلاح المعتمدة لإنهاض التعليم الرسمي من كبوته ، التي يجب أن تشترك في بنائها وتنفيذها الإدارات التربوية والمنظمات المجتمعية والناس المعنيين أنفسهم ؟ !
وهل يمكن أن يتم ذلك دون نهج للإصلاح ، يحمل معالم تغيير شامل ، يبدأ من السياسة والاقتصاد والمجتمع ، ولا ينتهي بالتربية والتعليم ؟ !
ليس للقمع أن يصلح ما أفسده القمع .
رحمة بالطلاب . . رحمة بالمستقبل . . رحمة بالوطن أيها السادة .
15 / 5 / 2010
هيئة التحرير