في معرض توضيحه لمسألة طلبات التوقف عن العمل ، التي تقدمت بها 46 منشأة صناعية ، قال وزير الصناعة الدكتور فؤاد عيسى الجوني عن وضع الصناعة النسيجية : " وردت إلينا آراء كثيرة ومتعددة ، ونحن الآن بصدد دراستها بشكل نهائي لرفع المقترحات المناسبة إلى الجهات الوصائية لاتخاذ القرارات المناسبة التي تضمن استمرار وتطور هذه الصناعة " .
هكذا إذن . . القرارات ليست في الوزارة ولا من شأنها ، وقد لا تكون في الحكومة أصلاً . إذ يقتصر دور وزارة الصناعة ( كما يشير تصريح السيد الوزير ) في معالجة شؤون القطاع الصناعي العام والخاص على تلقي الآراء والمقترحات ودراستها ورفع المقترحات إلى جهات ( معينة ومعنية ) غير معروفة بالنسبة للرأي العام ، وربما من قبل العاملين في القطاع الصناعي نفسه ، يشار إليها باسم " الجهات الوصائية " . أي أن للوزارة أن تلعب دور ساعي البريد فقط بين أصحاب الرأي من جهة وأصحاب القرار من جهة أخرى . وفي أحسن الأحوال، يمكن لها أن تلعب دوراً استشارياً بتقديم المقترحات المناسبة ، التي من المحتمل أن يأخذ بها أو يهملها المقررون . وهم بالقطع خارج وزارة الصناعة والقطاع الصناعي برمته . وإذا كان هذا واقع الحال بالنسبة للوزارة ، فكيف يكون بالنسبة للإدارات الصغرى والشركات والبلديات ؟ !
بالطبع ليس المقصود بـ " الجهات الوصائية " المواقع الإدارية والسلطوية العليا في رئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهورية أو مجلس الشعب والمكاتب واللجان المتخصصة العائدة لكل منها . فهذه جهات تتولى صلاحياتها ومسؤولياتها وفق الدستور والنظام الإداري العام والقوانين الخاصة بتسيير أمور الدولة ومؤسساتها . وعلاقتها بالوزارات المعنية علاقة رئيس بمرؤوس ، تحددها القوانين الإدارية الناظمة وحقوق الرقابة والتوجيه التي تمارسها الهيئات والمؤسسات الأعلى على الهيئات والمؤسسات الأدنى في هيكلية الدولة .
أما " الجهات الوصائية " المشار إليها فهي جهات خارج الانتظام العام لأجهزة الدولة ومؤسساتها ، أو صاحبة الاختصاص فيها. وفي حالة الصناعة هي ليست جهات اقتصادية ، إنما سياسية حزبية وأمنية ونقابية وغير ذلك . وعلى ذمة الإدارات العامة لمؤسسات وشركات القطاع الصناعي ، بلغت الجهات الوصائية ست عشرة جهة ، يتوجب على الإدارة المعنية العودة إليها لمعالجة شؤونها وإعداد قراراتها وتأمين صدور هذه القرارات . وبالتالي فإن قرار المؤسسة ليس منها ، وقرار الوزارة لا يصاغ فيها ، لأنه موزع بين ست عشرة جهة وصائية ، لا يكون معظمها في الصورة الحقيقية للوضع ، ولا يتمتع بالخبرة المناسبة أو الكفاءة اللازمة لصنع القرار . وقد كان ذلك باستمرار موضع استياء العاملين في المصانع والمنتجين في مواقع الإنتاج . إذ ترسم القرارات المصيرية و المؤثرة على حياتهم ، والتي تمس مستقبل القطاع الصناعي أيضاً ، في غرف مغلقة بعيداً عن صخب الآلات وروائح المنتجات وجوهر عمليات الإدارة والإنتاج والتسويق . ويقوم بفرضها من فوق أشخاص ، تنحصر كل ميزاتهم بما يتمتعون به من مقادير السلطة والتسلط ، التي منحتهم حقوقاً ليست لهم وأدواراً خارج الأصول القانونية والشرعية ومهمات لا يقدرون على القيام بأعبائها . لكنهم نافذون ولا يتعرضون للمساءلة ، استأثروا بالسلطة التي منحوها لأنفسهم ، وأزاحوا أصحاب القرار الفعليين عن مواقعهم وأدوارهم ، وانتزعوا منهم صلاحياتهم .
فهل من عجب بعد ذلك من اهتراء المؤسسات واستشراء الفساد وضياع المسؤولية ؟ !
وإذا كان الوزراء ووزاراتهم بحاجة إلى " جهات وصائية " ، ترشدهم وتصنع لهم القرارات اللازمة ، فأين هي الإدارات التي بلغت سن الرشد ؟ ! وكيف يمكن أن تتم المحاسبة على النتائج بعد ذلك ؟ !
وبعد الحصاد الكارثي للعلاقة الوصائية طويلة الأمد على الصعيد الاقتصادي ، هل يجوز الاستمرار بنفس النهج ونفس الأسلوب ؟ !
وما معنى مشاريع " التطوير والإصلاح " التي يكثر الحديث عنها والتبشير بها ، إذا بقيت القرارات مجهولة النسب وإمكانية المحاسبة غائبة ، إلا أن نبقى في دوامة ( فالج لا تعالج ) ؟ !
وهل تسمح الأوضاع الاقتصادية للبلاد والأحوال المعيشية للشعب بالمزيد من التجريب و إهدار الوقت ؟ !
وكيف نواجه تعقيدات العلاقات الدولية وتصاعد الأزمات العالمية وأجواء التنافس والصراع المستعرة بالاستمرار في هدر الطاقات وفرض القيود وكبح مشروع الإصلاح الحقيقي الذي تحتاجه البلاد ، ولا تستطيع دخول العصر من دونه ؟ !
ليس لشعب يعيش تحت الوصاية أن يواجه استحقاقات المستقبل والرد على التحديات بمواقف إيجابية وبنّاءة . وليس لإدارات ومؤسسات تنتظم بعلاقات وصائية مع السلطات العليا أن ترد على الإخفاقات والصعوبات بإنجازات فعلية ، تحسب لها وتؤمن النهوض المطلوب للوطن .
25 / 5 / 2010
هيئة التحرير