ستون عاماً مرت على ولادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ويحق للعالم – كل العالم – أن يحتفي بهذه المناسبة ويحتفل بها . فقد تغير حقاً وجه العالم .
إذ اختفت عن وجه الأرض العبودية وأنظمة الفصل العنصري وبقاياها المقيتة . وها هي الأرض الأمريكية ، التي شهدت بعض فصولها البغيضة ، تنتخب للبيت الأبيض رئيساً من أصول أفريقية ومسلمة .
ودفن العالم النظام الاستعماري البائد بتحقيق الاستقلال التام والناجز لمعظم شعوب الأرض وحركاتها الاستقلالية من أجل البناء الوطني ، فوصل عدد الدول العربية المنتظمة في جامعة الدول العربية إلى 22 دولة بعد أن كانت سبع دول فقط . وصار عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة أكثر من 160 بينما كانت عند نشأة المنظمة أقل من خمسين .
وذهبت إلى غير رجعة الأنظمة الفاشية والنازية ، وانطوت صفحة معظم الدول الشمولية الاستبدادية التي حكمت شعوبها بالقهر وعقيدة الحزب الواحد بعيداً عن إرادة الإنسان وحقوقه وحرياته .
وعلى مستوى الحريات العامة والخاصة والحقوق المتساوية بين المواطنين ، فقد تميز نصف القرن المنصرم من عمر الكون بازدياد الوعي بأهمية هذه القضايا ، وجرى تثبيتها في دساتير الدول والقوانين الناظمة للعلاقة بين السلطة والمجتمع . وانتقل الناس من وضع الرعايا في امبراطورية يخضعون لها ولسلطان حكامها النافذين إلى موقع المواطنين في دولة يبنونها ويشاركون في إدارتها .
أما على صعيد المرأة والطفل والأقليات الموجودة في المجتمعات ، فقد تطور وضعها الحقوقي نظرياً وعملياً بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم .
لكن الإنسان العربي ، بعد أكثر من ستين عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ليس بوضع أفضل . رغم توقيع معظم الدول العربية على الإعلان المذكور وتعهدها بالالتزام بشرعة حقوق الإنسان والوثائق الدولية ذات العلاقة .
فما زال الوضع العربي عموماً ووضع الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص يعاني من الكيان الاستيطاني العدواني العنصري الذي زرعه الاستعمار ودعم وجوده في بلادنا . فهو يدمر الحياة العامة والخاصة لأبناء الشعب الفلسطيني ، ويهدر منظومة الحقوق والحريات للإنسان المعاصر ، وينتهك يومياً وبشكل فظ شرعة حقوق الإنسان وأولها الإعلان العالمي المذكور .
ومازالت الدول العربية – باستثناءات طفيفة – على اختلاف أنظمة الحكم فيها تشكل معاقل مغلقة على جميع الانتهاكات للإنسان وحقوقه . فمن دول لم تتوصل بعد إلى معنى الحياة الدستورية وأهمية وجود دستور ينظم الحياة العامة ، ويشكل معيناً لصياغة القوانين والأنظمة النافذة في الدولة . إلى دول تتبنى دستوراً شكلياً أو مفصلاً على قياس الحاكم ، يمنحه سلطات مطلقة ، ويطلق يده على جميع المؤسسات وبالتالي في رقاب الشعب وفق هواه ومصالحه وأحياناً كثيرة نزواته . إلى دول تديرها أجهزة القمع بالوسائل العنفية المختلفة رغم وجود حكومات في الواجهة وبرلمانات صورية ومؤسسات شكلية ليست أكثر من قناع معاصر للدولة السلطانية المملوكية في الجوهر ، تعمم الفساد وتعمل نهباً في مقادير البلاد وتسلطاً على مصائر العباد .
الوضع في سورية أمر وأدهى ، أشد قسوة وأكثر بشاعة ، وكأن الحياة فيها خارجة عن السياق الكوني . فرغم أنها من الدول المؤسسة في جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة . وكانت في طليعة المشاركين في صنع المواثيق والعهود العربية والدولية المتعلقة بحقوق الإنسان . وأعلنت منذ وقت مبكر التزامها بهذه المواثيق . إلا أن حقوق الإنسان فيها ، وخلال نصف القرن المنصرم ، كانت في تدهور مستمر . وهي اليوم من أسوأ الأوضاع على الصعيدين العربي والعالمي .
فالدستور مفصل على قياس السلطة وهواها ، ويشكل غطاء للنظام الاستبدادي والحاكم الفرد .
تتغول السلطة على كل مفاصل الدولة والمجتمع ، وتفرض إرادتها وتوجهاتها بآليات قمع ووسائل عنف من بقايا عصر مضى ، فتنتج العطالة والإرهاب والفساد .
تصادر الحياة العامة بتسلطها على السياسة والاقتصاد والنشاط الاجتماعي والثقافي والفكري . سيان في ذلك حزبها الحاكم أو جبهتها المشاركة أو في مواجهة الحراك الشعبي والنشاط الوطني المعارض . وتقمع أي توجه مختلف مهما كانت أهدافه نبيلة وإيجابية ومتواضعة .
تعتقل المواطنين على آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم ، وتحاكمهم على تطلعاتهم للحصول على حقوقهم التي يمنحها لهم الدستور ، وتعاقبهم على طموحهم للعيش بكرامة في كنف دولة مدنية ديمقراطية ، يتحقق فيها العدل وسيادة القانون .
تستمر بحرمان عشرات آلاف المواطنين الكرد من حقوقهم الطبيعية في المساواة مع الآخرين واستعادة الجنسية التي حرموا منها نتيجة إحصاء 1962 الجائر . مثلما تستمر باعتماد القوانين والمراسيم غير الدستورية والاستئصالية والظالمة كالقانون 49 لعام 1980 والمرسوم 64 لعام 2008 .
تتستر على أعمال التعذيب والقتل والانتهاكات الفظة لأمن الناس وسلامتهم ، التي تتم على أيدي جلاوزتها في الأجهزة القمعية ( الجنائية منها والسياسية ) ، وتعمل على تأمين غطاء لحمايتهم من المساءلة القانونية العادلة .
تفرض " منع المغادرة " للبلاد على عشرات الآلاف من المواطنين لأسباب سياسية أولمجرد أنهم ليسوا في سربها ولا يوافقون على أساليب عملها ، كما تحرم مئات الآلاف من المواطنين الآخرين الملاحقين سياسياً من حق العودة إلى البلاد بأمن وكرامة .
تضيق الخناق على نشطاء حقوق الإنسان ، وتحول دون الترخيص لجمعيات حقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عن الحريات العامة ، وتمنع النشاط الحر والعلني في هذا السبيل .
أما عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كحق العمل والتعليم والضمان الصحي والاجتماعي فحدث ولا حرج . فما أكثر الحقوق على الورق ، وما أقلها على أرض الواقع . وعندما تصل إلى حقوق المرأة والطفل وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة ، عن ذلك يصبح للحديث شؤون وشجون .
ما يؤلم السوريين حقاً ، هو أن سورية كدولة مستقلة تجايل في نشوئهاالأمم المتحدة ومنظماتها ووثائقها ومن ضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . وقد بدأت حياتها الاستقلالية جمهورية ديمقراطية ذات نظام دستوري برلماني قائم على الانتخابات الحرة وسيادة الشعب ، يتحقق فيها تداول السلطة في ظل منظومة حديثة من الحريات العامة والخاصة وحياة سياسية حزبية تعددية وصحافة حرة . كانت بالفعل بلداً يحتفي بحقوق الإنسان .
بينما أصبحت اليوم مملكة للخوف والصمت معاً . .
15 / 12 / 2008
هيئة التحرير