توصلت تركيا مؤخرا الى مجموعة من القناعات الأكيدة من ضمنها أن الارتهان الى رغبات الغرب، وخاصة في أميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي غير مجد فقد اقتنعت الحكومة التركية بعد ان حظيت برضا المجتمع التركي عبر أكثر من استفتاء وانتخابات شفافة، انها في موقف يجعلها قادرة على إعادة رسم مسارات علاقاتها الخارجية دون أدنى خوف من ردود فعل متوهمة او اللجوء الى ذرائع تبريرية تضر ولا تنفع.
بالطبع كانت العلاقات التركية الاسرائيلية عاملا وسيطا في كافة التجاذبات التركية مع الدول الغربية، وعقب مجموعة من المواجهات مع اسرائيل زادت قناعة الاتراك بأن تعديل المسار في علاقاتها الخارجية صار أمرا محتوما، خاصة بعد حادثتي إهانة السفير التركي في تل أبيب والعدوان السافر على السفينة التركية (مرمرة) التي شاركت في قافلة الحرية الى غزة في الحادي والثلاثين من مايو الماضي، وما تبعها من تعنت اسرائيلي وصلف غير مسبوق.
وقد أمكن لتركيا ان تحسن قراءة الواقع الراهن في السياسة الدولية، وعدم قدرة دول الغرب على تحسين مناخ السلام الإقليمي في الشرق الأوسط، حتى تحافظ تركيا على علاقاتها بكل الأطراف فيه.
إلا ان الإدارة الاميركية وقادة الاتحاد الاوروبي قدموا أداء مرتبكا وشديد السوء والتخاذل، سواء فيما يتعلق بالملف الفلسطيني او ملف ايران النووي، وهما ملفان سعت أنقرة بمساعي وساطة فيهما كادت تنجح لولا التعنت الاسرائيلي والاميركي، مما عزز من مخاوف تركيا من نوايا الغرب تجاه إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط الذي يتقدم في الأولوية لتركيا المعاصرة على اوروبا والولايات المتحدة مجتمعين.
ومن ثم كانت الخطوة الأقوى في هذا الاتجاه هي شطب إيران وسوريا من قائمة الدول التي تهدد الأمن القومي التركي، فالدولتان الجارتان هما بمثابة عمق استراتيجي تاريخي للدولة التركية، وهي قناعة غابت طويلا تحت ضغط المحاولات الاميركية لإبعاد تركيا عن ملفات الشرق الأوسط، بل وتجاهل دورها في معظم الاحيان، او ربما توريطها في صراعات مع الجيران.
لقد شعرت تركيا ان علاقاتها مع الجوار الإقليمي يمنحها قوة أكبر من ما يمكن ان يمنحه انضمامها للاتحاد الاوروبي بكل مشكلاته الاقتصادية الحالية.
المسلك التركي يستند الى عنصرين أساسيين مساعدين هما: اتقان قراءة المشهد السياسي الاقليمي والعالمي، والشعور بالقوة في الجبهة الداخلية.
وباحصاء المواقف التركية بدءا من منع القوات البرية الاميركية الغازية للعراق من استخدام اراضيها وانتهاء بالتصدي للغطرسة الاسرائيلية وعدم الاكتراث ببرنامج للترغيب والترهيب الذي تمارسه واشنطن وتل ابيب تجاه أنقرة نجد أن التحول التركي هو منطق طبيعي كان غائبا وعاد بالنسبة لتركيا، ولا نظن ان العرب في موقف أقل قوة من الموقف التركي لإعادة ترتيب الأولويات، فهم قد تعرضوا من الأذى الاسرائيلي والاميركي والأوروبي لأكثر مما تعرض له الأتراك، وايضا الايرانيون، حيث لم تحتل اسرائيل اراضيهما ولم يتم غزوهما بقوات تحالف دولي بناء على أكاذيب وخارج الشرعية الدولية.
ومن ثم فإن النموذج التركي يستحق التطبيق عربيا حتى يمكن صد هذه الهجمات المتوالية على الحقوق العربية وسيادة الدول العربية على اراضيها وعلى حرية شعوبها وحقهم في العيش بكرامة على ترابهم الوطني وضمن محيطهم القومي وفي إطار علاقات متوازنة مع كل دول الجوار قبل غيرهم.
إنه طريق واضح المعالم خطت فيه تركيا خطوة جريئة يمكن تجربتها، بل ربما (يجب) تجربتها في منطقتنا العربية قبل فوات الأوان.
الوطن