انطلاقاً من جدلية الموت والحياة، تخاف اللغة، ككل كائن حي، من الانقراض والاختفاء، فتسمح لنفسها بإعادة بناء ذاتها الاصطلاحية أو ترميم الفجوة الظاهرة في مثلثها السيميائي الذي يشكل أساس انتشارها في المجتمع، وارتباطها بالفكر، الذي قد يسبقها أو تسبقه حتى، كما يعتبر بعض اللسانيون. كيف يعاد ترميم اللغة وإحياءها؟ كيف تولد الكلمات الجديدة؟ بأي ظرف تدخل المعاجم؟ ومتى نعتبرها ميتة؟
يحاول الكتاب الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحديد مفهوم المولد كخطوة أولى في الكشف عن آلية بناء الألفاظ، لذا يرد مصطلح النيولوجيزم إلى أصله الاشتقاقي، فنيو تعني الجديد، ولوغوس الكلام أو الخطاب، وبالتالي المولد يدل على كلمة جديدة أو على دال جديد لمدلول قديم، لكن هذا لا يعني أن مصطلح “المولد” ذات تركيبة بسيطة وسهلة، بل أكثر تعقيداً مما يتصور لأنه على علاقة مباشرة باللغة ومعايير استخدامها وبمدى التفكر بها فلسفياً وتاريخياً.
من البديهي، بالنسبة للمؤلفين، التوليد في لغة يستعملها الناس في التواصل في ما بينهم، ومن الضروري خلق الألفاظ الجديدة من أجل تسمية كل ما يعتريهم من أفكار وأحاسيس جديدة وكل ما يحيط بهم من ظواهر حياتية تنوجد للمرة الأولى. فاللغة تندرج دائماً في عملية إبداعية، توليدية حاولت الفلسفات والأساطير والأديان الكشف عن أصلها، بتأويلات عديدة، كالسؤال المعضلة “الله أم البشر أصل التسميات؟”، رغم كل تلك المحاولات تبقى العملية اللغوية غير معللة، وطبيعية ومستمرة في الوقت نفسه، ومثال على ذلك محاكاة الطفل الذي يشير إلى الحيوانات أو الأشياء بتقليد أصواتها وضوضاءها، أو المصطلحات المستعملة من قبل الشباب في الرسائل الهاتفية القصيرة كـ(Mdr)، أي (Mort de rire) (ميت من الضحك)، بالإضافة إلى التسميات التي تطلق على المخترعات الجديدة، أو على ظاهرة اجتماعية معينة كـ(Les bobos)، أي البرجوازيون الذين يحيون حياة البوهيميين، والوحدات المعجمية الأدبية المستحدثة ككتابات سيلين المبدعة أو لغة الاسبرانتو عند امبرتو ايكو، كل ذلك يدل على أن اللغة بحاجة ضرورية للتوليد للقيام بدورها كنشاط اجتماعي يحقق التواصل بين الناس، وبالتالي فعليها توفير الآليات الخاصة، أبرزها التوليد الشكلي، التوليد الدلالي، والاقتراض من لغة أجنبية أو قديمة، التي تمكن المجتمع من خلق وإبداع كلمات جديدة. لكل آلية توليد أساليبها الخاصة، فالتوليد الشكلي يعتمد مثلاً على إضافة اللواصق، المحاكاة، الألعاب الكتابية، الاختصار، الترخيم والنحت اللغوي، والتوليد الدلالي يتم بإضافة معنى جديد لكلمة قديمة، وهذا ما يسمح به المجاز، وأخيراً الاقتراض حسب سياق اللغة المقترضة التاريخي وخصائصها الصوتية ككلمة(Glasnot) الفرنسية (شفافية) المقترضة من الروسية.
عندما يكون المجتمع بصدد البحث عن تسمية جديدة يقوم بملاحقة المولَّدات التي تأخذ مكانها في اللغة من خلال تكرار استعمالها، أو حتى عند ظهورها للمرة الأولى، وهذا ما يتعلق ببعض المولدات المفروضة من قبل وسائل الإعلام أو من السلطات كمصطلح (sauvageon) (مجرم) الذي أدخله وزير داخلية فرنسا السابق جان بيار شوفينمون إلى النقاش العام وتحمل بسببه الكثير من الانتقادات الساخرة. ونذكر أيضاً المولَّدات التي تحاكم بعد ولادتها كاعتراض أحد الكتاب الفرنسيين على استخدام كلمة (achalandé) بمعنى جديد غير مسبوق. ومن أبرز من يعلق على المولَّدات ويحاكمها، يذكر المؤلفان الصحف، المعاجم، الأدب، والمؤسسات الرسمية، وذلك حسب نظرة كل منها إلى عملية التوليد المرتبطة بمزاج وظروف المولِّد التاريخية، التي تعكس قدرة لغته على التطور الاصطلاحي. فالمولَّد له قوة الرمز التي تفتح آفاق التأويل الفلسفي والتاريخي، ما يجعله حقيقة يصعب الإحاطة بها بشكل كامل.
بما أن التوليد عملية إبداعية لذا يعتبر الأدب أرضاً خصبة لها، وتطور اللغة الفرنسية خير دليل على ذلك، لا سيما التطور الكبير الذي طرأ عليها ما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ثم مرحلة التوليد المناضل من أجل إغناء اللغة مع شعراء “الثريا” الذين شجعوا على الاقتراض الداخلي وعلى الإبداع اللغوي، وعلى رأسهم يواكيم دوبلاي، بالإضافة إلى دعوات تنظيم وضبط اللغة الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتحرير التوليد حتى تبنيه كأداة أساسية في الخلق الفني والأدبي مع البرناسيون والرمزيون والسرياليون.
ظروف التوليد متعددة، لا يمكن للمتلقي الكشف عنها مباشرةً، لأنها مرتبطة بعوامل اجتماعية وتاريخية وبأسباب تؤدي إلى تغير في العلاقة بين أقطاب المثلث السيميائي، فتصبح المولَّدات رهن وسائل إنتاجها، الذي يصنفها المؤلفان إلى أربعة مجموعات، الوسائل الصرفية الدلالية، الوسائل النحوية الدلالية، الوسائل الصرفية، الوسيلة التداولية، وكل واحدة من تلك المجموعات تنقسم إلى مجموعات أصغر تسمح لنا بمعرفة كيفية إنتاج المولِّدات.
استخدام المولَّدات المتكرر كجزء أساسي من التواصل اللغوي اليومي يفقدها صفتها كمولّدات، إذ تدخل مرحلة بداية نهايتها. فالاعتراف بالمولّد ككلمة معجمية يعني دفنها. في بعض الأحيان تواجه نهاية المولّدة عدد من العثرات، لا سيما من قبل المتشددين بالدفاع عن اللغة، كالمشكلة التي أثارها إدخال فعل baser (أسَّس) إلى معجم الأكاديمية الفرنسية، يومها وقف روابيه كولار، الرئيس السابق للمحافظين وهدد قائلاً: “سأخرج إذا دخل”. رغم ذلك، فعلى المعجمي نفسه أن يأخذ قرار إدخال مولَّد ما إلى معجمه، حسب معايير تفسيرية مختلفة، ووسائط معينة، كتوقعات المتكلمين، وتنوع الاتجاهات اللغوية للمعجميين، بالإضافة إلى المرحلة التاريخية والايديولوجية، التي تفرض كلمات دون أخرى، فالأخيرة، كما يقول جوليان غرين، تمشي على قدمين أما المعجمي فيطير بجناحين، ساعياً لاصطياد موّلد ودفنه في معجمه.
[ الكتاب: المولِّد، دراسة في بناء الألفاظ.
[ المؤلف: جان بريو، جان فرانسوا سابليرول.
[ ترجمة: خالد جهيمة.
[ دار النشر: المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2010.
“المستقبل”