صحيح أن تونس كانت البداية، لكن مصر، لن تكون النهاية.. البلدان اشتركا في ثورتيهما السلميتين، وربما قدما فتيل الاحتجاج الكبير، الذي سيبقى مَدُّه يضرب كل الشطآن العربية لسنوات عديدة، خلافاً لكل التوقعات التي رسمت لهذا العالم أفقاً واحداً لا يمكن تجاوزه.
ما حدث في مصر وفي أقل من ثلاثة أسابيع، كشف عن ضعف النخبة الحاكمة في مواجهة الشارع، وتهاوي النظرية الأمنية في مقابل الحالة المجتمعية، وأنه من الخطيئة النظر إلى الشعب باعتباره قطيعاً يمشي على قدمين، يمكن استباحته عند إشارة مرور، أو في قسم شرطة، أو في رشوة مبتذلة، أو في إهانة مستمرة تمارس باستعلاء وغرور لا مثيل له.
ربما يكون الشعب المصري، تحمّل كثيراً سيادة هذا التعامل الأمني، الذي استشرى واستفحل، وبدلاً من أن يصبح جهاز كالشرطة في خدمة الشعب، أصبح أداة لخدمة النظام، وعلى حساب الشعب، لتكون الثورة الأخيرة، تحرراً وعتقاً مما اعتبره كثيرون عبودية ثلاثين عاماً.
المذهل في الدرس المصري، أن من قام بالثورة، ودعا إليها، واستشهد من أجلها، كانوا من الشباب، والمذهل أيضاً أن هذا الدرس أيضاً، جاء رداً على محاولات تفريغ وطن من شعبه، للدرجة التي دفعت قرابة ثمانية ملايين مصري (أي 10 بالمائة من السكان) للتسابق على طلبات الهجرة للولايات المتحدة وحدها، عام 2006.
الشباب المصري، عاد ليؤكد انتماءه للأرض، مرة أخرى، عقب ثورته، وكان مشهداً حضارياً للغاية، أولئك الشبان والفتيات، وهم يحملون أدوات النظافة من مقشات ومكانس، لينظفوا ميدان التحرير، الذي اعتبروه لأيام، وسيظل لسنوات أيضاً، جمهوريتهم المستقلة، فلم تحدث حالة تحرش واحدة، ولم تحدث حالة سرقة واحدة، ولم تحدث حالة اعتداء واحدة بينهم. كان مشهداً فريدا، يضفي على ما قاموا به، روعة من روائع التحضر الذي أذهل كثيرين. لقد ظلموا هؤلاء الشباب كثيراً، واعتبروهم مجموعة من القطعان السائبة، والتافهة، التي لا تحسن التفكير أو التصرف، وربما كان ذلك هو الخطأ التاريخي، الذي أطاح بكل النظرات السلبية والاستعلائية وأقام الجمهورية المصرية الثانية في التاريخ الحديث.