جنيف، آستانا، سوتشي، وأخيرًا اللجنة الدستورية
بين كوفي عنان وبيدرسون
أربعة أشخاص تمّ تكليفهم بالملف السوري، بصفة ممثل للأمين العام للأمم المتحدة: كوفي أنان، الأخضر الإبراهيمي، ستيفان ديمستورا، وغير بيدرسون.
يعتقد كثيرون بأن الدول الغربية وأفرادها لديهم منظومة أخلاقية، لا يمكن المساومة عليها، تتعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك تمامًا. كوفي أنان، الأفريقي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة البراغماتي الذي يهتمّ بالمصالح أكثر من المبادئ، كانت لديه الشجاعة الأخلاقية ليستقيل من مهمته، لأن الأطراف الدولية الفاعلة توفر غطاءً لنظامٍ يقتل شعبه، ولا يريدون إدانته ولا معاقبته. كذلك الأخضر الإبراهيمي الذي فضّل الاستقالة بشجاعة أخلاقية، عندما رأى عدم جدية النظام وعدم جدية مجلس الأمن في بدء مفاوضات حقيقية للوصول إلى إنهاء الصراع الدموي الدائر في سورية، مفضلًا الالتزام بأخلاقه التي منعته من بيع الوهم للسوريين وخداع العالم، بينما تكشفت الصورة الحقيقية للأوروبيين، فستيفان ديمستورا وغير بيدرسون كانا مكيافيليين حتى العظم، وسقطا في الاختبار الأخلاقي، لذلك استمرّا في بيع الوهم للسوريين والمجتمع الدولي، وتوفير غطاء للنظام لزيادة جرائمه، وتوفير أطول وقت ممكن له.
إن ما جرى في جنيف منذ 2014 لم يكن مصممًا ليكون عملية تفاوضية حقيقية، وخاصة منذ تولي ستيفان ديمستورا وظيفة ممثل الأمين العام، خلفًا للأخضر الإبراهيمي، وقد بدأ ديمستورا بالصيغة الجديدة التي شاهدناها، وهي الاجتماع على انفراد مع كل وفدٍ على حدة، وعدم جمع وفد المعارضة ووفد النظام وجهًا لوجه. وما يعزز هذا الفهم عدم وجود جدول أعمال واضح متفق عليه بين الجميع، لأن من أبجديات القاموس السياسي أن يكون هناك برنامج عمل وجدول متفق عليه، لإسناد النتائج إليه في حال التوصل إلى اتفاق ما، وثاني أمر هو أن ممثل الأمين العام ديمستورا كان مهتمًا بلغة الجسد لأعضاء وفد المعارضة، إذ كان يملي عليهم عدم الابتسام أو التفاؤل، أكثر من اهتمامه في وضع جدول أعمال حقيقي تستند إليه العملية، ويتسق مع مهمته تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254. أضف إلى ذلك تدخله في ما سيقوله وفد المعارضة، بعد كل جلسة لوسائل الإعلام. وكان واضحًا أنه يسعى لإطالة الأزمة، أو بالأحرى لتوفير الغطاء للنظام الذي كان يمعن في ارتكاب الجرائم بحق المدنيين العزل.
طبعًا القرار 2254، تضمن إطارًا زمنيًا محددًا، وهو بطبيعة الحال استند على بيان جنيف لعام 2012 والنقاط الست المتضمنة فيه. وعندما تجاوز ديمستورا الإطار الزمني دون تحقيق أي تقدم يذكر، تفتق ذهنه بالاتفاق مع الروس وبمباركة أميركية، للانحراف عن مسار جنيف نحو آستانا 2017، ثم الانحراف نحو سوتشي، لينتهي مسلسل الانحرافات بمسار اللجنة الدستورية. طبعًا، كان القصد من مسار آستانا هو تفكيك تركيبة الهيئة العليا للمفاوضات، وتدجين الفصائل المسلحة والتحكم في حركتها. أذكر هنا مكالمة لديمستورا مع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات في حينها الدكتور رياض حجاب، ومساومته على زيادة عدد أعضاء الوفد من 15 عضوًا، ليصبح 22 أو حتى 25، لكن بشرط أن يكون نصفه تمامًا من الفصائل المسلحة. وهذا أمرٌ سبق أن حذّرنا منه في عام 2017، خلال ندوة أقامها مركز حرمون حول موضوع آستانا ومناطق خفض التصعيد. ولكن يبدو أن ديمستورا كان قد اتفق مع بعض الشخصيات الهلامية من فصائل المعارضة المسلحة على المضي قدمًا بمسار آستانا، مهما كانت مواقف الآخرين. وبطبيعة الحال، كان المستفيد هو النظام وديمستورا، كشخص يبحث عن مصلحته المادية في استمرار مهمته، بغض النظر عن الدم الذي كان يسفك كل يوم بآلة النظام والروس والإيرانيين المجرمة. ولم يكن ممكنًا للمعارضة الانسحاب، وروسيا وأميركا تديران اللعبة بخبث، ولم يكن بإمكان الأطراف إلا التحرك حسب ما هو مرسوم في حينه.
توجهات المجتمع الدولي وأميركا إدارة الأزمة وليس حلها
من المهم هنا، الإضاءة على مسألة مهمة، وهي سقوط المنظومة الأخلاقية الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي كان دورها سلبيًا ولا يرقى إطلاقًا إلى المكان الذي قالت إنها فيه، وهو مجموعة أصدقاء الشعب السوري. أميركا -حتى هذه اللحظة- ليس لديها استراتيجية للحل في سورية، وإنما تعمل وفق سياسة إدارة الأزمة وليس حلّها. وهذا أمرٌ مخيّب للآمال، ولا أخلاقي، من دولةٍ بحجم أميركا، ولا سيّما أنها تتبنى شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا إذا أقرّت أميركا أن سيادتها وبعض بنود دستورها يمرّ عبر الإرادة الإسرائيلية والصهيونية العالمية. كانت تتعامل مع وفد المعارضة، وكأنها الوصي عليه، وتستخف بشخوصه، ولا تحترم إرادته ولا إرادة مكوناته، إضافة إلى التحكّم في عددٍ كبير من الفصائل المسلحة، عبر غرف العمليات (الموك) و(الموم)، وهي مكون وازن في تركيبة الهيئة العليا للمفاوضات.
الأوروبيون لم يكونوا أفضل، فهم عاجزون ومترددون ويتبعون الأميركيين، ومصالحهم أهم بكثير من حياة الأبرياء، ومن تحقيق الشعارات التي يختبئون وراءها؛ ففرنسا كان يهمها ألا تقصف قوات التحالف معمل الإسمنت الفرنسي في الشمال السوري، أكثر من حماية أرواح الأطفال والمدنيين، ومبادئ الحرية والديمقراطية. وأميركا كان أمنُ إسرائيل بالنسبة إليها أهمّ بكثير من حياة ما يقارب 1500 إنسان، في مجزرة الكيمياوي بالغوطة، في آب/ أغسطس 2013. وبريطانيا لديها أوراق قوية لتلعبها أفضل من المكان الذي قبعت فيه تطلق كلامًا وشعارات فارغة المضامين. وها هي اليوم تعلن أنها عاقبت أشخاصًا من دائرة النظام، ونحن نعلم أن هؤلاء الأشخاص لا أهمية لهم، بينما كان بإمكانها معاقبة زوجة رئيس النظام التي تحمل الجنسية البريطانية، وهي التي أعلنت دعمها لاستخدام القوة ضد المدنيين، وتلعب الآن دورًا كبيرًا في السيطرة على اقتصاد البلاد.
وأوروبا كلّها صمتت، عندما أعلن كاردينال الكنيسة الارثوذوكسية الروسية أنه يدعم تدخل بوتين في سورية عام 2015، لأنها “حرب مقدسة”، ولم نسمع أي تعليق أو إدانة من الغرب “المتمدّن”، لا سيما أنها تصريحات غير مسؤولة وحاقدة، وتفوح منها ثقافة الغزو الصليبي المقيت.
أين أخطأت المعارضة وأين أصابت؟
أخطأت المعارضة السورية، منذ اليوم الأول، حين شكلت وفدها التفاوضي بناءً على مبدأ المحاصصة ودرجة الولاء، بعيدًا عن الكفاءة والأهلية والتخصص. كذلك بالنسبة إلى الاستشاريين والدعم الفني والتقني. فمثلًا تم تعيين أشخاص في الوفد وبعض الاستشاريين، لأنهم ينتمون إلى فئة معينة، أو حزب أو جماعة أو منصة أو تيار. وكثير من هؤلاء لا يملكون من المؤهلات ما يخوّلهم أن يكونوا في وفدٍ تفاوضي ولا في مسميات مهمة ضمن الوفد، ليناقش مسألة وطن وقضية أمة. كانوا مهتمين بالوقوف أمام كاميرات الأعلام، مرددين كلامًا فارغًا، والأنا المتورمة لديهم جعلتهم يعتقدون أنهم أصبحوا مفاوضين. البعض الأخر ارتكب أخطاء قاتلة، ولم يُحاسب لا من قبل حزبه ولا من الجهة التي سمّته في الوفد وأصبحت مسؤولة عنه، الأمر الذي يبين بوضوح أن هناك فسادًا مستشريًا في هذه الأجسام وأيديولوجياتها التي توجهها المكاسب والسيطرة على السلطة، أكثر من انخراطها في مشروع وطني حقيقي، يجمع جميع السوريين، ويعبّر عن طموحهم في دولة ديمقراطية يحكمها القانون. المخيب للآمال لدرجة النزيف هو أن مثل هؤلاء الأشخاص، بدلًا من محاسبتهم، تم الدفع بهم إلى مراكز متقدمة في أجسام المعارضة، بل أصبح البعض منهم يحركون بوصلة المعارضة، وهناك آخرون -تبعًا لدرجة ولائهم الشخصي لبعض المتنفذين- تم وضعهم في مراكز للنفع المادي، إضافة إلى معلومات كثيرة عن الفساد المالي لكثير منهم، بدأت تطفو على السطح الآن.
أداء المعارضة خلال الجولات التسع
مع الأسف، كان الأداء متواضعًا وضعيفًا، لنقص الخبرة والمحاصصة والإقصاء المتعمد للخبرات، إضافة إلى الارتهان للخارج. هذا طبعًا لا ينفي المسؤولية المباشرة عن المعارضة في ارتكاب أخطاء قاتلة، فليس كلّ شيء سببه التدخلات الخارجية.
الأمر الآخر المهمّ هنا هو موضوع السلال الأربع لعام 2017، الذي نتج عن آلية التشاور التي ابتكرها ستيفان ديمستورا، ووافقت عليها الهيئة العليا للتفاوض. لم نسمع حتى اليوم من أي شخص من الهيئة العليا توضيحًا لما جرى: لماذا وافق الوفد عليها؟ وهل وافقت الهيئة العليا عليها أم رفضتها، علمًا أن الهيئة العليا هي المرجعية العليا للوفد؟ لماذا لم نحصل على تفسير شفاف ومصارحة وتحديد المسؤول عن ذلك ومعاقبته؟
أسباب فشل جميع المحاولات
لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لفهم ما جرى، فمنذ البداية لم تكن ثمة عملية حقيقية تهدف إلى تحقيق نتائج تقود إلى حل حقيقي، لأنهم يعلمون أن النظام لن يقبل بأي شكل من الأشكال أن يتنازل عن سلطته، وهو الذي لم تستطع الأعمال العسكرية أن تسقطه، فكيف سيقبل بالمفاوضات. جميعهم يعرف هذه الحقيقة، لذلك تماهى الطيف الأغلب مما يسمى بالمعارضة، مع ما هو مرسوم، وأصبحت مهمة ديمستورا وبيدرسون، ومن ورائهم أميركا وروسيا، أكثر سهولة. تصريح بيدرسون منذ أيام بأن اللجنة الدستورية ليست الحل، ولا بد من نهج جديد، مرفوضٌ ويجب محاسبته عن طول المدة التي كان مسؤولًا فيها عن إدارة الملف، لأنه رفض هذا الكلام، عندما قيل له ذلك، وأصرّ على المضي في شراء الوقت للنظام. كذلك على المعارضة أن تحاسب كل المطبّلين الذين روجوا للقول إن اللجنة الدستورية بداية الحل، وأضاعوا شوطًا كبيرًا من الزمن، دفع السوريون فيه الثمن باهظًا، هؤلاء يستحقون محاكمة ثورية.
أخيرًا، يزدحم العالم العربي بمراكز بحثية كثيرة محسوبة على الثورة أو قريبة من المعارضة، كان من المفترض أن تقدّم المشورة والدعم الفني والاستشاري للوفد المفاوض، إلا أن ذلك لم يحصل، لأن غالبية هذه المراكز كانت مشغولة في الترويج لأيديولوجيات الجهات التي أنشأتها أو الأحزاب القائمة عليها، أو في بناء الأمجاد الشخصية لبعض الأفراد القائمين عليها، وبعضها أيضًا مارس سياسة الإقصاء، فقرّب وأبعد أشخاصًا، تبعًا لدرجة الولاء الأيديولوجي أو الشخصي أو كلاهما معًا. لذلك، لم يكن أمام وفد المعارضة وثائق تشكل حاملًا وطنيًا واضحًا لتسير عليه، وبقيت مضطربة الاتجاه، في حين كان هناك أربع مجموعات استشارية وقانونية، كلها أجنبية، مكلفة بتقديم المشورة والنصح القانوني لوفد المعارضة، وهي: مجموعة (بي أي إل بي جي) وهي مجموعة استشارية قانونية تابعة لوزارة الخارجية الأميركية؛ مجموعة “الدبلوماسيين المستقلين”، وهي مجموعة بريطانية تابعة لوزارة الخارجية البريطانية؛ مجموعة “سكوير باتن بوغيس”، وهي أيضًا مجموعة استشارية أميركية، محامون وأعضاء كونغرس سابقين؛ مجموعة “جوناثان باول”، وهي مجموعة بريطانية أيضًا.
جميعها كانت معنية بتقديم النصح والمشورة القانونية للوفد المفاوض، قدّم بعضها مساهمات خجولة، وكان فيها من السمّ أكثر من العسل، بينما لم يقدّم أيّ مركز عربي لا سمًا ولا عسلًا. وفي كل الأحوال، نحن لم نقدّم للأمم المتحدة أو أي جهة ما معنية أيّ ورقة وردتنا من هذه المجموعات كما هي، حتى بعض الترجمات كنّا ندققها ونصححها بما يتناسب مع توجهنا وانتمائنا وتطلعاتنا. نحن ما قدمناه كان -على تواضعه- منتجًا وطنيًا، نتمنى أن تتاح الفرصة لكل الخبرات والكوادر السورية، دون أي إقصاء لأيّ منها، بأن تسهم مستقبلًا في أي حدث ممكن أو مسار سياسي، وفي تأطير هذه الكوادر، لتسهم في إعادة بناء سورية ونهضتها من جديد.