سوريا تخوض تجربتها الديموقراطية لتثبت أن من يحكمها، حزباً ورئيساً، يمثلون الشعب بكل أطيافه، ويعبرون عن إرادة الوطن والأمة. وهكذا، فقد كان الجميع يعيش اللحظة الاحتفالية التاريخية، فلا حديث في المجالس والبيوت والإعلام إلا عن خيارات الشعب وحرية المواطن ومستقبل الوطن.
كل هذا أمر طبيعي ومتعارف عليه في البلدان التي تحظى بنعمة الديموقراطية، وتحترم قرار الناخب، وتحكم باسم الأمة. مع فارق تفصيلي، بسيط، يتعلق بخصوصية سوريا التاريخ والعروبة والبعث. فالناخبون بالملايين والمرشح واحد، لا منافس له. ولحل الإشكالية التقنية التي ستواجه صناديق الاقتراع، فقد كان الخيار على بطاقة الانتخاب بين “نعم” و”نعمين” لـ”الرئيس الى الأبد حافظ الأسد”.
تصويت معارض
إلا أنه بعد أن ركب الحافلة في طريق العودة انتابته الشكوك وحامت حوله المخاوف، إذ نالت عائلته نصيبها من غضبة الأسد. سجن هو لأنه تهّرب من التجنيد، وحُبس أخوه لأنه تاجر بدهانات “امية” مزورة … وما أدراك ما سجون الأسد! ولما ضاق صدره وتصدع رأسه، ولم يعد يحتمل الوساوس، نزل في أول محطة، وعاد على عجل الى مركز الانتخابات.
يقول: “دخلت مسرعاً وأنا بالكاد التقط انفاسي، ووقفت امام الموظف المسؤول وشرحت له أنني أشك أنه ربما … بالخطأ البشري المجرد، ومن حماسي الزائد، وعيوني المبتلة بدموع الفخر والحب والولاء، أكون وضعت علامة الصح على خانة “نعم” بدلاً من “نعمين”. رد علي رجل يقف الى جانبه، تبينت من لهجته ولكنته العلوية أنه عنصر مخابرات، “أيه روح أخي! خلص … صلحناها!”. وهكذا، فاز الرئيس في هذا “الاستفتاء” الشعبي العظيم، الذي شارك فيه الكبير والصغير، بـ 6,202,260 “نعمين”، و 376 صوتاً لـ”نعم”.
إلا أن الرئيس السوري سنّ سنّة لم يسبقه اليها أحد، ثم تبعه كل أحد. فقد قرر أن يورث الحكم من بعده لابنه باسل. وفي ذلك الوقت، كان الشبل من ذاك الأسد مالئ الدنيا وشاغل الناس … وحبيب المدخنين. فقد اكتشفت أن السجائر الأميركية ممنوعة من التداول في سوريا المقاومة والمواجهة، إلا عند إشارات المرور. وعندما سألت مضيفي من أين أتت هذه السجائر، وكيف هُرّبت في بلد لم تسمح باختراق رصاصة واحدة أو فلسطيني واحد لحدود الجولان منذ الهدنة مع إسرائيل، أجاب: هذه بالذات لا تحتاج الى تهريب، فوكيلها الحصري هو باسل الأسد. وإلا كيف تتوقع أن تباع علناً في الشوارع، ويشتريها حتى عناصر المخابرات والشرطة، ولا تصادر منها سيجارة واحدة؟
اقتصاد المقاومة
لاحظت وقتها أن الأوضاع ازدادت سوءاً لعامة الناس، فالاقتصاد الاشتراكي المقاوم لم يعد قادراً على توفير كثير من الاحتياجات الحياتية، كالكهرباء، والمواد الغذائية، وأدوات البناء. وفي الوقت الذي تعجز فيه عن الحصول على اللحمة والسمن والطحين في الجمعيات الحكومية، يمكنك الحصول عليها وأكثر من المهربين. وللمفارقة، فسوريا التي تحتل لبنان وقتها، كانت تستورد كل ما ينقصها من منتجات لتباع في السوق البيضاء والسوداء. نعم، لبنان، البلد الصغير، الذي لم يخرج بعد من الحرب الأهلية المدمرة كان يموّن الشقيقة الكبرى التي تحتله.
الورثة
التحدي كان زمنياً، فالأسد الأب مريض، والأسد الابن قليل الخبرة، صغير السن. ولكن إرادة الوطن والشعب فوق كل تحدٍ. فبعد وفاة الرئيس عام 2000 تم تعديل الدستور وتغير الحد الأدنى لعمر الرئيس من الأربعين الى الأربعة والثلاثين تحديداً (ثم ألغي التعديل بعد أن بلغ بشار الأربعين)! وهكذا تمكن المرشح “الأوحد” من خوض غمار الانتخابات الرئاسية في اليوم نفسه. وتم التصويت على توليه في مجلس الشعب برفع الأيادي، ففاز بالإجماع فور الاعلان عن الاقتراع، وقبل عد الأيادي. ومنذ ذلك اليوم التاريخي المجيد، اختاره الشعب بالإجماع في كل مرة، حتى لما جرت انتخابات 2014 في عز الحرب الأهلية “ضد الإرهاب والمحتل الأجنبي”، وعندما كانت معظم البلد خارج سلطة الدولة، ونصف السكان مهجرين والنصف الآخر تحت القصف. ولاء ووفاء ماب عده ولا قبله!
الرئيس “الأبدي”
يبدو أن القيادة السورية تخالفني الرأي، فهي تعد اليوم لانتخابات رئاسية جديدة، تقدم لها حتى الآن مرشحون أكثرهم من حزب الرئيس نفسه، وليس فيهم معارض أو مخالف أو صاحب رأي. وجميعهم بلا استثناء ليست لهم جماهيرية أو قيمة أو ثقل.
وطبعاً، الانتخابات ستجري في موعدها أواخر أيار (مايو) المقبل، تحت إشراف محايد لعناصر المخابرات، وسيمارس فيها الناخب حريته الكاملة للتعبير عن ولائه للرئيس بنعم، نعمين، أو أكثر، تحت شعار “أمة سورية واحدة … ذات قيادة خالدة!
ومبروك مقدماً للشعب وسوريا الأسد … وإسرائيل وإيران وروسيا و”داعش”!