دراسة كتبتها عقب تفجّر الانتفاضة الفلسطينية عام 1987م، ونشرتها في مجلة “اليوم السابع” التي كانت تصدر في باريس بتاريخ الإثنين 11/ 9/ 1988م، ونشرتها دار الأسوار في عكا بفترة وجيزة بعدها ضمن كتاب لي تحت عنوان: “الإيقاع الشعري للانتفاضة“.
_________
في الأحداث العظيمة التي تمرّ بالأمم والشعوب يتبلور الخطاب، ومثلما تأتي تلك الأحداث نتيجة لتراكمات تاريخية تبلورها في اللحظة العظيمة، كذلك يأتي الخطاب/ متعدداً ومختلفاً ومعبّراً عن محاور حركة الصراع الدائر وقواها المحرّكة.
ليس غريباً من هذا المنطلق أن يأتي الخطاب العربي السائد وجزء من الفلسطيني السائد المتعامل مع الانتفاضة التاريخية للشعب الفلسطيني مختلفاً في الشكل، متراوحاً بين الذعر من سيل الانتفاضة الجارف وبين الحياد وبين ردود الفعل الرومانسية الساذجة، ومتشابهاً تقريباً في الجوهر.
ليس غريباً أن يبرز من بين الركام والفوضى وفي لحظة انتفاضة الوجود خطاب آخر يبلور المعدن الحقيقي للشعب الفلسطيني في اللحظة التاريخية العظيمة التي تتعلق بوجوده.
وليس غريباً أن يدرك العدو الإسرائيلي نفسه أبعاد الخطاب الذي يهدد وجوده في قصيدة الشاعر محمود درويش “عابرون في كلام عابر” فيثير العالم ومن مستويات عليا حول هذه القصيدة.
قد تبدو هذه المقدمة ومن بعدها الدراسة سياسية في الظاهر لكنها في الحقيقة ليست كذلك حيث أن شمولية واقع الانتفاضة وتجلّي علاقة النص الإبداعي بالزمن وبالتاريخ فرضا تداخلاً قسرياً تلاشى فيه السياسي بالأدبي ليشكل معه بنية يصعب الفصل بينهما فيها، وذلك من خلال قصيدتين أولاهما قصيدة سميح القاسم “رسالة إلى غزاة لا يقرأون” التي كتبها في المنفى الداخلي/ داخل الأرض المحتلة/ موقع الانتفاضة الجغرافي، والثانية قصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر” التي كتبها في المنفى الخارجي الفسيح/ خارج الأرض المحتلة/ موقع الانتفاضة التاريخي.. وفي كلا القصيدتين سوف ندرس الإيقاع الشعري للانتفاضة مع تركيزنا على محور أساسي في هذا الإيقاع كما لمسنا هو: حركة الخطاب الشعري، الموجه في القصيدتين إلى الغزاة العابرين/ مخاطبة الآخر، قبل أن ينزاح إلى خطاب الذات/ الفلسطينية، ومدى خصوصية الخطاب في كل من القصيدتين، وتسامي هذا الخطاب إلى خطاب إبداعي تاريخي، ضمن إيقاع الخطاب العام للانتفاضة.
1: رسالة إلى غزاة لا يقرأون
من مخاطبة الآخر إلى خطاب الذات
“رسالة إلى غزاة لا يقرأون”.. هو عنوان قصيدة الشاعر سميح القاسم التي قالها في خضم وقائع الانتفاضة الهائلة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والعنوان يفضي كما هو ظاهر فيه إلى مدلول خطاب موجه إلى مستعمر نعرف أنه المستعمر الصهيوني، الغازي الذي لا يقرأ الواقع ولا يقرأ التاريخ…
وإذن هناك ماهيّةٌ منذ البداية في العنوان لمن وجّه إليه الخطاب: غزاة لا يقرأون، وهذه الماهيّة تتبلور لنا خلال قراءة النص كأحد المحاور الرئيسية التي بني عليها النص، منذ بدايته وإلى وقوفه على ذروة انغلاقه، قبل أن تنفتح نهايته على بدايته في حركة تدوير تصبح فيها النهاية بداية…
وإذن منذ الجملة الأولى في تحدّي الغازي “تقدموا.. كل سماءٍ فوقكم جهنّم” يتم لظم الخيط الذي يبلور المخاطب من خلال توصيفه في حركة الصراع معه، ليبلور حركة القصيدة الظاهرة والجوهرية.
ماهيّة المخاطَب
تتبلور ماهيّة المخاطب/ الغزاة داخل القصيدة في أنهم:
ـ غزاة مدججون بالسلاح والحقد: “تقدموا بناقلات جندكم/ وراجمات حقدكم“.
ـ غزاة تحركهم إيديولوجيا ملتاثة، ومدفوعون بلوثة أسفار مريضة، وقتلة: “فما الذي يدفعكم من جثةٍ لجثةٍ/ وكيف يستدرجكم من لوثةٍ للوثةٍ/ سفر الجنون المبهمُ“.
ـ غزاة لا يتصرفون وفق أية قوانين إنسانية، ومجرّدون من الضمير حيث لا يسألون أنفسهم عن ذلك: “حرامكم محلّلٌ/ حلالكم محرّمُ“.
ـ غزاة مدفوعون بشهوتهم للقتل، والتي هي مقتلهم في النتيجة: “تقدّموا.. بشهوة القتل التي تقتلكم“
ـ غزاة يقلبون كل ما هو متعارفٌ عليه لدى داعميهم من قوانين وأعراف، وخاصة لدى أمريكا: “قاتلكم مبرّأٌ/ قتيلنا متّهَمُ“.
ـ غزاة هم كما هم، متشابهون سواء كانوا حمائماً أو صقوراً، هم مكرّسون للجريمة: “أوّلكم آخركم/ مؤمنكم كافركم/ وداؤكم مستحكم“.
ـ غزاة برابرة يغلقون المدارس، ويفتحون عوضاً عنها السجون: “لا تفتحوا مدرسةً/ لا تغلقوا سجناً“.
ـ غزاة مندفعون ومسترسلون حتى آخر الشوط الذي بقي لديهم من احتلالهم: “واستبسلوا، واندفعوا، واسترسلوا، لآخر الشوط الذي ظلّ لكم/ وآخر الحبل الذي ظلّ لكم“.
ـ غزاة فاشيون قمعيون يستخدمون أعتى أجهزة القمع: “لا خوذة الجنديّ/ لا هراوة الشرطيّ/ لا غازكم المسيّل للدموع“.
ـ غزاةٌ قتلة، وممعنون في القتل: “من جثةٍ لجثةٍ“.
ـ غزاة لا يسمعون سوى صوتهم، وغير مستعدين لسماع صوت الآخر: “لا تسمعوا/ لا تفهموا“.
تلك هي ماهية الغزاة التي يبلورها الشاعر من خلال حركة خطاب ملحمي، مباشر، ويواجَه فيه الضد بالضد عبر الصراع، وعلى إيقاع المعركة الصدامي المباشر.
حركة الخطاب
يأخذ الخطاب في هذه القصيدة طابع الصدام المباشر من خلال التحدّي: “تقدموا.. تقدّموا…” ويستمرّ على هذا إلى ما يقارب ثلاثة أرباع القصيدة، لينحرف مساره إلى شكل إخباري سردي لكن باختلاف عن سرد الماضي إلى سرد الحاضر، وإن استخدم الفعل الماضي: “تقدّمت حجارة المنازل/ تقدّمت بكارة السنابل/ تقدّمَ الرضَّعُ والعجّزُ والأرامل/ تقدّمتْ أبوابُ جنينَ ونابلس/ أتتْ نوافذ القدس صلاة الشمس/ والبخور والتوابل/ تقدّمت تقاتل/ تقدّمتْ تقاتل”… وليكون هذا الانحراف في مسار الخطاب مقدّمة لعبور المحور الأساسي الذي حددناه بمخاطبة الآخر/ الغزاة الذين لا يقرأون: “لا تسمعوا.. لا تفهموا/ تقدّموا”، ومقدّمة لانغلاق القصيدة وانفتاحها في ذات الوقت على بدايتها لتقلب في هذا الانفتاح لغة المخاطبة المتحدّية إلى لغة خطاب للذات… فطالما أن الغزاة قطعوا لغة الحوار مع الآخر نهائياً، فإن خطاباً آخر يتسلل من خلال اكتشاف الضدّ الذي استقرّ دون أن ندري في الذات ليمرّر خطاب الذات الذي هو خطاب المقاومة، ومن خلال مخاطبة الآخر/ الغزاة نفسه: “تقدّموا.. تقدموا” والتي تعطي هذا الخطاب بوحدته وتضاده معها قوة إيحاءات هائلة تؤثر في الذات، وتبلورها من خلال قوة الغازي المستعمر إلى قوة الذات/ النقيض لقوة المستعمر، وهذه القوة لا تمرّ كي تمرّ كنقيض فقط، بل تمرّ لتثبّت نفسها في حركة انقلاب مسار الخطاب، ولتحرّك نفسها في ذات الوقت إلى قوة تنداح في الشارع… وبصورة أخرى تتبلور المعادلة في أنه طالما أن قوة الغزاة عمياء، وأن الغزاة انتهى عندهم الفهم فإن الذات التي تكتشف نفسها من خلال هذه القوة النقيض، تثبّت نفسها وتحرّكها لتصبح المعادلة:
قوة المقاومة = القوة العمياء للغازي
خيار الحرية أو الموت = خيار عدم الفهم وقطع اللغة مع الآخر
تجلّيات الذات
عبر هذا الانزلاق غير المدرك في مسار الخطاب، من مخاطبة الآخر/ الغزاة وعبر هذه المخاطبة نفسها، إلى خطاب الذات.. تتشكل قوة القصيدة وتتشكل دعامات رفعها من المباشرة القاتلة إلى المباشرة المبدعة، التي تبدأ معها بلورة الذات، وفقاً للتالي:
ـ ذاتٌ هي الشعب الذي اختار الموت بديلاً عن الاستسلام، وهذا الخيار خيار وجودي لا يقتصر على الشباب الذي هو تحصيل حاصل ويبرز كبنية صغرى لا ترى، بل يشمل خيار الطفل والشيخ والأم الثكلى، أي هو خيار يشمل الشعب بأسره: “تقدموا/ يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلمُ/ وتسقط الأمّ على أبنائها القتلى ولا تستسلمُ“.
ـ ذاتٌ هي جوهر الشعب الذي لن ينكسر: “لن تكسروا أعماقنا“.
ـ ذاتٌ هي تطلعات الشعب التي لن تهزم: “لن تهزموا أشواقنا“.
ـ ذاتٌ هي الحتم دون تساؤل أو تفكير أو مساومة: ” نحن قضاءٌ مبرمُ“
ـ ذاتٌ هي المستقبل الراسخ أمام قوة المستعمر التي هي ماضٍ آفل: “تقدّموا/ طريقكم وراؤكم/ وغدكم وراؤكم/ وبحركم وراؤكم/ ولم يزل أمامنا/ طريقنا وغدنا وبرّنا وبحرنا وخيرنا وشرّنا“.
ـ ذاتٌ هي مقاومة لا تنتهي: ” إن قطعت ساقٌ/ يظلّ ساعٌدٌ ومعصمُ“.
ـ ذاتٌ تولد من قلب الموت بتضاد رهيب مع شهوة القتل لدى القاتل: “تقدّموا/ بشهوة القتل التي تقتلكم/ وصوّبوا بدقّة لا ترحمُ/ وسدّدوا للرحم إنّ نطفةً من دمنا تضطرمُ
ـ ذاتٌ لم يعد لديها ما تخسره طالما أن كبير القضاة يبرّئ القاتل: “تقدّموا كيف اشتهيتم واقتلوا/ قاتلكم مبرّأٌ/ قتيلنا متّهمٌ/ ولم يزلْ قاضي القضاة المجرمُ“.
ـ ذاتٌ لا تنتظر اعتذاراً من القاتل عن تدمير مكونات حياتها: “تقدّموا/ لا تفتحوا مدرسةً/ لا تغلقوا سجناً/ ولا تعتذروا، لا تحذروا، لا تفهموا“.
ـ ذاتٌ ترى شمسها ساطعة في قلب الظلام، شمس الشعب التي تنبثق بتضاد مع نهاية شوط الاحتلال: “اندفعوا/ وارتفعوا/ واصطدموا/ وارتطموا/ لآخر الشوط الذي ظلّ لكم/ وآخر الحبلِ الذي ظلّ لكم/ فكل شوطٍ وله نهاية/ وكل حبلٍ وله نهاية/ وشمسنا بداية البداية“.
ـ ذاتٌ تلملم شظاياها الدامية التي يبعثرها الغياب: “غزّة تبكينا/ لأنها فينا/ ضرورة الغائب في حنينه الدامي إلى الرجوع“.
ـ ذاتٌ تستنفر كل مقوّمات بقائها لتصمد أمام القتل ومحاولات الإركاع: “من جثّةٍ لجثّةٍ/ تقدّموا/ يصبح كل حجرٍ منتصبٍ/ تصرخُ كل ساحةٍ من غضبٍ/ يضجّ كل عصبٍ/ الموت لا الركوع/ موتٌ ولا ركوع“.
ـ ذاتٌ تتقدّم بكليتها أطفالاً ونساءً وشيوخاً وأرضاً في مواجهةِ تقدّم القاتل: “تقدّموا/ هاهو ذا تقدّم المخيّمُ/ تقدّم الجريحُ والذبيحُ والثاكلُ والمُيَتّمُ/ تقدّمت حجارة المنازل/ تقدّمت بكارة السنابل/ تقدّم العجّزُ والرضّعُ والأيتام والأرامل/ تقدمتْ أبواب ُ جنين ونابلس/ أتت نوافذ القدس صلاة الشمس والبخور والتوابل/ تقدّمتْ تقاتل/ تقدّمتْ تقاتل“.
وعند هذه النقطة من التغيّر الداخلي لمسار الخطاب تبتعد المباشرة بفخّها المميت عن مسار القصيدة، ليأخذ النص الدفعة الأخيرة لانفتاحه عند لحظة انغلاقه، ولتكون نهاية القصيدة بدايتها في ذات الوقت، ولتتكرّر هذه البداية ثلاث مرّات/ تمهّد الثانية منها للبنية الصغرى الهامة التي قلبت مسار الخطاب داخلياً، وهي التي قلنا عنها أنها: سرد حاضر الانتفاضة الذي أصبح أمراً لا مردّ له بالمقاومة عندما أتى حاملاً على كتفيه صليب تغيّر لغة الخطاب.
2: عابرون في كلامٍ عابر
من تثبيت الذات إلى تحريك الثبات – تابع