في حالنا العربي المتردّي علت الكثير من الأصوات المطالبة بضرورة الإصلاح الدينيّ (وهي محقّة)، إلا أن جلّ المطالبات لم تتجاوز حال المطابقة مع الغرب في ما جرى به، تحت مسمّى “الإصلاح الدينيّ“، بطريقة أقرب ما تكون إلى وصفة طبّية تتوافق مع جميع المرضى في حال تشابه المرض، فبمجرد التقيّد بها، يتمّ البراء من العلّة! إن كان هامش الحركة محدوداً في العلوم الطبيعية،فهو ذو مناورة عالية، بحكم اتّساع مجال حركته، في العلوم الاجتماعية، ففي مجال التاريخ مثلاً – في حال التعامل التقييدي معه– يصير هناك إلغاء للتاريخ، ولشخوصه المعبّرة عنه في حالة تقييده”عقلانياً“، في افتراضية إمكانية إعادة إحيائه، وبثّ الروح فيه مرة أخرى، في مكان آخر، في عملية تقمّص له، لا يعرف بها إن كانت الروح المتقمّصة للتاريخ، هي الأصلية أم أنها تقمّص لروح أخرى أكثر أصالة، فتسقط عن التاريخ قيمته في إمكانية الاستفادة منه في هذه “القمصنة“، وتتحول شخوصه إلى عينات أركيولوجيّة، لا تتجاوز إمكانية معرفة أسباب موات المومياء المحنطة للتاريخ .
أمّا التعامل مع التاريخ بأن الكائن البشري هو الحامل له، و ليس فقط ما يتركه من أثر أركيولوجي دالّ عليه، ينقل التاريخ من معبر فقط عن الماضي إلى إمكانية جعل التاريخ ذا سيولة بين أيدينا، ليغدو الماضي حاضراً من حيث أن الحادثة التاريخية هي حادثة بشرية بالأساس، وليست رواية عن كائنات ميثولوجيّة، سيولة تخرجها من فخّالزمن المتلاشي، إلى التثبّت في الواقع عن طريق التفكير الذي نمارسه بها في لحظة الاستذكار التي بدونها لا وجود للتاريخ.
الأصوات المتعالية المطالبة بالمطابقة جلّ تركيزها يستند إلى العقل، بأن يكون مسيّراً لحياة الدين في المجتمع،لكن، هل نستطيع أن نعرف الأديان والمعتقدات استناداًإلى العقل دون أن نلغيها؟ من اللاعقلانية الحكم بالعقل على ما هو غير مستند إلى العقل في عملية النقد، فمنطق الإيمان، ليُصار إلى التعامل معه عقلانياً، هو الإقرار بلاعقلانيّته، ليُصار إلى إمكانية التعامل معه بشكل عقلاني، فمثلاً في حالة الحبّ، أكثر جواب عقلاني لمن نحبّ، هو لاعقلانية القول في إمكانية تعريف الشيء بذاته، فنقول بأننا نحبك؛ لأنك تستحقّ أن تُحبّ! وذلك كجواب المؤمن بأننا ما خُلقنا سوى للعبادة، رداً على سؤال: لِمَأنت مؤمن! ففي حالة من يحبّ، وصاحب المعتقد، تكون العقلانية آلية تمسّ شكلانية المفهوم، وربما تعريفه، وليس ماهيّته، فيصبح العقل أداة بيد العاطفة والمعتقد، وليس العكس، كما قد يفترض البعض، بأن المعتقد والعقل لا يجتمعان سوية، بينما الواقع يدحض ذلك، عندما نرى أغلب قيادات المجموعات المتطرفة، هم من أصحاب الشهادات (اطباء، مهندسين، صيادلة،….)، وعمى جميل لمن يحبّ في عدم احتكامه للعقل! (العقل هنا عملية تقييد، والميتافيزيقيا هي أرض حرية المفاهيم).
في هذه المحاكمة التقييدية “العقلانية”، يتمّ إنطاق مارتن لوثر ما لم يقله، وما لم يدعُ له،
“فالإصلاحيون” ومارتن لوثر وكالفن لم تكن دعواهم موجهة للعقل، يقول مارتن: (أنت لا تستطيع أن تقبل كلاًمن الإنجيل والعقل، فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر)، ويقول أيضاً: (إن العقل أكبر عدوّ للدين)، ويقول كالفن: (مَن مِن الناس يجرؤ على أن يضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطة الروح القدس؟)، بل دعواهم موجهة للدين نفسه، في إمكانية أن يكون معرفاً بالمجتمع عن طريق تعريف الفرد المعتنق له، دون وساطة من أحد(الكنيسة، البابا)، ونتائجه المباشرة كانت سلبية، بينما غير المباشرة، هي من كانت الإيجابية، وذلك استناداً إلى الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المؤثرة في حينها بالقارة الأوروبية.
لم يكن فعل الإصلاح من لوثر وغيره من المصلحين عملاً قصدياً مرجواً منه إصلاحاً دينياً، بالشكل الذي خرج به الشكل الإصلاحي، بل كان من جملة نتائج تحققت في المجتمعات الأوروبية، ومن ضمنها “إصلاح الدين” !
فعلى المستوى السياسي والاجتماعي، أصبح تدخل الكنيسة ينظر له كسلطة أجنبية في البلدان الأوروبية، ومن ضمنها الإمارات الألمانية، مثل تتويج الأباطرة وسلبهم لعروشهم وتيجانهم، كحرمان البابا بيوس الخامس ملكة انكلترا اليصابات عام 1570، وأباح لرعاياها عصيانها. وكذلك حرمان ملك إيطاليا فيكتور عمانويل من بيوس التاسع لاستيلائه على الكرسي الرسولي.
فكان الشعوب والحكام، على حد سواء، يرغبون بالانفصال عن (الإمبراطورية الرومانية)، ويعبر عن ذلك لوثر أبلغ تعبير، وكأننا نقرأ لمنظّر قومي، وليس لرجل دين حين يقول:(كنيسة روما سلطة أجنبية، لماذا يتحتّم على الكنيسة الألمانية أن تدفع الجزية الدائمة إلى سلطة أجنبية؟ فليتخلص رجال الدين الألمان من تبعيتهم لروما، ولينشئوا كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفة ماينز)، هنا لوثر ينطق بحال المجتمع، في رفض الظلم والاستغلال، وليس حال الدين، وإن كان التعبير عن الرفض تعبيراً دينياً، وحتى اقتصادياً، فقد أرهقت الكنيسة ميزانيات الدول، وحتى الأفراد، في ترفها وحروبها وصكوك الغفران الممنوحة لعامة الشعب، مقابل ما يدفع لها. فتلاقت على أيدي لوثر مصالح العامة، والأمراء الألمان، والبرجوازية الحضرية، التي أعطت للإصلاح إمكانية التحقّق. بينما لم يحضَ بذلك التشيكي هوس بسبب اعتماده فقط على العامة، فكان مصيره القتل، بينما تمّت حماية لوثر من قبل الأمير فريدرك الثالث، ليصل الإصلاح الديني إلى ما وصل إليه بتظافر تلك العوامل.
النتائج المباشرة كانت جدّ سلبية، انشقاق على مستوى الدين نفسه (بروتستانت و كاثوليك)، عداء وحروب دمرت أوروبا بأكملها، وحتى على نفس المستوى الطائفي “الإصلاحي” كبروستانتيين، فيما بين الكالفينيينو اللوثريين، أكثر من العداء مع الكاثوليكية، وحروب بينهم دمرت ألمانيا.
والعلاقة مع باقي الأديان كالإسلام واليهودية لم تكن إيجابية، وإن كانت مع الإسلام أخفّ حدّة، فيقول عنه، أي الإسلام ( دعوا الترك، يؤمنون و يعيشون كما يشاؤون )، يقصد بالترك الإسلام، بحكم أن الحامل الاجتماعي الذي عرفته أوروبا كمعبّر عن الدين الإسلامي، هم الترك.
أمّا بالنسبة لليهود، فطالب بإبادتهم وحربهم، وقد قام أتباعه من بعده استناداً إلى رؤيته بحرق الكثير من الكنس، ومتابعة المنتمين لها، ويتّهم مارتن لوثر بأن جلّ ما كتب في الرايخ الثالث، يستند إلى اقتباسات منه، وأن معاداة السامية مبنية على آرائه حول اليهود.
هذه النتائج لا تختلف عمّا جرى بالمشرق العربي، من نتائج أظهرتها الجماعات المتطرفة في سورية والعراق (داعش، النصرة )، فهل فعلاً هذا هو الإصلاح الديني، الذي يطالب به المطالبون للمطابقة مع فكرة الإصلاح؟
حكماً ليس هذا ما يطالبون به، لكنهم يقدّمونه بانتزاعه من التاريخ، ونفي الظرفية عنه، والخصوصية عن الشعوب، وحتى عن الأديان نفسها.
النتائج الإيجابية ليست غائبة، لكنها بحاجة للوقوف على أسبابها، قبل استخلاص النتائج منها، ليُصار إلى إمكانية المطابقة مع الإصلاح من عدمها.
نعود لنقطة اللاعقلانية المطروحة في تعريف الدين بشكل عقلاني، لأن نتائج الإصلاح انبثقت من منطلق ديني بحت “لاعقلاني” (حسب المطالبين للمطابقة) في عقلنتها للدين!
يستند الإصلاح الديني البروتستانتي بشكله اللوثري إلى أكثر ما يحارب حالياً في الساحة العربية، ألا وهو الأصولية ( بشكلها السنّي )، فكيف يتلاقى الإصلاح والأصولية في إمكانية إصلاح الدين في منطقتنا العربية استناداً إلى أصولية لوثر الإصلاحية؟
ما عمل عليه لوثر في ألمانيا، بالإضافة إلى باقي العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبروز النزعة القومية في زمنه، هناك أيضاً الطابع الديني الخاص للوثرية، والمميز للكنيسة البروتستانتية.
اعتمد لوثر بشكل واضح على النصّ( الإنجيل )، منحّياً كل العوامل الممكنة التأثير على فهم النصّ، في إيمان الفرد وإمكانية التحكّم به.
استناداً إلى الأصولية في التعامل مع النصّ، بنى لوثر رؤيته للدين ضمن خمس نقاط، وهي:
الكتاب المقدس وحده.
المسيح وحده.
الإيمان وحده.
النعمة وحدها.
المجد لله وحده.
في هذه النقاط يضع لوثر الفرد في علاقة مباشرة مع الخالق، عن طريق إلغاء التدخّلات الخارجية في أمور العبادة والإيمان والتفسير الديني، فلا وساطة في الدين لا من البابوات ولا من الكنيسة في تفسير الكتاب المقدس، أو في إمكانية منح الغفران من عدمه للفرد، فوحده عمله الصالح هو مَن يمنحه المغفرة من عدمها.
الأصولية التي استند إليها فيما بات يعرف بالإصلاح الديني، هي من استطاع أن يعطي تلك النتائج الإيجابية على مستوى الدين، ومستوى حياة الفرد.
ما قام به لوثر هو تثبيت للنصّ، و جعله مرجعية للفرد، وإلغاء الناطقين باسم النصّ، في عملية تجديدهم المستمرة له، لدى كل قراءة وتفسير وتأويل له، مما يجعل الفرد بحالة بحث وتبعيّة دائمة للمتحكمين بالنصّ، و كأن النصّ غير موجود! طالما أن من يمتلكه شخص (البابا)،وهو من يعطي للنصّ وجوده في حالة الكلام عنه.
فعمل لوثر والإصلاحيين، هو نقل عملية الحركة من النصّإلى الفرد، فبدل حركة النصّ صارت الحركة للفرد، بعد تثبيت النصّ وجعله مرجعية، وتحويله إلى دستور للمؤمن المسيحي.
عندما تصبح النصوص دساتير، فهي تحرّر الفرد من سطوتها، رغم أنها تحكمه، لكنها لا تلغيه، لأنها تتحوّل لقوانين يقبل بها الفرد، وليس بصفة هوياتية طقوسية للدين، تكون مقدمة على النصّ، وعلى الفرد، في طريقة تمظهرها الدائم، لدى محاولة المؤمن التواصل (عن طريق البابا)،مع بعده الديني في المجتمع.
فبعد القوننة يتحول النصّ إلى نقطة ثابتة، يعود لها الفرد ليستمد منها الشرعية الدينية المرتكز عليها تنظيم حياته الاجتماعية، ويعود من بعدها لممارسة حياته الطبيعية.
المطالبون بالتطابق إن أرادوا إصلاحاً دينيا لوثرياً،فلن يكون سوى بالطريقة السلفية في التعامل مع النصّ.
لكن مجتمعاتنا عمليا تعاني حالياً من أصولية متمحورة حول النصّ، ولا تستطيع تجاوزها إلى ما استفادت منه أوروبا في تعاملها الأصولي مع النصّ، فأقصى ما يمكن أن يتحقق من هذه المطالبة بالمطابقة، هو إنتاج بعد بروتستانتي منسحب من الحياة، ومتمسك بالنصّ، لاغياًللواقع، على حساب النص، كمثل شهود يهوه وطائفة المارمون البروتستانتيتين، في الشكل الأشدّ سلفية، في التعامل مع النصّ.
لنستطيع أن نفهم إشكالنا الحالي، لا نستطيع دون الالتفات للتاريخ، وقراءته والعودة لمقارنته مع أشكال اجتماعية أخرى، أنتجت نتائج إيجابية في تجاربها التاريخية.
إشكالنا الديني (الاسلامي) مقارنة مع الدين المسيحي في أوروبا، (يجب التركيز على كلمة أوروبا في حال المقارنة، وليس على الدين المسيحي بالمجمل، فمثلاً في شرقنا كل ما أنجزه الإصلاح الديني في أوروبا لم يكن له تأثير على مسيحيي الشرق، حتى البروتستانت منهم ،فالإصلاح كان منجزاً يُحسب على السياسة ببعدها المكاني، المحصور بأوروبا و أميركا، و ليس على الإيدلوجيا ككلّ). في أوروبا كان إنجاز الإصلاح من بعد حصول الانشقاق الديني (بروتستانت، كاثوليك)، فكان البروتستانت حاملي شعلة الإصلاح والتغيير، ومؤثرين على الطائفة الأكبر (الكاثوليك)، في محاولتهم الحفاظ على دينهم، عن طريق بعض الإصلاحات، مثلاً ما قام به (مجمع ترنت الكاثوليكي)، فكان الصراع بين الاثنين له علاقة بالدين، وشكل الدين، ومكان الدين في المجتمع.
بينما حالة الإسلام فالوضع مختلف، بل معكوس تماماً، فالصراع الديني الذي نشأ، وانقسام المجتمع الإسلامي إلى طائفتين ( سنة ،شيعة ) بدل أن يكون محرّكاًلإمكانية إنتاج إصلاح ديني، فقد بدأ يتّسع موسّعاً الهوة في إمكانية إيجاد مخرج، تستطيع الشعوب أن تستند إليه، في إمكانية تجاوز ما تعيشه من سلبية واقعها.
الإصلاح الديني كان، كما أسلفنا، ناتجاً عن صراع مسيحي مسيحي، حول ماهية الدين، فأنتج إصلاحاًدينياً، كان له دور إيجابي مؤثّر على المجتمع الأوروبي.
أمّا الصراع الإسلامي فكانت نتائجه عكسية، بحكم اختلاف أسباب الصراع.
الصراع الإسلامي كانت إشكاليته أنه سياسي، حول تعريف السلطة، ومَن هو الأحقّ بها، ومَن يكون على رأس الهرم، هل هم آل البيت، أم مَن استطاع الاستيلاء عليها بدعوة القضاء و القدر؟
الخلاف الأوروبي المسيحي كان يمسّ حياة الناس، بسبب تعريفيته لهم، من حيث أن الخلاف يخصّ طريقة معتقدهم وحياتهم.
أمّا الخلاف الإسلامي، فكان بعيداً عن حيوات الناس ومعتقداتهم، وإن كان كل طرف حاول تدعيم رؤيته بالطرق الشرعية التي تسند حقه في السلطة، ليتحول الدين في هذه المواجهة إلى أداة من أدوات السلطة، في استحقاق الشرعية، وليس كما كان سائداً في أوروبا، في تحكم الكنيسة بالمجتمع، والسلطة القائمة عليه، وذلك له علاقة بالتكوين البدائي لشكل الدولة، الذي كان الأساس في تعريفية الدولة.
فالأمبراطورية الرومانية كانت قائمة، عندما تم اعتناق المسيحية كدين للدولة، فصار من مهام الدولة أن تحاول إبراز الهوية الدينية، لتعريف نفسها أمام الاخر المختلف عنها(الكافر)، فكان أن صارت الهوية مقدمة على الدولة، كمفهوم معرّف للفرد كفاعل اجتماعي، ولاغية له في حال انتفاء الشكل الهوياتي المعرّف لها.
فالمؤسسات المكونة للدولة الرومانية تمّ إلغاؤها، في عملية تحويلها لناطقة باسم الإيديولوجيا المتبنّاة من قبل الدولة، فتحولت كل الدولة الرومانية إلى كنيسة تُدار من قبل الباباوات.
بينما في الحالة الإسلامية كانت الدولة غائبة، والدين كان هو الأيديولوجيا التي بنيت عليها الدولة.
في عملية التأسيس، حتى الأيديولوجي منه، تتطبع الدولة بالحامل الاجتماعي البشري المؤسس لها، أكثر من الأيديولوجيا القائمة عليها، فبغياب المؤسسات يضطر المؤسس أن يصوغ أو يستورد أشكالاً للحكم، تساعده في بناء دولته، فتصبح هيكلية الدولة ذات شكل سياسي أكثر منه أيديولوجي، لتتحول الأيديولوجيا إلى دستور للدولة، أكثر منه هوية لها، طبعاً رغم التداخل و التبادلية ما بين الهوية والقانون في تعريف الدولة، إلا أن عملية التأسيس،هي التي تعطي للدولة أكثر الوجوه ثباتاً.
في الحالة الأوروبية تم الانتقال من الفردي إلى الجمعي، في التعامل مع القوانين والحياة، فألغي الفرد لصالح رؤية تؤمن بصلاح المجتمع (المجتمع المسيحي المثالي)، و معاقبة الفرد، في حال المساس بمثالية هذا المجتمع.
بينما في الإسلام تم الانتقال من تحكم وضع اجتماعي (قبلي) مسيّر للأفراد إلى خلاص فردي، يحصله الفرد عن طريق التقوى والإيمان، فتم الانتقال من شكل أعراف قبلية تتحكم بالمجتمع، إلى شكل قانوني يعرف الفرد ضمنه كفاعل اجتماعي، له دوره في هذا المجتمع.
شكل الدولة وتعريف الفرد بها، هو ما يعطي اختلافاًلإمكانية الإصلاح في الأيديولوجيتين (الإسلامية والمسيحية)، فالمسيحية انطلق إصلاحها نحو إعادة مفهوم الدولة للمجتمع، عن طريق التأكيد على حرية الفرد بها، أي الدولة، عن طريق تفعيل السياسة به، أي المجتمع.
أما في العالم الإسلامي، ونتيجة للصراع الذي أفرز أكثر من شكل يمثل الإسلام لدى معتنقه، فتم الانتقال من السياسة إلى الأيديولوجيا، في صياغة شكل الدولة، استناداً إلى مفهوم الحق في السلطة، وبمن أحق بها من الاخر، في إمكانية التمثيل الأيديولوجي، الأكثر شرعية في التعبير عن هذا الحق (الإمامة أم الخلافة)، في كلتا الحالتين تم إلغاء الفرد، الذي استند عليه الدين الإسلامي في عملية تأسيس الدولة، وعودة لشكل قبلي في التعامل مع المفهوم، وتحويله لسلطة عارية، بعد أن صارت الدولة مجرد باحثة عن شرعية أيديولوجية تثبت أحقيّتها في تمثيل شكل الدولة. فعلى مستوى الإمامة كان جل التركيز منصبّ حول الشرعية الدينية، وعلى قرابة الدم في تمثيل هذه الشرعية، فتحول الممثلون الشرعيون للإمامة لشكل متواصل من النبوة لا ينقطع في التعبير عن هذه الشرعية، لتتشابك مع الكاثوليكية في الإكليروس الديني المعبر عنها قبل الإصلاح الديني، الذي حطّم قدسية هذا الإكليروس. بينما الصراع الإسلامي لدى الإمامة كان مستنداً على إعطاء القدسية للإكليروس، المتشكل عن هذا الصراع، في تأكيد الأحقية بالسلطة، عن طريق التأكيد على قدسية الممثلين للسلطة (الأئمة). فكانت نتيجة هذا الصراع على عكس ما حصل في التاريخ الأوروبي، فبدل أن تكون نتيجة الصراع تقدّم للأمام، كانت النتيجة شدّللخلف، فكان أن أنتج الصراع الأوروبي إعادة تعريف السياسة عن طريق البروتستانت، في إعادة تواجد الفرد في المجتمع، بينما إسلامياً ألغي الفرد من المجتمع، وصار وجوده في المجتمع (إمامياً)، فكان محصوراً في كتلة الجمهور، وبوجود الجمهور يُلغى الفرد، و كانت الإمامة إلغاء للسياسة، وعودة للدين ممثلاً للسلطة.
أما لدى مشرّعي مفهوم الخلافة، فتمت العودة لتعريف السياسة لما قبل الإسلام، مستندة على مفهوم القبيلة، في تمثيل المجتمع، لكن بشكل لاغٍ للآخر، استناداًإلى الدين، في شرعنة التمثيل. فقبل الإسلام، وقبل تشكّل مفهوم الدولة لدى العرب، كان لكل قبيلة وجودها الحيوي في محيط نجعتها.
وإن كانت القبائل في محيطها متأثرة بالقوى الموجودة بالمنطقة (فرس، روم، أحباش)، أو ضمن المحيط، كقبائل فيما بينها، إلا أنها لم تكن تخضع للقوى الإقليمية للمنطقة، أو للقبائل فيما بينها، كممثلة سياسية لها، فكانت العلاقات البينية في الجزيرة العربية، القبائل فيما بينها، وبين القوى الإقليمية، ذات شكل عرفي ما قبل قانوني، و دون ترتيبات سياسية للعلاقة ما بين الحاكم و المحكوم، في حالة تجاوز العرف المتّفق عليه، فهي بهذه الحالة غير ملزمة لأي طرف من الأطراف، في حالة التجاوز العرفي، أي أنها كانت علاقة خضوع مؤقتة، لكن دون سيادة لأي طرف من الأطراف على الآخر، تلك السيادة التي تعطي لمفهوم الدولة أحد تعريفاته، وهو ما بنى مجتمع الخلافة مفهوم الدولة عليه، بأن حول العرف إلى قانون، في التعامل مع الأفراد والقبائل، في عملية الإخضاع والسيادة، بعد أن أعطاه بعداً دينياً يشرعن عملية الإخضاع و السيادة، ليتحول مفهوم القبيلة إلى ممثل لشكل الدولة، لكن ببعد إمبراطوري لم يعرفه المجتمع العربي سابقاً.
أرثوذكسية متبادلة
كلا طرفي الصراع الإسلامي الإسلامي هو أقرب للأرثوذكسية في التعامل مع الدين، ليس حول إغلاق النصّ كما في الأرثوذكسية، بل في فاعلية الدين في المجتمع، لدى التيارين ( سنة، شيعة )، فكلا التيارين لا ينطلقان في عملية تعريف الدين استناداً إلى دور الدين في المجتمع، بل في كيفية إدارة الدين في المجتمع، عن طريق السياسة.
ففي الأرثوذكسية أغلق النصّ اشتقاقياً، أمّا في تياري الإسلام فأقفلت إمكانية التجديد، ليس فقط على المستوى الخطابي، بل على المستوى الاجتماعي، بعد تقييد الدين و حركيّته في المجتمع الإسلامي.
فعلى المستوى الأوروبي كان التقييد ذا شكل ديني للمجتمع، فاستطاع الإصلاح عندما وُجه للدين، بحكم أنه هو من يقيد المجتمع، وأن يخرج بنتائج إيجابية.
أما على مستوى المجتمع الإسلامي، فكل محاولات الإصلاح الديني باءت بالفشل، لأنها ليست موجهة إلى مكمن الخلل الحقيقي، والذي أساسه سياسي.
فالتقييد بالمجتمع الإسلامي، وخاصة السني، له علاقة بشكل السلطة المتواجدة في المجتمع. وعلى عكس أوروبا، فالسلطة ممثلة بالخليفة، هي مَن كانت تتحكم بالدين،وتسيّره كما تشاء، فمشروع المعتزلة مثلاً، كانت أسباب ظهوره ليس لأنهم اعتمدوا العقل في التعامل مع الدين ( لو أنهم بقوا ناطقين بالدين ليومنا هذا، لكان تاريخنا يذخر بمظلومية للحنابلة، تتشابه مع ما يتم تداوله عن مظلومية المعتزلة في يومنا هذا )، بل بسبب تبنّي الخليفة المأمون لمشروعهم، و سبب اندثارهم ليس الفكر السلفي ( ابن حنبل )، بل تخلّي السلطة عنهم، ممثلة بالمتوكل الداعم للحنابلة، كمعبّرين عن شرعية السلطة الممثلة، معلنة انتهاء حقبة وابتداء أخرى.
أمّا بالنسبة للجانب الشيعي، فتماهت السلطة مع الدين في تعريف الدولة، فبدل أن يصنع الصراع تياراً تجديدياً،كما حدث في أوروبا (البروتستانت)، يعلي من قيمة الفرد، أنتج إسلامياً تياراً ألغى قيمة الفرد، وعاد بالدين إلى التمسك بالجانب الذي رفضه الدين المسيحي في أوروبا، في التعامل مع الدين، وتسلط الكنيسة وممثليها على الفرد والمجتمع.
فصار محور هذا التيار التأكيد على دور الدين في حياة المجتمع، عن طريق قيادته، لتأكيد هذا الدور، عن طريق تماهي السياسي بالديني(الإمام) في التعبير عن شكل الدولة.
فأغلقت حركية الدين داخل المجتمع، والذي هو الفاعل في إنتاج إصلاح ديني، وأصبحت كل محاولة للإصلاح أشبه بمغامرة محسومة النتائج من ناحية الفشل!
البروتستانتية (الناتجة عن الإصلاح)، من بعد تثبيت النصّ وجعله المرجع الوحيد للفرد في التعامل مع الدين (التثبيت لا يعني إغلاق)، أي أن البروتستانتية في تعاملها “السلفي” مع النص وعملية تثبيته، صنعت لها قاعدة تعتمد عليها في عملية تعريف الدين عن طريق الفرد لوحده.
وضع القواعد يصنع دستوراً ينظم حياة الفرد، لكنه لا يبتلعه، فالدساتير عندما توضع تختفي، و لا تعود ملحوظة في حياة الناس، وإن كانت هي المسيّرة لها، لأنه عندما يصبح هناك دستور يحتوي الجميع، يصبح ملكاً للجميع، وبشكل فردي، فبعد امتلاك الجميع للدستور، لا يعود هناك من داعٍ لإظهاره.
ومن ناحية الإصلاح لدى السنة، وثبات النصّ لديهمكما البروتستانت، فالإصلاح يكون للمتحكم بالدين، وهو السلطة السياسية في أغلب البلدان العربية، لأن طريقة المطابقة مع ما حصل في أوروبا، معناه تحكم رجال الدين بكل مفاصل حياة الناس.
أما في الجانب الآخر (الشيعي)، فيمكن للمطابقة التاريخية مع أخذ ظروف المنطقة، أن تكون ذات فائدة مرجوة في إزاحة رجال الدين عن مراكز القرار السياسية، و جعل الدين علاقة فردية بين الخالق وعبده، ورجل الدين ليس أكثر من مرشد روحي للمؤمن.
فيتحدّد بكلتا الحالتين الإسلاميتين، موقع الدين والمجتمع والفرد ورجل الدين به.
ولا يمكن أن يرجى إصلاح للدين، دون تحديد مواقع العناصر المكوّنة للدين، والمتفاعلة معه، وكل محاولة للعمل على الثقافي، ما قبل السياسي هي تأجيل للإصلاح، وتثبيت للاستبداد، بحجّة أن المجتمعات غير مهيّأة وغير قابلة للتطور، وتقديم الثقافي على السياسي، هو سلوك كل سلطات الاستبداد في المنطقة العربية.