الوصف الذي يصح للعلاقة التي نشأت بين حافظ الأسد والشيخ أحمد كفتارو منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي هو تحالُف المصالح وطموح السلطة، فالشيخ الصوفي الذي كان يدير “مجمع النور” ويتمتع بنفوذ شعبي وبعلاقات مميزة مع تُجّار دمشق كان يبحث عن الشخصية العسكرية الصاعدة التي تُحقق له هذا الهدف. بالمقابل لم يكن حافظ الأسد ابن الطائفة العلوية أقل اهتماماً بالبحث عن الشخصية الدينية السُّنية التي تُضفي على سلطته -التي كان يستعدّ للقفز إليها- المشروعيةَ الإسلامية، فكيف إذا كانت هذه الشخصية هي الشيخ كفتارو الذي سيكون بوابته لترتيب علاقته مع تُجّار دمشق الذين سارعوا مع انقلاب الأسد عام 1970 إلى إعلان تأييده ودعمه بوصفه المنقذ المُرتجَى. طموحات السلطة عند هذا الشيخ كانت واضحة عندما صوَّت هو وأتباعه لصالح شقيق العقيد عدنان المالكي في الانتخابات البرلمانية ما حقق له فوزاً كاسحاً على منافسيه من المرشحين الآخرين. لكن اغتيال المالكي من قِبل الحزب القومي السوري سيضع حداً لهذا الطموح حتى جاء انقلاب 23 شباط الذي وضع حافظ الأسد في الصف الأمامي للقيادة الحاكمة. في تلك المرحلة بدأ كل منهما ينسج خيوط العلاقة التي تطورت بعد انقلاب الأسد عام 1970 حيث كان الأخير يحرص في كل زياراته إلى الجامع الأموي أن يظهر برفقة الشيخ أحمد كفتارو جنباً إلى جنب على خلاف المعتاد الذي يُفترض أن تكون قيادات البعث هي مَن تسير إلى جانبه.
كان الأسد حريصاً على هذا الظهور المتكرر في المكان الأكثر رمزية للمسلمين السُّنَّة ولم يكن الشيخ أحمد أقلَّ اهتماماً على المستوى الشخصي أو الشعبي بهذا الظهور الذي سيختفي بعد تكريس سلطته المطلقة وخروجه من صراعه المسلح مع تنظيم الإخوان المسلمين منتصراً، لتبقى العلاقة على مستوى الأجهزة الأمنية التي تحوَّلت إلى أداة الأسد المطلقة في تكريس هذه السلطة. لذلك كان طبيعياً ألَّا يصدر عن الشيخ أحمد أو أحد من جماعته أي بيان أو موقف عندما قام النظام بمجزرة حماة التي قتل فيها واعتقل عشرات الآلاف من سكانها السُّنَّة.
في تلك الفترة بدأ نجم الشيخ الصوفي الآخر وعميد كلية الشريعة محمد رمضان البوطي بالصعود بينما كان النظام يعمل على ترتيب تحالف جديد على غرار التحالف الذي أقامه الأسد مع الشيخ كفتارو قبل انقلابه على رفاقه وانفراده بالسلطة عام 1970. هذه المرة لن تكون دمشق هي مسرح هذا التحالف بعد أن أدرك النظام خطأه في التركيز على استقطاب تُجار دمشق وإهمال تُجار حلب الذين دعموا الطليعة المقاتلة في معركتها مع النظام ما شكَّل تحدياً كبيراً له جعله يعدل في هذه السياسة أولاً على صعيد القيادة الحزبية عندما أتى بزهير مشارقة أميناً قُطرياً مساعداً للحزب ثم على مستوى طبقة مشايخ السُّنة في مرحلة إعداد بشار الأسد لمرحلة التوريث. في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي كانت اللقاءات بين الشيخ أحمد حسون الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في الأوساط الدينية الحلبية لاسيما طبقة التجار منها وبين بشار الأسد تتواصل لإعداده ليكون مفتي سورية الجديد في مرحلة حكمه. لم يكن الشيخ حسون يُخفي هذه العلاقة بل كان يتباهى بها كما فعل في اللقاء الذي جمعنا معه في بيته خلال مأدبة الغداء التي أقامها للمشاركين العرب في ندوة “ابن عربي” التي أقامتها جمعية العاديات في حلب على مدرجات جامعة حلب.
لقد كان النظام حريصاً على ترتيب أوضاع السلطة الجديدة واختيار رموزها فكان الشيخ حسون أحد هذه الرموز السُّنية لتحل محل الشيخ أحمد كفتارو بغية استقطاب طبقة تجار حلب وتوطيد علاقة المصالح المتبادلة بينه وبينهم وتحقيق اختراق في أوساط المشايخ الذين سيلعبون دوراً مهماً في الحؤول دون مشاركة مدينة حلب في الانتفاضة الشعبية وفي الحفاظ على مستوى ملحوظ من التأييد الواضح لسلطة الأسد على الرغم من كل الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري المنتفِض وفي الجزء الشرقي من المدينة الذي كان خاضعاً لسلطة التنظيمات المسلحة المعارِضة قبل أن يقوم الروس بعقد صفقات مشبوهة لاستعادة هذه المنطقة وتهجير المقاتلين وعدد كبير من سكانها إلى إدلب.
لقد لجأ النظام بعد اغتيال الشيخ البوطي ووفاة الشيخ كفتارو وعجز الوريثيْنِ عن لعب الدور الذي كان يلعبه الشيخان إلى استحداث مجموعة من المشايخ الدمشقيين الذين أخذوا يتنافسون فيما بينهم على الولاء لتحقيق طموحاتهم الشخصية ما جعل رجال الصف الثاني من المشايخ يسيطرون على المشهد الديني، لكن دون أن يتمتعوا بالكاريزما التي كان يتمتع بها الشيخان الراحلان، ما أدى إلى لجوء النظام وأجهزته الأمنية إلى الدفع بجماعة القبيسيات إلى الواجهة، خاصة أن زعامة هذه الجماعة تنتمي إلى الطبقة البرجوازية الدمشقية العريقة.
“نداء بوست”