باتت الأطراف المعنيّة بالأزمة السودانية تعترف، داخلياً وخارجياً، بأن “لجان المقاومة” تلعب دوراً أساسياً وحيوياً. فهي وراء التظاهرات المتوالية، منذ الانقلاب العسكري في 25 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي التي قوّضت اتفاق زعيم الانقلابيين عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة المستقيل عبد الله حمدوك، وهي حالياً تشكّل عقبةً أمام “التسوية” التي يسعى إليها رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتس.
ليست الفوضى هدفاً لـ”اللجان” بل “حكم مدني” كامل. وما دامت “الشراكة” بين العسكر والمدنيين هي العنوان المطروح لحل الأزمة، فإن “اللجان” غير معنية به، وتصرّ على شعارها: “لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية”. ولعل حمدوك اعتقد أن هذه اللاءات الثلاث تستدرج العسكر الى حلول دموية، فمال الى التسوية “لئلا يقع السودان في المجهول”، إلا أن الأحزاب التي حاول استمالتها الى حكومة جديدة من “كفاءات مستقلّة” لم تتمكّن من دعمه لأن “اللجان” شهّرت بها، وقبل ذلك شرّحت اتفاق البرهان – حمدوك، فقالت إن الأخير أصبح مجرّد رئيس حكومة يعيّنه العسكر.
كانت “لجان المقاومة” وراء “ثورة ديسمبر 2018”. فاجأت بها نظام عمر البشير ومعارضيه، وفيما حاول النظام إخمادها بالقوة، وجدت الأحزاب نفسها مسبوقةً ومتجاوَزةً ثم التحقت بالثورة، وما لبثت أن ظهرت كيانات مدنية مثل “التحالف من أجل الحرّية والتغيير”، ليكون لها موقع في مفاوضات الحكم البديل، وبالتالي في الحكومة المدنية التي ظلّت “اللجان” مطّلعة على عملها من خلال وزراء قريبين منها. ومع أنها لم تكن راضية تماماً عن تسويات الاتفاق الانتقالي، إلا أنها لم ترفضه وقرّرت مراقبة مسار الانتقال نحو الديموقراطية، بل أوضحت مصادرها دائماً أنها تنتظر “انتخابات حرّة ونزيهة” وتعتبرها منطلقاً للتغيير الحقيقي، إذ كان الاتفاق الانتقالي قد أوحى بأن العسكر سينسحبون أخيراً من سدّة الحكم الى ثكنهم.
في رصدها الدقيق لأداء العسكر، لاحظت “اللجان” أنهم احتفظوا بالمساحات التي يشغلونها وأبقوها بعيدة من أي مساءلة، سواء في السياسات الخارجية أم المالية، والعسكرية طبعاً. بل الأهم أنها أول من نبّه الى أن الجيش لا يفعل الكثير لتوحيد قواه وأجهزته، كما هو مطلوب منه، ثم إن قائمة ممارساته لتهميش للحكومة راحت تطول، فضلاً عن أنه اهتمّ بتعطيل بعض الهيئات التي استحدثتها الحكومة، وأبرزها “هيئة إزالة التمكين” التي عملت على تفكيك بنى النظام السابق.
كما أن الجيش أكثر من الحجج والذرائع لتبرير التأجيل المستمر لتشكيل المجلس التشريعي الانتقالي كسلطة رقابية، ثم عارض لاحقاً انتقال رئاسة المجلس السيادي الى شخصية مدنية، وفقاً للاتفاق الانتقالي. وهذه المسألة كانت من أسباب التوتير الذي افتعله العسكر قبيل تنفيذ انقلابهم.
بعد اعتقال أقطابها وانهيار الحكومة المدنية، دخلت الأحزاب لحظة ذهول وضياع، أما “اللجان” فبدأت مناوشات مع العسكر قبل أن تحدّد موعداً للتظاهرة الأولى ضد الانقلاب. ومع ارتسام المأزق السياسي صار التظاهر آلية لتعميقه، إذ بدا بوضوح أن العسكر أقدموا على خطوة ولم يقدّروا عواقبها. ولما رضخوا للضغوط الدولية، خصوصاً الأميركية، اعتقدوا أن إخراج حمدوك من الإقامة الجبرية وعقد اتفاق معه سينقذهم، لكن الطرفين خسرا، و”اللجان” هي السبب. فعدا معارضتها العنيدة لحكم العسكر، لم تجد “اللجان” حرجاً في الانتقال من “شكراً حمدوك” الى “حمدوك النيّ، الشعب حيّ”، فمن يضع يده في يد العسكر يصبح مرفوضاً.
من أين لـ”لجان المقاومة” هذه الفاعلية، وما الذي جعلها رقماً صعباً في الأزمة؟ والسؤال الأهم: من هم قادتها؟ لم تفلح حملات الاعتقال في القبض عليهم، أو ربما اعتُقل بعض منهم من دون أن يتغيّر شيء في حركة الشارع، واكتشفت الأجهزة أن تنظيمهم بلا قادة أو أنه أقوى من الأشخاص. لا شك بأن أجهزة خارجية تحاول أيضاً تشخيص “اللجان” ولم تلتقط سوى جانب من الصورة، فقد يبدون ظاهرياً كأنهم “تنظيم سرّي”، غير أن الواقع أبسط من هذه الفكرة الشائعة عنهم. هم واحد في كثُر. يقول بعض العارفين إنهم نتاج تطوير لتجربة تضامن اجتماعي عبر “لجان خدمية” محدودة العدد، ظهرت منتصف العقد الماضي في أحياء الخرطوم ومدن أخرى، لكنهم ينتشرون الآن في نحو مئتي منطقة.
لم يأتِ إشعال “ثورة 2018” عفوياً أو ردّ فعل على نقص المواد الأساسية، بل اتّضح سريعاً أن لها هدفاً سياسياً. تشمل فئة الشباب نحو 65 في المئة من المجتمع السوداني، وإليها ينتمي شباب “اللجان” في الأحياء متجاوزين كل الفوارق، فبينهم طلبة الجامعة والثانويات والعاطلون من العمل وغير المتعلمين والفقراء، ومن هم في المستوى الأدنى من الطبقة الوسطى. لديهم تنظيم أفقي ونظام تشاور دائم ونمط تضامن ثابت، وفي ضوء التفاهمات المُنضّجة على مدى أعوام لا تُتّخذ القرارات فوقياً، ولا تُهمل أي فكرة تأتي من هذه اللجنة أو تلك. وخلال الثورة تجنّد العديد من الشباب ذوي الخبرة في الخارج لرفد أنشطتهم ومشاركة كوادرهم في تحليل السياق السياسي وتحديد نوع التحرك المطلوب. هؤلاء جميعاً لم يعرفوا حاكماً آخر غير عمر البشير ونظامه، وأدركوا أن لا مستقبل لهم أو للسودان في ظل حكم عسكري، ولما كانت أبواب الهجرة لا تنفكّ تغلق أمامهم، فإن فكرة واحدة تجمعهم: مشكلتنا هنا في السودان ولا بدّ من أن نحلّها هنا.
في الأيام الأخيرة، بدأ عدد من الناطقين باسم “اللجان” يظهر على الشاشات ليشرح مواقفها، وعلى رغم عدم وجود قيادة معروفة لها، فإن صفحتها الإلكترونية نشرت بياناً عن “لقاء تشاوري” عقد بين وفد من تنسيقيات الخرطوم والقائم بالأعمال الأميركي براين شوكان. حرص الوفد على تأكيد “سلميّتنا المشهود لها” ردّاً على اتهام السلطة بأنهم يتجهون الى “العمل المسلّح”. وإذ أشار الى “جرائم الاغتصاب الموثّقة” ومواصلة اعتقال الناشطين السلميين، لفت الى أن قطع خدمات الإنترنت “دليل على محاولات السلطة إخفاء جرائمها”. والواقع أن “اللجان” تعتمد وسائل اتصال ناجحة، برغم بدائيتها ولا يعطّلها قطع الاتصالات.
والأهم أن المسؤول الأميركي سمع من أعضاء الوفد أنهم “ماضون في طريق إسقاط الانقلاب العسكري، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية والحكم”، وأنهم يعملون على “تكوين مجلس تشريعي ثوري عبر محليات البلاد ليقوم بتعيين رئيس للوزراء”، كما أنهم في صدد الانتهاء من “ميثاق سياسي هو الآن قيد التشاور بين لجاننا القاعدية”. بدأت “اللجان” حراكها قبل أربعة أعوام، لكن قواعدها كانت تردّد على الدوام أن “طريقنا طويل” لبلوغ الهدف.
“النهار العربي”