المدن العالية لا تهبط للجحيم، ولا تترك للشياطين أشجار تفاحها، ولا رائحة أنوثتها وبوح خطيئتها، إذ يتحول التشهي إلى قوة، والجسد إلى برزخ، والرغبة إلى وقت موصول بالخلق… هكذا هي بيروت، المدينة التي أرادوا حرقها عام 1975 لكنها ظلت عصيةً بروحها الفينيقية، تصحو مثل الطائر السحري الذي يؤنسن الرماد، وتسبغ على المكان أبّهة الجسد وهو يعرض سحره وسطوعه للبحر والعابرين..
مراثي بيروت تتسع، دون أن تضيق بها، فهي تناظر اتساع العبارة والرؤيا، فكلاهما إن ضاقتا وإن اتسعتا، تظلان محمولتين على سرير الوقت واللغة، تجريان وتشاءان ما استطاعتا العلو، تحركان فلك الحب والجسد مثل نيزك مفتوح للشواظ، تستعيره، لكي تتوهج، ولكي تهِب المعنى سطوة تأويله، ولتكشف عن تاريخ طويل من المخفي، العالق بذاكرة الماء، وبروح البحر، وبالأسطورة وهي تنطّ مع الجنيات إلى مراكب الصيادين وأغانيهم.
بيروت يختلط فيها التاريخ بالسرد والتخيّل بالخلق، وهذا ما يجعلها غير قابلة للمحو، ولأنها تجاور البحر، والجبل والقمر، فإنها تعيش شهوة الصحو، وشغف الحكي، تشتعل مع الفنارات، وتصغي إلى النداءات البعيدة، حيث يساكنها الشوق والغضب والضوء، إذ تُقدِم دون خوف للاعتراف، للتطهير، ولكي تجعل جيرة البحر جيرةً للموج، وهو يتسلل إلى الثياب والقصائد والحكايات، وإلى فناجين القهوة، ليكشف عن عريها، عري الشهوة ورائحة الأنثى التي تضجّ بالبياض والنداء، وطعم الحمّى، وعطش القُبل وهي تبلل برضابها الاستعارات والمجازات وهذيان الشفة السفلى..
حروبها عابرة مثل اللصوص
في حربها الأولى لم يعثر الغزاة على كنز الساحر الفينيقي، فرحلوا سريعا، دون أن يمكثوا، ودون أن يتركوا لها أوهاما كالبرابرة. وفي حربها الثانية تدفق الجسد ليشفَّ عن عريه الباذخ، وعن ذاكرة عالقة بأسفار آلهة البحر، تقف، لتروي السيرة والحكاية، ولتكرر الإصغاء الممدود من صخرة طانيوس إلى «شادي الفيروزي» الذي لا يكبر. هي لا تخون أحداً مثل الحرب، ولا ترشّ على الآخرين المراثي، ولأنها هكذا، جاورها القمر، والأخطل الصغير وفيروز والصافي وصباح ومحمود درويش وأدونيس، وسليم بركات، وياسر عرفات، لتبدو وكأنها مدينة كوزموبوليتية، يسكنها الناس المطرودون لحاجة الاكتفاء، وللمنفيين الذين جاءوا من وجع الاستبداد والخوف، ليجدوا عند جوارها الأنثوي دفء الليل، وليواجهوا عبرها عصاب الأمكنة، ورعب «الهويات القاتلة» وسفالة «مشعلي حرائق» أولئك الذين تحدث عنهم ماكس فريش، الذين خلطوا لعبة الحرائق بالأوهام والدسائس، حيث حرائق العقائد، والأدلجات، وحيث الجماعات، واليافطات الملعونة، والهويات المقتولة، وحيث تنكشف عبرها بيروت على لعبة التوحش، حيث «الاحتلال الإسرائيلي» عام 1982 الذي انكسر، رغم أوهام شارون وطغيان أسلحته، والخطاب البوهيمي للعنف الدولي والمحلي، وللعطب القومي، إذ تركت بيروت لوحدها أمام لعبة اغتصاب كوني، ظلّ فيه جسدها الفيروزي عصيا، قويا، شاهقا، يساكن روح الخصب والبقاء، مثلما اتسعت فيها الخنادق والقصائد والأغاني، وكأن قدرها هو الاتساع الذي يجاهر بالفكرة والرؤيا والعبارة في آن معا..
كثيرٌ من الشعراء جاؤوها، هربوا من مدنهم المستبدة، ليكونوا أحرارا عند لذائد خنادقها، وشوارعها المشبوكة مثل ثياب العروس، ربما هم يدركون أن هناك كثيرا من العرائس المعرفية، وأنّ الليل في بيروت لا يشبه أي ليل آخر، وأنّ عمر القصيدة فيها أطول من عمر البندقية، وأنّ الشاعر عند بحرها يكون أكثر صحوا من المحارب، وأن لبحر بيروت المتوسط إغواء تنكسر عنده شهوات الحرب، فالجميع التاذ بالبحر وبصوت فيروز، وكأنهم يلتحفون بنوع من الأسطرة، إذ صوت الموجة، هو القرين لصوت فيروز، وروح المدينة تلتحف بثوب اللغة الدافئ، والمتوهج بحرارة اعترافه وتوقه لطهرانية الخلاص..
لعبة الخنادق في ليالي بيروت العاصفة، تحولت إلى شهوة احتواء الأمكنة، وإلى حكايات يلتقي عندها الحزبي والثوري والشعري والجنسي، فسعدي يوسف، يلتقي بأدونيس، وأنسي الحاج يشاطر عصام محفوظ ليله، وغادة السمان تكتب لرجلها الفلسطيني اعترافاتها، وخليل حاوي يجاهر بموته العلني احتجاجا، ويرسم وديع سعادة لقصيدته وجها جافلا، يشاطره محمود درويش الذي صرخ قائلا: نحن الواقفون على خطوط النار… نعلن ما يلي: لن نترك الخندق، بيروت خيمتنا… بيروت نجمتنا، بيروت تفاحة والقلب لا يضحك، وحصارنا واحة في عالم يهلك». وكما فعل سليم بركات الهارب من سوريا، إذ بدا واقفا لحراسة بوابة الفكهاني، التماسا لهبةِ المكان، كي لا يطاله الخوف، مثلما يكتب الآخرون: أمجد ناصر وشاكر لعيبي وهاشم شفيق ونبيل ياسين وآخرون يوميات هوسهم عن الحصار والحرب، إذ يلتمسون روح المدينة التي تصطخب بالشعر والبارود والحكي والحنين إلى ذاكرة المدن المحاربة كباريس ومدريد وسانتياغو…
في حربها الأولى لم يعثر الغزاة على كنز الساحر الفينيقي، فرحلوا سريعا، دون أن يمكثوا، ودون أن يتركوا لها أوهاما كالبرابرة. وفي حربها الثانية تدفق الجسد ليشفَّ عن عريه الباذخ، وعن ذاكرة عالقة بأسفار آلهة البحر، تقف، لتروي السيرة والحكاية، ولتكرر الإصغاء الممدود من صخرة طانيوس إلى «شادي الفيروزي» الذي لا يكبر.
مدينة لا تضيق بالآخرين
رغم أن الحرب تجلب اللصوص والمرتزقة، تصنع لهم الملاذات، وتحت عناوين خائنة، أو خادعة، إلا أن بيروت لم تشأ أن تكون سوى نفسها، يساكنها الشعراء، وهم مقاوموها، يشاطرونها ما تصدحُ، وما تنذرُ، وما أرادت أن تجاهر به، كاشفة عن رؤوس الغزاة/ اللصوص على طريقة «زرقاء اليمامة» كما تقول المثيولوجيا العربية، دون أن تضعف لتسلّم غابة أرزها للآخرين، إذ كان الاتساعُ هو قوتها وحدسها ورؤياها، صنعت للوقتِ توصيفا هو الأقرب للشعر، فضلا عما كانت تبوحه من نصوص تعاند به جرحها العميق، جرح الغدر، وجرح السهو، فظلت تناور برأس النار، وتمارس هوايتها الصاخبة في الوضوح، وفي شجون الجدل، حيث الأفكار التي تحيا، وتصطخب، وحيث الحريات التي تتجاوز ذاكرة الاستبداد، أو لأنها تُذكّر الآخرين بأنّ الحرية وجود، وأنها قرينة بجدوى الوعي النقدي، وأن مسؤوليتها ليست بعيدة عن صناعة المكان والخطاب والحوار، فهي حاضنة للمختلف والمتنوع، إذ تحتفي عبرهما بالحياة، والمستقبل، تفتح ذراعيها للاحتمال، ولمواجهة ما تصنعه السياسات العربية، أو ما يصنعه الأصوليون، الذين كرهوا المدينة، أو بغضوا حريتها وأنوثتها وعريها ونبلها، رغم أنها مدينة لا تضيق بأحد، تفتح أصابعها للهواء، وتمارس حميميتها في التجدد، وفي المغامرة، وفي إثارة الأسئلة، وفي مجاورة القلق المعرفي الذي ساكنته بوعيٍ حاد، وحزنٍ عميق، وبسجالٍ يتقبّل كلّ شهوات المختلف. إنها مدينة رائية، باصرة، عنيدة، تواجه عصف التاريخ بعصف الإرادة، والخذلان بقوة البقاء، وعلى الرغم من أن ما جرى قد حوّل الكائنات والأمكنة إلى أشباح، فإنّ حساسية ما تصنعه المدينة ظل عصيا، ليس للتخلّص من فكرة الشبح، بل بفكرة الانحياز إلى الحياة، وإلى أفق يمكنه استشراف الآتي، حيث خلاص المدينة الخائفة، المدينة المنتهكة، المدينة المفلسة، التي ظلت طوال قرون غنية بسموها، تغتني بالبحر والشعر والموسيقى..
الخيانة هي الكافرة
في الرابع من آب/ أغسطس 2020 انفجر ميناء بيروت بـ2.750 طن من نترات الأمونيوم، ليسجل أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، وليضع الجميع أمام أسئلة مفتوحة، فهل المقصود هو الميناء أم المدينة، أم التاريخ؟ ولماذا بدأت لعبة التجويع والتخوين بعد الانفجار مباشرة؟ ولماذا بدأ الكثيرون يجاهرون بكراهيتهم للمدينة؟
هذه الأسئلة تضع الكلّ عند حافة الشك، ومسّ الخيانة، تلك التي تشبه الكفر، والجحود، فبقطع النظر عن اللعبة السياسية المعقدة في المدينة، وهي ورثت تاريخا طويلا منها، لكن انفجارا بهذه اللعنة، يكشف عن وجهٍ آخر للخطيئة، وللإثم السياسي والأخلاقي والقومي، ولعلاقة ذلك بالعهر السياسي الذي تحوّل إلى لعبة طاعنة في الإفلاس والتجويع، وفي عرض المدينة للآخرين وكأنها خردة، وربما الشك في أنها لم تعد صالحة للخزن المعرفي والثقافي والجمالي، وأن الحنين إليها لم يعد صالحا، وأن خياراتها في الإشعاع والسحر صارت ضيقة، إذ تاهت هويتها، وخرس فيها الكلام، وتسمم عندها الماء والهواء والليل.
من قتل بيروت هو خائنها، هو كافرها، هو جاحدها الذي ضاق ذرعا بكرمها، وبحيواتها التي ظلت تتناسل عن مدن صغيرة، تصحو في الليل، وعند حافة الماء، لتهدج بالشعر، ولتمارس الحب علنا دون مواربة أو تضليل..
العودة إلى بيروت العالية، هي العودة إلى سحر الحياة ذاتها، وفك الحجب عنها، وإعادة تقليب سيرتها، التي يلتقي عندها الشعراء الصاخبون، أو كل الذين يفكرون بصوت صاخب، بدءا من يوسف الخال إلى شوقي أبي شقرا وأدونيس وفؤاد رفقه وخالدة سعيد والماغوط وأنسي الحاج وغسان تويني وسعيد عقل وسهيل إدريس وحسين مروة ومهدي عامل ومحمد العبد الله وعقل العويط وبول شاؤول وشوقي بزيع.. وكثيرون يتشهون صخب الخطى الغامرة.
كاتب عراقي
“القدس العربي”