لستُ ممن يحسنون الرثاء، وكنتُ قد كففتُ عن ذلك منذ سنوات. فقد تعبت من رثاء أصدقائي خصوصا. غير أن فقد جابر عصفور أشعرني بأنني بتُّ إلى من يرحلون أقرب من حبل الوريد، وأن الرثاء لم يعد ذا معنى في مثل هذا الموقف.
لن أكتب رثاءً واجباً لجابر عصفور، فقد كُتِبَ فيه الكثير من الرثاء المستحق، وآن لنا أن نتجاوز وقت الانفعال العاطفي، ليتاح لنا واجب الانفعال العقلاني، حسب الوصية الجوهرية التي علمنا إياها جابر عصفور، ففي هذا تقديرٌ عميقٌ للدور العقلاني الذي سعى إليه جابر عصفور بالذات.
٭ ٭ ٭
الذين غضبوا من جابر عصفور يوم قبوله منصب وزارة الثقافة في حومة (ثورة مصر 2011) يمتلكون حق الغضب والانفعال، كما يقول المثل (العتب على قدر المحبة) فالغاضبون أكثرهم ممن يحبون جابر عصفور ويحترمونه، بل إن معظمهم من أصدقائه، وربما من أقربهم إليه. وكان يحق لهم الغضب والزعل ايضاً، لكن دون ضغائن.
٭ ٭ ٭
الآن، بعدما هدأت النفوس من صدمة الفقد الفادح، من غير أن تهدأ عواطف المحبة والاحترام، سيكون علينا تقدير من انتابته غضبة الأمل الصادق، واحترام العشم بالراحل، ومن غير التفريط في حق التبصّر في ما حاشنا جميعاً من عذاب الانتصار والإحباط، أثناء تلك الثورة ومصائرها. ونحاول مساءلة تلك التجربة الخلافية التي لا يريد أحدٌ الكلام عنها، رغم مثولها الكابوسي الذي ربما يريد البعض تجييرها لصالح العبث بواحدة من أهم التجارب النقدية العربية المعاصرة في مشهدنا الثقافي. أقول مساءلة لئلا نفوّت فرصتنا السجالية وحرماننا من حرية الحوار التي تعلمناها من المعلم الراحل.
٭ ٭ ٭
لقد كان جابر عصفور رأس حربة العقلانية والتنوير في مصر، وكان قد سعى بالديمقراطية نحو الحق الإنساني والحوار الحر في حكم الشعب ونقده. وهذا ما كان يلهم به تلامذته ومريديه. فإذن من حقنا عليه، ليس بوصفه معلمنا الحميم حسب، لكن باعتباره قنديل خطواتنا المتوقع إزاء كل خطوة نستحقها ونسعى لتحقيقها. فليس مثل جابر عصفور، من نذر نفسه لتلك المنافحات الفدائية، وليس مثله من كان يجلس في عرين الوحش ويجهر بمجابهته والاختلاف معه. وإذا كان جابر عصفور قد أخذ درس أستاذه طه حسين مأخذ الجد، سنرى كيف أنه أعاد درس طه حسين بضربٍ جديدٍ من المعرفة والعقلانية وشجاعة العلم، وكنا رأينا كيف تصدى، للتخلف، في بلد مثل مصر، مربط الأصولية الدينية وسلفية التطرف الفكري، بل أعلن مخالفته للأزهر الشريف أيضاً، في سبيل وضع المجتمع في مهب التنوير، ومهمات المجتمع المدني. لذلك كله سنرى إلى من شعروا بقدر كبير من خيبة الأمل والإحباط، متمثلاً في وضع الحصان على عربة الحاكم، في اللحظة ذاتها التي يتعرض فيها المحكومون لعسف السلطات القمعية جميعها. سنرى إليهم بوصفهم الضمير الجذري الساهر على درس جابر عصفور، حتى في أصعب لحظات (عشم) جابر في من لم يكترثوا بالدلالة الفكرية لصاحب (العشم) المغدور.
٭ ٭ ٭
ويمكننا، في الوقت نفسه، أن نرى لصاحب (العشم) باعتباره مغدوراً به، قبل أن تتعرض ثورة ميدان التحرير للغدر، ممن قفزوا على منجزات ثورتهم، ومن اختطفوها للسير على خطها بالممحاة، متقهقرين بها حتى الأسلاف.
فالإخفاق والخيبة وإحباط النفوس الذي أصاب أصحاب جابر عصفور في الثورة يتأتى من استغرابهم العميق من قبول الوهم الذي روّجت له سلطات السلطة المتعددة، ومراهنة معلمهم على ممن لم يؤمن جانبهم طوال تجربة ثلاثين عاماً، واختيار جانب الحكم ضد المحكومين. دون الزعم بأن الأستاذ لم يكن ضد الثورة، فتلك تبريرات يستفيد منها الحكم، ولا تفيد الثورة.
٭ ٭ ٭
الآن، يجوز لمن يريد أن يتذكر جابر عصفور، أن يراه مجرداً مما يتعرض له الإنسان في حياته، الإنسان حياً يتصرف بعفويته الصاعدة من ثقته في البشر، البشر مثله. يحلمون ويمعنون في الخطأ كما لو أنه صواب كامل. البشر خطاؤون، على أن لا نبالغ في تقديس كائنات مثلنا، فنراهم، في غمرة انفعالنا، كأنهم خطأ لم يحدث، أو صواب اكتمل بالموت. الموتى لا يخطئون. الأحياء في ما يعملون يقعون في الخطأ. الجثث يتم الاتفاق على موتها: إنها جثث منتهية. غير الأحياء فحيويتهم لا تحصنهم دون الخطأ. حتى الأنبياء الذين يزعم الزاعمون أنهم لا يخطئون يكون الخطأ دليلهم أحياناً. جابر عصفور ليس نبياً، وينبغي لنا عدم التعامل معه بوصفه كذلك. فمن يريد أن يتذكره أو يذكره، نقترح أن يرى إليه باعتباره خطأ يحتمل الصواب، أو صواباً محفوفاً بالأخطاء.
٭ ٭ ٭
ذلك هو الصديق الجدير بالحب والمساءلة.
محبتنا لجابر عصفور تجعلنا نفقد فيه درساً كثير الفائدة على الصعيد الشخصي، ودرساً شاسعاً فسيح الأرجاء.
وإذا طاب لنا تأمل درس الثورة المصرية في عام 2011، وأخذنا الدرس بقوة، سنرى أن جابر عصفور اختار مضاعفة الدلالات بمجابهة الدرس في جحيم ورشته الداخلية، وعدم ترك العمل لمن حمل، ولكي تتوفر لنا حرية المراجعة، والتضحية بأنفس ما لدى الإنسان، فلمن غضب من خيارات جابر عصفور، ليقل لنا ما الذي يبقى من الإنسان بعد موته.
هنا سنشعر بفداحة ما نفقده.
شاعر وكاتب بحريني
“القدس العربي”