ضيق هامش الحريات في سورية ، بل انعدامها ، معروف للقاصي والداني ، وليس بحاجة إلى دليل . ويندر أن يناقش أحد في هذه الحقيقة الصارخة . وتقارير منظمات حقوق الإنسان الوطنية والعربية والدولية تزدحم بتفاصيل غنية ومغنية عن هذا الموضوع . كما ترصدها بعمق مراكز الأبحاث والدراسات المعنية ، وتنشرها في تقاريرها الدورية ووسائلها المتعددة والمتكاثرة كل يوم . ويعرفها السوريون في حياتهم اليومية ، حيث أتقنوا فنون التقية والتورية والتمويه ، عند الحديث في الشأن العام . ويكثرون من استخدام ضمير الغائب وأفعال المبني للمجهول في حوارهم تجنباً للكلام غير المباح ، أو اللجوء إلى الصمت – وهو " أضعف الإيمان " ، بل الملجأ والأمان – مع تنهيدات وإيماءات واضحة .
الطالب لا يناقش أستاذه خوفاً من التصنيف والتضييق والمواقف المسبقة التي قد تحمله تبعات . والموظف لا يحاور زميله في العمل بأمور عامة ، تحسباً لتطاير كلمات عفوية غير محسوبة جيداً ، تحسب عليه وضده وينال جزاءها . والمدير لا يتحدث مع مرؤوسيه بحرية تجنباً لتقرير يرفعه أحدهم ( وهم كثر ) للجهات المعنية ، فيطير من مركزه وربما أكثر . حتى المسامرات بين الأهل والأصدقاء والجيران غدت خالية من أي شيء يشير إلى الخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية ( عامة كانت أم خاصة ) ، خوفاً من الحيطان التي صارت كلها آذان .
وكما " ضيعت الصيف اللبن " ، فقد ضيع القمع في سورية الرأي والموقف المعلن ، ومنع الحديث بهما بين المواطنين . أما أن يصل الأمر إلى بعض المسؤولين ، فيظهرون ضيقهم وتبرمهم من انعدام فسحة الحرية فهو الجديد . وإذ نرحب بهذه الظاهرة ، حتى لوكانت زلة لسان ، فإننا ننتظر بشوق الوصول إلى حالة " لم يعد الصمت ممكناً " .
في إحدى ندوات الثلاثاء الاقتصادية ، قال نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الدكتور عبد الله الدردري في معرض مناقشته الرؤى الاستشرافية لسورية والخطط الاقتصادية التي يجري تناولها : " لا نملك حتى حرية الحوار " ، ويتابع موضحاً " بمعنى أننا لا نستطيع مجادلة جميع السيناريوهات بكامل الحرية والصراحة " . ولأن السيد النائب لم يفصح عن السبب في عدم امتلاكه حرية الحوار ، ولا عن الموانع التي تحول دون مناقشته للقضايا بكامل الحرية والصراحة ، ولم يشر تلميحاً أو تصريحاً إلى من يلغي هذه الحرية ، ويضع القيود عليها ، فإننا نجتهد في كشف المستور ، ومعرفة المسكوت عنه في السياق وبين الكلمات .
بالتأكيد لا يخاف المخطط الاقتصادي كل هذا الخوف من رئيسه في المجلس أو الهيئة أو المؤسسة . ولا يمكن أن يكون تحسبه من زملائه كابحاً لإرادته إلى هذا الحد . وليس لمرؤوسيه – مهما بلغت قوة نفوذهم – أن يحولوا بينه وبين مناقشة حرة لمسائل موضوعة على بساط البحث . ونستبعد أن يكون الخوف من الرأي العام هو ما يكبح حرية الحوار ويمنعها .
فمن يسلب مسؤولاً اقتصادياً كبيراً من وزن الدكتور الدردري " حرية الحوار " ؟ !
وإذا كان، بكل ما يتمتع به من موقع ومزايا معروفة للجميع ، لا يتمكن من المجادلة " بكامل الحرية والصراحة " فمن تراه يستطيع ؟ !
وبعد . . ما فائدة كل الخطط الاقتصادية والرؤى الاستشرافية للمستقبل ومشاريع الإصلاح ، إذا لم تجر مناقشتها بحرية وصراحة ؟ !
وإذا كان على المسؤولين الكبار أن يبلعوا ألسنتهم ، ويخفوا حقيقة آرائهم وتوجهاتهم ومواقفهم ، ويداروا كلامهم إلى هذا الحد ، فما بال الشعب إذن ؟ ! وكيف تكون حال المعارضة بعد ذلك ؟ !
يبدو أن " الحال من بعضه " كما تقول الحكمة الشعبية . فسلطة الدولة الأمنية القائمة على التسلط والفساد والاستبداد لم تعد توفر أحداً . تطال الجميع ولو بمقادير متباينة بين موقع وموقع . والنظام الذي لا يريد أن يرى الآخرين بآرائهم وإرادتهم ومصالحهم المتعددة والمختلفة ، يضيق حتى لا يتمكن من رؤية بعض القائمين عليه . وتتسع دائرة المنع والرهاب بالتريج لتصل إلى الخاصة وخاصة الخاصة من أهل النظام ، وهو يحصل عندما تأكل السلطة نفسها .
عصا القمع في دولة القمع فوق كل الرؤوس . وعندما يغرق الشارع بالدخان والهواء الملوث ، يصاب الجميع بعسر التنفس ، حتى أولئك الذين يسيرون على الرصيف .
فشكراً للصراحة يا دكتور .
27 / 5 / 2009
هيئة التحرير