في خطاب له أمام فوج من الضباط في الكلية العسكرية الشهيرة ويست بوينت نهاية الأسبوع الماضي، قال رئيس الأركان العسكرية المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، إن الولايات المتحدة لم تعد القوة من دون منازع في العالم كما كانت عليه في السابق. هذه التصريحات تعتبر منعطفا حقيقيا نظرا لطبيعة الشخصية التي صدرت عنها، ذلك أن المؤسسة العسكرية تكون متحفظة في بعض الملفات، بما فيها المؤسسة العسكرية الأمريكية التي تتمتع بهامش كبير من حرية التعبير، مقارنة بباقي المؤسسات في الغرب، من دون الحديث عن مؤسسات في دول غير ديمقراطية، حيث يتم وصف الجيوش بالعلبة الصامتة.
ويعرف عن هذا المسؤول العسكري استقلاليته في إبداء مواقف لما هو في صالح الولايات المتحدة، أي لا يهادن البيت الأبيض، وجنّب الولايات المتحدة الأسوأ منذ سنتين عندما رفض أوامر الرئيس دونالد ترامب بإنزال الجيش إلى الشوارع لفرض ما اعتبره الأمن في مواجهة الفوضى، أي تلك الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد بعد مقتل جورج فلويد على يد شرطة مينيسوتا. وقال قولته الشهيرة بأن الجيش يحمي الدستور والشعب. كما اتخذ كل الإجراءات للحد من الصلاحيات العسكرية للرئيس ترامب، لكيلا يتسبب في حرب مع الصين خلال الخريف الماضي، وفق كتاب بوب وودورد.
وانطلاقا من هذه الاستقلالية ووعيا بالتطورات الجيوسياسية الآخذة في التبلور حاليا، استعرض هذا الجنرال رؤية الجيش الأمريكي للتطورات المقبلة، التي قد يشهدها العالم، ولاسيما في مجال الصراع الدولي والمواجهات الحربية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار هذه الأفكار، لأنها غير صادرة عن سياسي يدلي يوميا بتصريحات للإعلام، بل عن عسكري نادرا ما تصدر عنه تصريحات. ويرى أن احتمال نشوب صراع دولي كبير بين الدول الكبرى وارد، ويرسم صورة قاتمة لوضع الولايات المتحدة بقوله “مهما كان التقدم الذي تمتعنا به عسكريا على مدار السبعين عاما الماضية، فإنه ينغلق بسرعة وستكون الولايات المتحدة في الواقع أمام العديد من التحديات في كل المجالات، الحرب، والفضاء، والإنترنت، والقوات البحرية والجوية والبرية”. ويبرز في الوقت ذاته أن “الولايات المتحدة لم تعد القوة العالمية التي ليس لها منازع”، مضيفا “يتم اختبارها في أوروبا من خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي آسيا من خلال النمو الاقتصادي والعسكري الهائل للصين، وكذلك التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وفي الشرق الأوسط وافريقيا من خلال عدم الاستقرار من قبل الإرهابيين”. والواقع أن هناك فرقا بين التفوق والصدارة العسكرية الذي تمتعت به الولايات المتحدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 إلى 2020 بداية جائحة كورونا كمحطة تاريخية، وهو معطى واقعي بالأرقام، ومقولة إنها قوة بلا منازع، وهو معطى يبقى نسبيا وقابلا للنقاش.
تستمر الولايات المتحدة كقوة كبرى لكنها لم تعد من دون منازع وتفقد الريادة المطلقة لاستعادة روسيا قوتها وتقدم الصين وظهور قوى إقليمية
وعودة إلى تاريخ القرن العشرين، حيث ظهرت الولايات المتحدة كقوة عسكرية وسياسية مهيمنة في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كان هذا البلد القوة الوحيدة التي ليس لديها منازع لحقبة محدودة، لم تتعد بضع سنوات، وهي الممتدة من إلقاء أول قنبلة نووية في اليابان، ونتحدث عن السنوات ما بين 1945 إلى 1951. خلال هذه الفترة كانت واشنطن الأقوى عسكريا ووضعت مخططا مرعبا يسمى “إسقاط الرصاص” Operation Dropshot سنة 1949-1951، ورفع البنتاغون السرية عنه في الكامل سنة 2015 يتجلى في إلقاء 300 قنبلة نووية ضد الاتحاد السوفييتي. خلال هذه الفترة، كان بإمكان واشنطن اتخاذ أي قرار بشن الحرب والغزو لأي منطقة في العالم من دون منازع، لكن بعد التجربة النووية وتأهيل الجيش السوفييتي لاستعمال السلاح النووي ابتداء من 1951 فقدت هذه الميزة نهائيا. في تلك الحقبة كان لا يمكن لأي دولة الوقوف في وجه الولايات المتحدة عسكريا، رغم تمتع الاتحاد السوفييتي بحق الفيتو في مجلس الأمن، إذ لا يفيد الفيتو أمام غياب قوة عسكرية قاهرة تحميه وتشكل ردعا يجعل الآخر يدرك حجم الخسارة التي قد تلحقه إذا شن الحرب. في الوقت ذاته، تعد الولايات المتحدة قوة حقيقية لكنها تستمد جزءا كبيرا من قوتها لانتمائها الى الغرب، فهي زعيمة الغرب، ومن دون الغرب ككتلة ستكون قوة الولايات المتحدة أقل تأثيرا في الساحة الدولية، مع ما يعنيه ذلك من صعوبة فرض قرارات في عدد من الملفات. وتحرص واشنطن على التحرك في كل الملفات الكبرى كوحدة غربية رفقة دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهو ما نجحت فيه في حرب العراق سنة 1991 وفشلت فيه في حرب العراق الثانية سنة 2003، لأن جزءا من الغرب رفض هذه الحرب. وليس صدفة أن تأتي تصريحات هذا الجنرال بعد ضعف وحدة الغرب جراء سياسة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب في التعاطي مع الحلفاء الأوروبيين.
تصريحات الجنرال تعني في العمق فقدان الغرب القدرة على الحفاظ على النظام العالمي الحالي وفقدان الريادة لصياغة نظام جديد بشكل أحادي، من دون لاعبين آخرين، فقد تغيرت الخريطة الجيوسياسية. لقد بدأت الولايات المتحدة ومعها الغرب بفقدان الهيمنة العالمية لسببين، الأول ويعود إلى ظهور قوى عالمية اقتصاديا وعسكريا مثل حالة الصين التي تجمع بين الاقتصاد والقوة العسكرية مثل روسيا، التي تعد قوة عسكرية تنفرد بأسلحة متطورة لا تمتلكها الدول الغربية.
وإذا أردنا فهم مقولة هذا الجنرال على أرض الواقع أي صعوبة اتخاذ الغرب والولايات المتحدة “القرار الحاسم” هو ما يجري من تطورات في الحرب الروسية الأوكرانية. إذ يكتفي الغرب بدور ثانوي إن لم نقل هامشيا نظرا لصعوبة مساعدته أوكرانيا وتقديم أسلحة نوعية قادرة على هزم الروس، بل العجز في إقامة منطقة حظر طيران. من جانب آخر، لا يمكن للغرب الآن الانفراد بالتجسس كما فعل مع برنامج إيشلون نظرا لتفوق الصين في مجال الإنترنت، وبالتالي في الحرب السبرانية. تستمر الولايات المتحدة كقوة كبرى لكنها لم تعد من دون منازع إلا خلال سنين محدودة ما بين 1945-1951، وتفقد الريادة المطلقة لاستعادة روسيا قوتها وتقدم الصين وظهور قوى إقليمية، التاريخ يؤكد أن لا دولة أو حضارة حافظت على التفوق تاريخيا.
*كاتب مغربي
“القدس العربي”