تتعدد الأدوار التي تؤديها الأعمال الفنية في مختلف مجالاتها الدرامية والمسرحية والسينمائية؛ منها نقل الصورة الحقيقية -الإيجابية أو السلبية- للمجتمع، أو العمل على إظهار الجوانب المشرقة من تاريخ هذه المجتمعات وحضارتها، إلى طرح أفكار وآراء جديدة، إلى غير ذلك من الأدوار المختلفة، وقد ساهم التطور الكبير لوسائل الإعلام في سرعة انتشار هذه الأعمال، مما جعل التنافس بين الدول على نشر ثقافة وتاريخ كل دولة، وإبراز المظاهر الحضارية والثقافية لكل مجتمع عن طريق الأعمال الدرامية يغدو أشد وأكبر.
حكم آل الأسد
ولكن المتابع للدراما السورية على امتداد حكم آل الأسد يجد أنها تلعب دوراً نقيضاً ومعاكساً تماماً لهذا الاتجاه، إذ حاول النظام الطائفي الذي يفتقر إلى أي منتج حضاري أو ثقافي في تاريخ سوريا الحديث، استغلالها في رسم صورة نمطية مشوهة ومغايرة تماماً لتاريخ وواقع المجتمع السوري، فقدت حرصت الكثير من الأعمال الدرامية على تصوير المجتمع السوري على أنه مجتمع متخلف، منغلق، تحكمه عادات وقيم بالية، وكان من أبرز هذه الأعمال ما سمي بـ”أعمال البيئة الشامية”، التي كانت تعكس صورة مناقضة لحقيقة ما كان عليه المجتمع السوري عامة والدمشقي خاصة.
ولن نتطرق في كلامنا هنا عن الاستغلال السياسي لهذه الأعمال من قبل النظام، وحرصه على بث رسائل معينة للمجتمع، والتسويق لأهداف ومبادئ حزب البعث، وفي هذا السياق كانت هناك الكثير من الأعمال التي تصوير الحالة البائسة للمجتمع السوري الذي كان يعيش في ظل الإقطاع والرأسمالية، ليأتي بعد ذلك “حزب البعث” ويكون هو المنقذ والمخلص من هذا الواقع، هذا طبعاً إلى جانب الأعمال والمسرحيات كـ “ضيعة تشرين” مثلاً التي صورت انقلاب حافظ الأسد “الحركة التصحيحية” على أنها الإنجاز الذي ساهم في استقرار سوريا وتطويرها.
تشويه تاريخي
لا نقصد هنا بكلمة (تاريخي) الماضي البعيد، وإنما نقصد به الماضي القريب لسوريا الذي يمتد لما يقارب مائة سنة تقريباً، إذ لعبت المسلسلات الشامية دوراً مهماً وأساسياً في تشويه هذه الفترة من تاريخ سوريا، فكانت أعمال مثل (ليالي شامية، ليالي الصالحية، وباب الحارة،ووو)، التي صورت المجتمع السوري عامة والدمشقي خاصة على أنه مجتمع متعصب متخلف تحكمه عادات موروثة، يحتقر المرأة ويقدس الرجل، وينذر فيه التعليم، إلى غير ذلك من الصور التي ساهمت في ترسيخ صورة قاتمة في وجدان الأجيال عن هذه الفترة التاريخية لسوريا، بينما ومن خلال العودة إلى التاريخ الحقيقي لهذه الفترة نجد أنه في العام 1930 أسقطت دمشق (صبحي بركات) مرشّح الفرنسيين، وانتخبت (محمد علي العابد) رئيساً للجمهورية السورية، وبالمناسبة لم يكن العابد (أزعرا) يحمل خنجره و(يصرخ) كالدواب، ولم يكن هو وقادة الحراك الوطني في تلك الفترة أميين، بل كان “العابد” يحمل شهادتي دكتوراه، الأولى في الهندسة المدنية، والثانية في القانون الدولي.
الكتلة الوطنية
وكان يتقن اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية، وهذا شأن أغلب رجال الكتلة الوطنية السورية في ذلك الوقت، أما في مجال التعليم فنجد أنه في عام 1903 تم تأسيس المدرسة الطبية في دمشق، لتكون النواة الأساسية لجامعة دمشق التي أُسست رسمياً عام 1923، والتي تعد أقدم جامعة حكومية في الوطن العربي، حيث خرَّجت 35 طالباً في كلية الطب البشري عام 1930، وطبعاً لم نجد عملاً درامياً يسلط الضوء على هذا المنبر العلمي وإنجازاته، واكتفت هذه الدراما بتصوير “حلاق الحارة” الأُمي على أنه هو الطبيب والمعالج لكل الأمراض، ولكافة الأعمار.
وكذلك الأمر بالنسبة للنساء التي تم تصويرهن على أنهن أشبه بالخادمات، تقتصر مهمتهن على الطبخ وخدمة الرجل، إضافة إلى حرمانهن من التعليم، بينما نجد نقيض ذلك تماماً بالعودة المراجع التاريخية التي وثقت في عام 1922 تأسيس نساء دمشق لما سُمي بـ “الرابطة الأدبية”، وبعدها بفترة قليلة أسست السيدتان مريانا مراش و ماري عجمي “المجلس الأدبي”، والذي ضمَّ عمالقة الأدب والفكر من دمشق والمحافظات السورية الأخرى، والذي أصدر أول صحيفة نسائية عربية كانت تسمى صحيفة “العروس”، هذا إضافة إلى وجود عدد من الجمعيات الأخرى كـ “جمعية يقظة المرأة الشامية عام 1927 التي هدفت إلى تشجيع عمل النساء في الريف، وإحياء وتنظيم الصناعات اليدوية التقليدية.
الدراما المعاصرة
أما الدراما المعاصرة، وبالتحديد أكثر فترة العشر سنوات الأخيرة، التي نجد فيها أن الكثير من أعمالها لم تكن أقل شأناً في لعب دور تشويهي، ساهم بشكل كبير في وسم المجتمع السوري بمظاهر وعادات غريبة عنه ودخيلة عليه، فقد عمل نظام الأسد في هذه الفترة على استغلال حالة الانفتاح “الإعلامي” والتغييرات الديمغرافية التي طرأت على المجتمع السوري في هذه الفترة، في تشجيع أعمال تبالغ في تصوير حالة الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري للمجتمع السوري، كـظاهرة “المساكنة” التي صورها مسلسل “أولاد آدم”، والذي عُرض في رمضان 2021، إذ تجسدت فيه أول علاقة مساكنة في الدراما السورية، في تحدٍ واضح لقيم المجتمع وعاداته، وتخطى الأمر ذلك الحد إلى كسر بعض الخطوط الحمراء التي كانت تتحكم بشكل الدراما السورية في الماضي؛ لتصدم المشاهدين بإقحام حوارات جريئة ومشاهد تتضمن إيحاءات جنسية وتكسر حدود وضوابط العلاقات التي تحكم أجساد الممثلين على الشاشة، حتى أضحت قبلات مسلسل “شارع شيكاغو”، والشتائم والألفاظ النابية فيه حديث الشارع السوري بشكل عام، وبعض الأعمال تجاوز هذا الحد بكثير وخاصة بموضوع الخيانة الزوجية، إذ تصورها بعض الأعمال كمسلسل “نساء من هذا الزمن” بشكل فاضح جداً، وخاصة بموضوع خيانة المرأة لزوجها، تصور الخائن من كلا الطرفين في مظهر الضحية المثير للشفقة، لدرجة يشعر المشاهد معها أنه يتابع فيلماً غير عربي.
كل هذا جعل، إضافة إلى العقوبات المفروضة على شركات الإنتاج السورية، جعل الكثير من القنوات العربية التي كانت تتنافس -فيما مضى- لعرض الأعمال الدرامية السورية في رمضان مثلاً، ترفض في السنوات الأخيرة عرض أغلب ما تنتجه الدراما السورية، لأنها اعتبرت أن عرض هكذا مسلسلات في شهر مقدس يعتبر شيء مخل دينياً وأخلاقياً، وفيه تقليل من شأن المسلمين.
وأمام هذا الواقع يتساءل المرء من المسؤول عن الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه الدراما السورية؟
ومن صاحب المصلحة في تلويث صورة السوريين أمام الآخرين؟
ليكون الجواب أن النظام هو المسؤول والمستفيد، فالنظام الذي استغل الدراما -سابقاً- لتجميل صورته الإجرامية، تكمن مصلحته في الوقت الحالي بتحميل المسؤولية عن هذا الانحلال الأخلاقي والاجتماعي للطرف الآخر “الثورة”، الذي يصوره النظام عبر وسائل إعلامه أن هو الذي دمَّر سوريا أرضاً ومجتمعاً وحضارةً، فالنظام يريد من ذلك كله إيصال رسائل مفادها أن على السوريين أن يقبلوا -رغم كل ماجرى- العيش في كنف هذا النظام، وأن يحنوا إلى سنوات ما قبل الثورة، ولو كلفه ذلك تشويه صورة هذا المجتمع، ونسف ما تبقى من قيم وأخلاق حميدة مازال المجتمع السوري يحافظ عليها رغم كل المحاولات التي تسعى لطمس تاريخ وحضارة هذا المجتمع العريق.
كاتب سوري
“القدس العربي”