ملخص تنفيذي
في المذكرة الاستراتيجية وفي كتاب إدارة التوحش اللذين صدرا عن تنظيم القاعدة تعثر على تخطيط مشفوع بتنبؤات رغبوية عن مراحل الطريق إلى الخلافة الإسلامية، ولعل الناظر بعمق في هاتين الوثيقتين يلحظ رؤية يمكن وصفها بالاستراتيجية في تقسيم الطريق المفضي إلى الهدف، ولكنه لا يستطيع إقصاء الشك الذي يعتريه عندما يجد تنبؤات تحققت، وكأن لمن تنبًا بها دورًا في صنعها مع أن أحدًا لم يكن يجرؤ على ترجيح حصولها. ففي النصين مثلًا تنبؤ بحدوث ثورات الربيع العربي وبالفوضى التي حصلت بعد حصول بعضها، ولا تحتاج أن تتبنى نظرية المؤامرة لكي تضع احتمال ضلوع جهات ذات نفوذ في المساهمة في صياغة هذه التنبؤات، فضلًا عن المساهمة على الأقل في توجيه مساراتها بعد انطلاقها.
ومع غزارة الأبحاث التي اهتمت بتنظيم داعش تلحظ علة تمثل محورًا لعلل ظهور ما يسمى بـ “دولة الخلافة”، وهي الأزمة السنية، وهي الأزمة التي تبدو ظاهرة للعيان بحيث يصعب إنكارها، ويقصد بها ما تعرض له أهل السنة من إقصاء في العراق، وما تبع ذلك في سورية من كارثة طالتهم على جميع المستويات.
لا شك -كما قلت- إنها أزمة لا يحتاج المرء أن يكلف نفسه مؤونة كبيرة لرؤيتها، ولكنها -في رأيي- لا تصلح لوحدها لاحتلال نقطة المركز في التفسير، فالتنظيم المتطرف لا يعدم جذورًا في أدبيات الإسلام السياسي قبل عقود، ولا يعدم منطقًا يصلح للاستثمار في المنظومة التراثية الأقدم بكثير.
وقد اتبع الباحث منهجًا يجلي الآثار عن طريق محاولة تبين الملامح العامة لاستراتيجية تنظيم داعش خلال المراحل المختلفة؛ لأن القبض على هذه الملامح العامة لاستراتيجية تنظيم داعش يساعد في القبض على ما خلفه من آثار، وما يحدثه من أثر مستمر بشكله الحالي بعد انهيار دولته وتحوله إلى تنظيم متمرد يظهر ويختفي، ويتبع نهج التخويف الذي طالما كان نهجه المتبع.
وفيما خص الآثار التي خلفها تنظيم الدولة على منطقة الفرات التي كانت إحدى مدنه عاصمته -وهي مدينة الرقة-، فإن هذه الآثار ليست نتيجة مباشرة لسبب هو ممارسات التنظيم، وإنما هي آثار تخلقت في تفاعل جدلي مع تلك الممارسات، ومع بنية تكونت قبل سيطرته، وهي بنية صنعها مزاج فكري وسيرورة تاريخية ونظام استبدادي.
يحاول هذا البحث المكثف أن يتتبع بصورة سريعة المحطات التاريخية لنشوء دولة الخلافة الإسلامية وانهيارها، ثم يحاول رصد ما خلفته دولة الخلافة من آثار لا يمكن قياس معظمها بدقة، هذا فضلًا عن آثار لا يمكن إطلاق حكم تعميمي بتشابهها في كل مكان سيطر فيه تنظيم داعش في سورية وأصبح جزءًا من تاريخها. وقد حاول البحث تتبع أثر تنظيم داعش في البنية القبلية في منطقة شرق سورية المدروسة وبعض الآثار الاجتماعية التي خلفها تنظيم داعش بممارسته إبان وجوده كسلطة، كما عرض لحالة مخيم الهول التي تكثف آثارًا مهمة لتركة تنظيم داعش. ثم ختم الباحث ببعض النتائج والتوصيات.
عمد الباحث إلى مراجعة مصادر ثانوية لدراسة أثر تلك المرحلة تمثلت في كتب وأبحاث، واعتمد لأجل مقاربة الآثار على مقابلات معمقة مع معاصرين لدولة الخلافة في مراحل متفاوتة من وجودها، وقد وجه الباحث أسئلة محددة لمن أجريت معهم المقابلات من أبناء المنطقة.
لا يمكن للبحث ادعاء الإحاطة بكل تركة تنظيم داعش في المنطقة من حيث الأثر، وخصوصًا أن تنظيم داعش لا يزال موجودًا ولا يزال ينفذ عمليات ضد خصومه الذين يحددهم، ولا يقتصر وجوده على مناطق البادية -كما يظن- أو على أوقات الظلام، بل إن عناصره يظهرون في مناطق مأهولة وفي وضح النهار.
تمهيد
إن بحث أثر تنظيم داعش في شرق سوريا أمر عسير لأسباب عديدة منها: أن التنظيم لا يزال موجودًا ولا يزال ينفذ عملياته، ولا يزال يقضّ مضجع خصومه ويبعث البشرى في قلوب أنصاره، فانهيار آخر معقل لدولته في الباغوز في أقصى شرق دير الزور عام 2019 لم يكن يعني القضاء عليه، فقد اتخذ التنظيم تكتيكًا جديدًا حوّله إلى شبح يظهر ويختفي مستخدمًا الصحراء كمقرّ بديل. ومن الصعوبة بمكان قياس الأثر الذي خلّفه تنظيم الدولة وهو لما يختف من الوجود بعد، ولا يزال أثره متغيرًا رئيسًا من متغيرات الواقع في تلك المنطقة.
ومن أسباب صعوبة قياس الأثر الرعب الذي نشره التنظيم في قلوب الناس، والذي يصلح أن يكون أثرًا من آثاره؛ الأمر الذي جعل انتزاع شهادات من عدد كبير من معاصري المرحلة وما تلاها ليس بالأمر الهين، ففضلًا عن الخوف على الذات -الذي قد يكون مبالغًا فيه- من طرف من نجا بنفسه، ثمة خوف مبرر من طرفه على ذويه ممن لا يزالون في المناطق التي يتسلل إليها عناصر تنظيم داعش ليلًا من مخابئهم الصحراوية أو يظهرون فيها في وضح النهار.
مشكلة البحث
امتلك تنظيم الدولة الإسلامية استراتيجية ذات ملامح محددة، وتمفصل كيانه مع كيانات قوى مختلفة ذات مصالح في المنطقة، وخلف أثرًا متعدد المستويات متفاوت العمق -إبان هيمنته على منطقة شرق سورية- في بنية المجتمع على أصعدة مختلفة دينية واجتماعية واقتصادية.
تشتق من المشكلة فرضيات أساسية:
امتلك تنظيم الدولة استراتيجية واضحة المعالم وبعيدة المدى مكّنته من إحداث أثر ملموس في المنطقة المدروسة.
استثمرت أجهزة العالم المختلفة في ظاهرة تنظيم الدولة لغايات متنوعة، ولم يكن في الأصل مصنوعًا على أيدي هذه الأجهزة.
أحدث التنظيم أثرًا ملموسًا في نمط التدين والتعليم والبنية العشائرية وفي الحالة الاقتصادية.
أهداف البحث
يهدف البحث إلى:
رصد أثر تنظيم الدولة في الواقع الاجتماعي في منطقة وادي الفرات كدراسة حالة عبر الإجابة عن أسئلة أساسية تتعلق باستراتيجية التنظيم الكفيلة -باكتشاف نوعها- في معرفة عمق هذا الأثر وتحديد جنسه.
اقتراح حلول لتجفيف تركة تنظيم داعش عبر مناقشة حالات متعينة تجسد هذا الأثر من أجل التمكين من مقاربة المشكلة وعلاجها مقاربة واقعية.
أهمية البحث
تكمن أهمية البحث في تسليطه الضوء على أثر لا يمكن إغفاله لتركة تنظيم الدولة عبر سنوات سيطرته على المنطقة بمناقشة حالات حية، وربطها بإطار كليّ ترسم حدوده فرضيات معينة مشتقة من دراسة معمقة للواقع الحالي وعلل حدوثه الفاعلة واستشراف معلولاته.
منهجية البحث
استخدم الباحث منهج دراسة الحالة التي هي حالة منطقة محافظة دير الزور، وقد اتبع الباحث من أجل دراسة هذه الحالة أداة المقابلات المعمقة حيث أجرى خمس عشرة مقابلة مع أفراد عاصروا تنظيم داعش وباحثين مختصين في ظاهرة التنظيم من أبناء المنطقة وجه فيها أسئلة محددة، كما عمد الباحث إلى مراجعة مصادر ثانوية لدراسة أثر تلك المرحلة تمثلت في كتب وأبحاث بعضها ناقش ظاهرة تنظيم داعش قبل تحوله إلى دولة خلافة وأثناء سيطرته كدولة، وبعضها ناقش الظاهرة بعد سقوط الدولة.
الدراسات السابقة
استفاد الباحث من دراسات سابقة من أهمها كتاب “تنظيم الدولة الإسلامية، الأزمة السنية والجهاد العالمي” وهي دراسة مهمة ناقش فيها الكاتبان “حسن أبو هنية” و”محمد أبو رمان” جذور تشكل الدولة الإسلامية والطريق إلى إعلان الخلافة، والصراعات الأيديولوجية داخل التنظيم والانشقاقات التي حصلت والحرب التي شنت على الدولة الإسلامية. وقد تميزت الدراسة بواقعيتها وغنى معلوماتها وعانت عند الإشارة إلى شرق سورية ما يعانيه عموم الباحثين من غير أبناء المنطقة من الوقوع في بعض التعميمات التي لا تستند إلى أساس علمي.
وما يميز الدراسة الحالية هو اختيارها مجالًا محددًا من جهة، وبحث تركة تنظيم داعش في هذا المجال من جهة أخرى عبر حوارات معمقة مع معاصرين للتنظيم من أبناء المنطقة.
ومن الدراسات دراسة: “تنظيم داعش وأخواتها من القاعدة إلى الدولة الإسلامية” للكاتب محمد علوش، وقد تميزت باتساعها وعودتها إلى التاريخ المبكر لنشوء القاعدة، وشرحها المفاهيم الأساسية التي تشكل فكر تنظيم القاعدة والخلافات بين القاعدة وتنظيم الدولة، كما أنها سلطت الضوء على مقدمات السلفية الجهادية في سورية، وناقشت حضور تنظيم القاعدة في دول عربية عديدة وقدمت عرضًا لمراجعات للتجربة.
تميزت الدراسة باتساعها الأفقي والعمودي، وباستنادها إلى مصادر موثوقة في عرض الوقائع التاريخية، وهو اتساع يمثل نقطة قوتها وضعفها في آن؛ فهو نقطة قوة لثراء الصورة التي يقدمها، ونقطة ضعف لأنه لا يساعد في رصد الأثر الذي لا يمكن أن يكون متطابقًا في البيئات المختلفة، وهي نقطة ضعف تحاول الدراسة الحالية تلافيه.
كتاب “ما بعد دولة الخلافة: الأيديولوجيا، الدعاية، التنظيم والجهاد العالمي هل سيعود تنظيم داعش من جديد؟”.
والكتاب شارك فيه مجوعة من الخبراء والباحثين العرب والأجانب، وكان المحور الذي دارت حوله مجوعة الأبحاث المختلفة هو مستقبل تنظيم داعش بعد انهيار الخلافة واستراتيجيتها الإعلامية والعسكرية ومستقبل تركتها البشرية من عائدين ومعتقلين ومستقبل الجهادية العالمية بشكل عام واستراتيجيات مكافحة التطرف.
تميز هذا الكتاب بتنوع الرؤى وزوايا النظر، ولكن بدا في بعض أبحاثه الموقف الأيديولوجي الطاغي على الموقف العلمي، كما أنه لم يحاول الحفر شاقوليًا في منطقة محددة كما تحاول ذلك الدراسة الحالية.
ومن المراجع المهمة البحث المكتوب باللغة الإنكليزية بعنوان:
: ISIS’S SECOND COMEBACK
ASSESSING THE NEXT ISIS INSURGENCY
Jennifer Cafarella with Brandon Wallace and Jason Zhou للباحثين:
: Institute for the study of war والصادر عن مؤسسة:
وقد ركز البحث على تحول التنظيم بعد هزيمته إلى تنظيم متمرد، وتميز البحث بدقة تفصيله لهذا التحول، وهو تفصيل مدعوم بخرائط انتشار التنظيم في سورية والعراق وعملياته التي تعزز حضوره في مناطق الانتشار الجديدة. ويؤكد البحث أن التنظيم أشد خطرًا اليوم في مرحلته هذه من مرحلته السابقة، وأنه قد هيأ نفسه لتحوله الحالي قبل هزيمته الأخيرة، وأن الوقت الذي طال من أجل تخليه عن آخر معاقله في الباغوز كان كافيًا لإعادة التموضع.
ويضعف البحث إغفاله للتدمير الذي سببته قوات التحالف للحواضر التي استهدفتها وتحميله مسؤولية هذا التدمير لتنظيم تنظيم داعش بعدّه استراتيجية مقصودة اتبعها تنظيم داعش من أجل عزل السنة من أبناء هذه المناطق وإشعارهم بالضعف.
مقدمة
لم يكن يدور في خلد الكثيرين أن دولة العراق الإسلامية التي ظهرت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي ستكون ذلك الطفل الذي سيبلغ أشده بعد بضع سنوات متحولًا إلى كيان يشغل الدنيا، ويحرّض جيوش العالم على التحالف لمحاربته. وقد كان جليًا أن التنظيم يمتلك تصورًا للتعامل مع المناطق التي تسودها الفوضى في استراتيجيته التي تتوج مراحلها بإعلان دولة الخلافة. وقد أطلق على أسلوبه في إدارة مناطق الفوضى اسم “إدارة التوحش” بمعنى إدارة الفوضى المتوحشة في مناطق وقعت تحت سيادة قانون الغاب بعد انهيار الأنظمة الحاكمة لها.
وكما جرت العادة، فقد جعل المتابعون من هذه الظاهرة ميدانًا لاستعراض مسبقتين أساسيتين:
مؤامرة تنسج خيوطها استخبارات محلية وإقليمية ودولية.
مظلومية تعانيها شريحة من المجتمع يمكن لمن يستثمرها أن يحولها من الممكن إلى الفعل.
وفي رأي الباحث أن المسبقتين التي احتلتا مقدمات المتون التحليلية قاصرتان ما لم يُضَف إليهما حقيقة أخرى، وهي قابلية المنظومة التراثية لأن تكون رحمًا يتخلّق فيه جنين التطرف، ويتولد منه كيان مشوه إذا عبثت بهذه المنظومة عقول انتقائية، ونفقت في زواياها سوق ظاهرية تستند إلى مرجعية سلفية تتباين تنويعاتها ويجمعها جذر مشترك هو الخطاب الهوياتي الذي مهما تكلف صاحبُه توسيعَ حدوده، فإنه سيظل مانعًا له من مد جسور مع الآخر المختلف.
لا شك أن لأجهزة الاستخبارات باعًا في التعامل مع أي كيان متطرف ذي برنامج سياسي وغايات ألفية ومع غيرها من الكيانات، ولا شك أن استضعاف سنة العراق وسورية يصلح عاملًا تفسيريًا لتولد نقمة من أهل السنة على من يقصونهم ويرتكبون الجرائم بحقهم، وهي نقمة استطاعت دولة العراق الإسلامية استثمارها في العراق بخطابها الهوياتي، كما تمكنت من اللعب عليها دولة العراق والشام الإسلامية في سورية بخطاب صريح في طائفيته.
وقد ناقش الباحث فرضية صنع تنظيم داعش على أيدي أجهزة استخبارات دولية وإقليمية، وخلُص إلى أن ما يساق من أدلة لإثبات هذه الفرضية لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن مواقف فردية مشفوعة بأدلة انتقائية، وأن أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه البحث العلمي هو أن التنظيم مخترق من طرف أجهزة استخباراتية، وأن تمفصلًا بينه ككيان وبين كيانات أخرى هو الوصف الأكثر دقة لعلاقته بهذه الأجهزة.
كما أن الأزمة السنية التي توضع كعلة فاعلة رئيسة لظهور تنظيم داعش ليست في نظر الباحث علة رئيسة وإنما هي علة من العلل الفاعلة، فلا شك أن استهداف أهل السنة واقع لم يعد ممكنًا إنكاره، وقد أصبحت ملامحه ملء السمع والبصر، فتهميش السنة على يد نظام حكم أقلوي في سورية وإفساح المجال له لكي يكون الطرف الأقوى في معركة البطون الحوامل، وهو التعبير المجازي عن التغيير الديموغرافي الذي بات صريحًا في عزمه على تنفيذه في سورية بتهجير السنة وتوطين الشيعة مع حليفه القوي نظام الملالي في إيران. وما جرى في العراق من تغلغل للنفوذ الإيراني وهيمنة لحلفائها بالتزامن مع ما يسميه أحد الباحثين ” أبلسة السنة” يجري شبيهه في اليمن بدعم إيران للحوثيين، وتمكين حزب الله من أن يكون اللاعب الأقوى في لبنان. كل هذه الوقائع الفاقعة تصلح أدلة قاطعة على استهداف لأهل السنة يخدم استراتيجية إيرانية برضى إسرائيلي وبدعم غربي روسي لخلق شرق أقلوي يحكمه النفود الشيعي ولا أثر فيه لنفوذ سني.
وهي أزمة سنية كفيلة بتوليد نقمة تمثلها تنظيمات متطرفة تجد الساحة أمامها خالية في ظل خلو هذه الساحة المستهدفة من مشروع حداثي معاصر يناقش قضايا راهنة، ويدفع بالفكر الإسلامي إلى ذرى تجديد تخلف عنها منذ قرون ما خلا تصورات فردية لمفكرين مثلت جزرًا منفصلة لم تقو على مواجهة المد الطاغي لخطاب التطرف والتكفير الذي ملأ الساحة صراخًا نقمة على التغول الشيعي المدعوم إسرائيليًا وغربيًا وروسيًا، ولكن بخطاب يرتد فيه التاريخ إلى الماضي وفق منحنى دائري بدل أن يندفع إلى المستقبل وفق مسار تصاعدي.
ولكنّ في الاكتفاء بحقيقة ما يسمى الأزمة السنية وبالمؤامرة الاستخباراتية إغفالًا لحقيقة إمكان موجود في المنظومة نفسها لتهيئة التربة للتطرف، وهو إمكان لا تخلو منه أي منظومة قائمة على الإغلاق العقيدي، تحتكر الحقيقة وتقدّم نصوصها على أنها مطلقة بحكم مصدرها الإلهي، وهو ما يجعل بذرة الإقصاء حاضرة فيها، وهي بذرة لا يمكن منع تبرعمها إلا بجعل تبنيها كحقيقة ممكنًا بين ممكنات في فضاء تعددي يفسح فيه المجال للحوار الندي بين مختلفين من أجل الوصول إلى اتفاقات عابرة للعقائد. فلم يعد ممكنًا مثلًا قبول فقه يفاضل بين الناس على أساس الانتماء الديني ويجعل التكافؤ بين الزوجين منعدمًا إذا كان أبوا الزوجة مسلمين وأبوا الزوج ليسا مسلمين في تفضيل لصالحها بالطبع، بل إنك تجد في هذا الفقه تفضيلًا لمن له أب واحد في الإسلام على من أسلم لوحده فقط. كما أن مفاهيم من قبيل “دار الإسلام” و”دار الكفر” لا يمكن لها أن تتعايش مع عالم معولم سالت فيه الحدود وأصبح فيه للزمان والمكان معنيان مختلفان عن معناهما الصلب المطلق الذي نوقشت وفقهما النصوص الدينية واستخرجت منها أحكام المنظومة الفقهية، فلا تخوم فاصلة بصرامة اليوم بين الأمم، ولا حاجز يمكن أن يمنع التأثيرات المتبادلة بين الثقافات في ظل ثورة الاتصالات والزمان والمكان السائلين.
كما إن التطرف -كممكن تهيئ المنظومة التراثية له التربة لكي يستنبت- ممكنٌ العثور على جذوره في إمكانية حرف هذه المنظومة عن نطاقها المركزي وهو نطاق الأخلاق إلى نطاق الدولة، وجعل الأخيرة غاية لا تعدلها في الأهمية غاية، وهو حرف لها كرسته قوى الإسلام السياسي منذ بدايات بزوغها. كما أن في المنظومة إمكانًا قابلًا لتهيئة تربة للتطرف في حطّ للأخلاق من مكانتها السامية إلى مكانة ثانوية لا تليق بها.
أما الإمكان الأول فقد بات دليل عمل لقوى الإسلام السياسي مبنيًا على مقدمات تقدم على أنها مسلمات على رأسها وجوب إقامة الدولة التي تقيم شرع الله، وهو واجب يعد من يتخلف عن السعي إلى تحقيقه عاصيًا ومن ينكر وجوبه كافرًا.
وأما الإمكان الثاني، فإن العثور عليه ممكن بتأمل بسيط في المنظومة الأصولية التي جعلت فيها مكارم الأخلاق في صنف التحسينيات لا في صنف الضروريات ولا الحاجيات، وقد احتلت مكانها ذاك في مقاصد الشاطبي التي تعد من أنضج تجليات هذه المنظومة وأرقاها.
ففي مقاصد الشاطبي نجد التقسيم الثلاثي للمصالح إلى ضروريات: هي مصلحة الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وحاجيات دائرة على هذا الترتيب، وهي ما يوقع عدم مراعاتها المكلف في حرج وضيق، وتحسينيات يقول الشاطبي إنها: “راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات”
فمكارم الأخلاق -كما نرى- في المرتبة الثالثة في سلم المصالح، وهو خلل كبير في المنظومة المقاصدية، لأنه لا يضعها في مكانها الذي تستحقه في قلب هذه المنظومة، ولا شك أن البعد الأخلاقي موجود في كل صنف من أصناف الشاطبي، ولكن مأخذنا على تصنيف الشاطبي هو عدم جعل الأخلاق في قلب المقاصد الشرعية، وعدم الأخذ في الحسبان كونها غاية الغايات. وليست مكارم الأخلاق التي وضعها الشاطبي في صنف التحسينيات مطابقة للأخلاق بمعناها المعاصر، ولكن الاعتراض إنما هو على التصنيف الذي لم دفع بمكارم الأخلاق إلى أدنى السلم التفاضلي، ولم يجعل من القيم الأخلاقية نواة تسبح في فضائها مقاصد التشريع. ولعل إغفال مصلحة العدل مثلًا وعدم إدراجها في الضروريات ما هو كفيل بكشف الخلل في تصنيف الشاطبي من عدة جهات:
الأولى: عدم استغراق تقسيم الشاطبي كل المصالح، وهو قصور في التقسيم الذي ينبغي لكي يكون تقسيمًا صحيحًا أن يستغرق كل جزئياته.
والثانية: إغفال قيمة أخلاقية مركزية في المنظومة الإسلامية لا يمكن ألا توضع في رأس سلم المصالح، وهي قيمة عدها الله من أسمائه الحسنى.
إن المقاصد -في رأي الباحث- هي من أرقى ما أنتجته المدونة الأصولية ولكن أوجه القصور المذكورة فيها آنفًا، والتي يمكن اختصارها بعدم تسنم القيم الأخلاقية العليا التي تستبطنها كل أصناف المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية المرتبة الأعلى وعدم جعلها غاية الغايات هي ما يطالب الباحث بإعادة النظر فيه من أجل اجتراح تقسيم جديد للمصالح تتبوأ فيه القيم الأخلاقية مكانتها التي تليق بها بحيث تصبح كل أصناف المصالح خادمة لها بما تتصف به هذه المصالح من تداخل وبما تنطوي عليه من قيم أخلاقية.
لا شك أن المتطرفين ليسوا نتاجًا مباشرًا لما ذكر من خلل في المنظومة، ولكن ما يراه الباحث أن هذا الخلل إنما هو كفيل بخلق مساحات مفاهيمية رخوة تنطوي على قابليات توليد الفهم المنحرف.
وقد بدا عدم الاكتراث اللازم بالأخلاق صريحًا في حادثة ترويها بعض الروايات عن فخر الدين الرازي، وهو في مجلس وعظه حيث كانت ترفع له رقاع تتضمن شتمه ولعنه والطعن في عرضه حتى بلغ من فجور من يرفعونها في الخصومة أن رفعوا إليه يوماً رقعة كتبوا فيها أن ابنه يفسق ويزني وأن امرأته كذلك، فما كان منه إلا أن قال:
«إن هذه القصة تتضمن أن ابني يفسق ويزني وذلك مظنة الشباب فإنه شعبة من الجنون ونرجو من الله تعالى إصلاحه والتوبة وأما امرأتي فهذا شأن النساء إلا من عصمه الله وأنا شيخ ما في للنساء مستمتع هذا كله يمكن وقوعه وأما أنا فوالله لا قلت إن الباري -سبحانه وتعالى جسم ولا شبهته بخلقه ولا حيّزته ولله الحمد أن ابني لا يقول إن الله جسم ولا يشبه به خلقه ولا زوجتي تعتقد في ذلك ولا غلامي فأي الفريقين أوضح سبيلاً؟”.
وليست قسمة العالم إلى فسطاطين فسطاط حق وفسطاط باطل التي صرح بها أسامة بن لادن ببعيدة عن المجتمع الجاهلي الذي تحدث عنه سيد قطب (ت: 1966)، وهو مجتمع يقع على عاتق الفئة المؤمنة تحويله إلى مجتمع يلتزم بأوامر الله.
أولًا- طريق تنظيم داعش إلى الخلافة
توجت دولة الخلافة مسيرة بدأت مع جماعة التوحيد والجهاد في العراق بقيادة الزرقاوي التي تحولت إلى قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، ومن ثم سميت بـ “دولة العراق الإسلامية” قبل أن تتحول إلى “دولة العراق والشام الإسلامية”، وكان من السمات المميزة للحركة عبر التحولات المختلفة خطابها الطائفي الموجه ضد الشيعة الموصوفين بالكفار، وهو خطاب يجد تبريره في مظلومية ساهم في صنعها حكام العراق بعد سقوط نظام البعث العراقي والحليف الإيراني الذي لم يدخر جهدًا في محاولة الإمساك بالقرار السياسي في العراق، ومن سماتها البنيوية تبنيها لخطاب جهادي يستهدف أمريكا والغرب الصليبي المتهم بالتآمر على الإسلام والمسلمين، كما أنها تتبنى ضرورة قيام دولة يحكمها الشرع الإسلامي، لأنه لا يمكن لمهمة الاستخلاف في الأرض أن تتحقق من دون قيام هذه الدولة، وهي بالطبع تتبنى تصورًا لنهاية العالم سيبدأ مع قدوم المهدي المنتظر. وكان إعلان الخلافة في المسجد النوري الكبير في الموصل على يد الخليفة أبي بكر البغدادي محطة فاصلة في تاريخ هذه الحركة بعد أن كسرت الحدود بين سورية والعراق في عملية سيت عملية كسر الحدود.
ففي يوم 29 حزيران عام 2014 بثت مؤسسة الاعتصام التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية شريطًا مصورًا تظهر فيه العملية التي أسماها تنظيم الدولة “عملية كسر الحدود بين العراق وسورية” في منطقة حدودية بين البلدين، وقد ظهر في الشريط الناطق باسم الدولة الإسلامية أبو محمد العدناني ومعه أبو عمر الشيشاني وتونسي وليبي، وقد ظهر العدناني مموهًا وجهه وهو يقول:
“فما بعد إزالة هذه الحدود حدود الذل وكسر هذا الصنم صنم الوطنية إلا خلافة على منهاج النبوة” وبعد بث الشريط بساعات أعلن التنظيم قيام الخلافة الإسلامية التي يقوم عليها الخليفة أبو بكر البغدادي الذي وصفه العدناني في تسجيل صوتي بأنه:
“الشيخ المجاهد العالم العامل العابد الإمام الهمام المجدد سليل بيت النبوة عبد الله إبراهيم بن عواد بن ابراهيم بن علي بن محمد البدري القرشي الهاشمي الحسيني نسبًا السامرائي مولدًا ومنشأ”. ولم يذكر العدناني حدود الخلافة، ولكنه قال إن سلطانها يمتد من حلب في سورية إلى ديالى في العراق، وأن اسم التنظيم قد تغير من: “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” إلى “الدولة الإسلامية فقط.”.
ومع إعلان العدناني قيام الخلافة وجه تهديدًا مباشرًا بالقتل لكل خارج على الخلافة:
” ومن أراد شق الصف فافلقوا رأسه بالرصاص وأخرجوا ما فيه كائنًا من كان ولا كرامة” وبعد ذلك بأيام ظهر الخليفة المبايع ليخطب الجمعة في جامع الموصل.
ثانيًا- تنظيم داعش في دير الزور
لمحة عن محافظة دير الزور
تقع محافظة دير الزور على حدود شرق سوريا وتمتد على مساحة تقارب 33 ألف كيلومتر مربع. يقسمها نهر الفرات الذي يمر عبر المحافظة إلى قسمين. واحد في الجنوب يمتد إلى الصحراء السورية، بادية الشام، بالعامية الشامية، وواحد في الشمال مرتبط بشبه الجزيرة السورية يسمى “الجزيرة”. يعيش غالبية السكان على ضفاف نهري الفرات والخابور، حيث توجد أراضٍ زراعية خصبة وتقدر مساحتها حوالي 1.69 مليون متر مربعًا.
تنقسم محافظة دير الزور التي تنقسم إلى ثلاث مناطق إدارية: دير الزور، الميادين، البوكمال. كما أنها مقسمة إلى 14 ناحية فرعية و25 بلدة، و40 بلدية، و76 قرية.
أكبر قبائل محافظة دير الزور هي: (العكيدات) و(البكارة) و(البوسرايا)، وثمة عشائر أخرى تتبع قبائل في مناطق سورية أخرى أو تتبع قبائل خارج سورية. مثل عشيرة (البوليل) التي تنسب نفسها إلى قبيلة شمر في الجزيرة و(الدليم) التي تنتسب إلى قبيلة الدليم في العراق.
وثمة عشائر موجودة في المدن مثل عشيرة (الخرشان) و(الجويشنة) و(المعامرة) و(الظفير) في مدينة دير الزور، و(الراويين والعانيين) في البوكمال نسبة إلى مدينتي راوة وعانة في العراق، و(القلعيين) في الميادين. ولا شك أن حدة الانتماء القبلي ليست متساوية فهي تخف عند الانتقال من الريف إلى المدن.
تتسم المحافظة بطابع قبلي في الأصل، وإن كانت هذه الصفة تمارس تضليلًا في بعض الأحيان عندما تؤخذ من دون ملاحظة السيرورة التاريخية التي جعلت من سمة القبلية سمة ذات أشكال مختلفة عبر الفترات المختلفة، كما خففت من حدتها طورًا وزادت من هذه الحدة أطوارًا أخرى. بدأت القبائل في الاستقرار على ضفاف النهر خلال فترة التنظيمات العثمانية الثانية عام 1856 والتي سعت إلى جعل القبائل والعشائر المتصارعة تستقر وتتحول إلى مجتمعات زراعية مستقرة.
كان للسياسات النيو ليبرالية التي انتهجها نظام بشار الأسد أثر بالغ السوء على مناطق القبائل، وتحديدًا في شرق سوريا، فبين عامي 2003 و2004، تحولت نصف الآبار من ضحلة إلى عميقة، وضرب الجفاف الشديد المنطقة في عامي 2007 و2008، وتم تحرير أسعار الأسمدة في عام 2008، وفشلت السياسة الهادفة إلى ترشيد الري خلال السنوات السابقة. كل هذا أدى إلى فشل جهود الإصلاح الزراعي، وتملح جزء كبير من الأراضي المخصبة، والسماح بالاستثمار الزراعي دون أي حد لملكية الأراضي في عام 2007، بالإضافة إلى مشاركة الشركات متعددة الجنسيات في صناعة المواد الغذائية في سورية. في عام 2010، عدّت الجزيرة أفقر منطقة في سورية، مما أدى إلى زعزعة استقرار الهياكل القبلية في دير الزور التي كانت تتطلع الآن إلى تغيير جذري في السلطة المركزية في دمشق.
سيطرة تنظيم الدولة على دير الزور
بعد أن كان وجود تنظيم داعش في المنطقة مقتصرًا على خلايا نائمة في مناطق محددة أعلن عن وجوده الصريح بانشقاق عامر الرفدان عن جبهة النصرة وإعلان نفسه أميرًا للتنظيم في قرية (جديد عكيدات). وكان رفض النصرة التبعية لتنظيم داعش سببًا في اندلاع معارك، وكان معظم الرافضين لهذه التبعية قادة محليين للنصرة؛ لأن في هذه التبعية خسارة للنفوذ والمكتسبات.
إن رصدًا سريعًا لسلوك تنظيم داعش في المحافظة يمكن أن يكون وسيلة ناجعة للوصول إلى غايتين:
الأول: معرفة تركة تنظيم داعش في بنية المجتمع عبر جدل حلقات حاضره بماضيه.
والثاني: المساعدة في الوصول إلى إجابات عن أسئلة معينة أهمها السؤال عن استراتيجية التنظيم، فهو سؤال يمكن عبر الإجابة المشفوعة بالأدلة عنه فهم ما جرى بعد سقوط دولة الخلافة، وما يمارسه التنظيم اليوم.
قلنا إن منطقة دير الزور منطقة ذات طابع قبلي، وقد كان لتنظيم داعش موقف سلبي من البنية القبلية يجد جذوره في تجربته في العراق الذي واجه فيه بعد الاحتلال الأمريكي حركة الصحوات التي كان قوامها الأساسي من عشائر وقبائل العراق، ومن هنا يتبين الفرق بين سلوك النصرة تجاه العشائر الذي كان ينحو نحو التطويع عبر التحالفات والتفاهمات، وبين سلوك تنظيم داعش الذي كان ينحو نحو التطويع بالقوة، ولكن مع مراعاة بعض الاعتبارات القبلية التي قد ترتد على التنظيم بالسوء.
وجدير بالذكر دعمًا لفرضية البحث الأساسية عن استراتيجية حقيقية لدى تنظيم داعش أن تنظيم داعش قد استطاع اللعب على التناقضات في المنطقة، فانشقاق الرفدان كان بتحريض من أحد قادة تنظيم داعش المدعو “أبو أسامة العراقي” الذي استغل نقمة الرفدان على النصرة بعد استيلائها على معمل غاز كونكو الذي كان الرفدان هو الذي سيطر عليه وكان واقعًا في قرية أهله. وقد أدت سيطرة الجبهة على الحقل واستئثارها بما يستخرج منه ومنع الرفدان من الاستفادة منه إلى نقمة لديه كانت سببًا من أسباب انشقاقه عن جبهة النصرة وانضمامه إلى تنظيم داعش.
لم يتمكن التنظيم من السيطرة على المحافظة بسهولة، فقد انسحب بعد معارك عديدة تسبب فيها تصعيده وتأليب قبائل وفصائل ضده إلى معقله في الشدادي جنوب مدينة الحسكة، وصار يعتمد على خلايا يشكلها في المنطقة متبعًا أسلوبًا شبيهًا بأسلوب العمل السري، وكان انتقائيًا في تشكيله لأفراد هذه الخلايا الذين كان ينتقيهم من قاع المجتمع العشائري ممن لا يأبه بهم أحد إلا على سبيل الاجتناب أو الاستعلاء، ومن بعض قيادات الجيش الحر الذين استطاع التنظيم اجتذابهم. وقد ارتكبت جبهة النصرة خطأ استغله تنظيم داعش من أجل العودة إلى المنطقة عندما داهمت النصرة بيتًا يقطنه رجل من قبيلة (البكير) (وهي فرع مهم من فروع قبيلة العكيدات) يُشك أنه ينتمي إلى خلية من خلايا تنظيم داعش، وتسبب هجومها على منزل فيه نساء من دون احترام لحرمة البيت في فزعة عشائرية من أبناء قبيلة البكير الذين هاجموا النصرة خصوصًا بعد أن تسربت أنباء عن إصابة إحدى النساء في البيت، وكان استغلال تنظيم داعش للحادثة بتقديمه الدعم لمحاربي النصرة. ولكن هذه الحادثة التي تسببت في فزعة عشائرية كانت سببًا قريبًا يكمن خلفه جذر أعمق، وهو نقمة عموم الناس على جبهة النصرة بعد سيطرتها على مصادر الثروات التي كان من أهمها حقل غاز (كونكو) وهو الحقل الواقع في قرية (خشام) من قرى (البكير) في خط الجزيرة. يضاف إلى هذه النقمة حساسية قديمة متجذرة بين أبناء (البكير) و(البوكامل) وخصوصًا أن الجبهة اتخذت في دير الزور طابعًا قبليًا بسبب ارتباطها في الأذهان بـ (الشحيل) مركز (البوكامل) أكبر فروع قبيلة (العكيدات). وهي حساسية استطاع تنظيم داعش استغلالها بالتحريض ضد الجبهة.
ومن الحوادث ذات الدلالة في إثبات قدرة تنظيم داعش على التخطيط المشتق من معرفة بواقع المنطقة ما حدث في قرية (الهري)، وهي من قرى منطقة البوكمال التي تقطنها عشيرة (الجغايفة) التي تعود في أصولها إلى قبيلة (الدليم). كان (الجغايفة) يمتهنون منذ زمن طويل مهنة التهريب، وقد تمرسوا في هذه المهنة التي أضافت إلى شدة بأسهم جرأة على السلطات، ولهذا فقد رفضوا محاولة النصرة فرض أتاوة على إيراداتهم من التهريب. وكان رفضهم سببًا في اندلاع معارك بينهم وبين جبهة النصرة. وقد استغل تنظيم داعش ما جرى في إقناع قسم من أبناء العشيرة بالانتماء إلى التنظيم الذي بدا -بالمقارنة- بديلًا أفضل، خصوصًا بعد تجربته في الرقة التي أوحت للكثيرين أنه يسلك سلوك الدول من حيث مركزية القرار والعناية بتأمين الخدمات الحيوية للناس.
استمر تنظيم داعش في سياسة تغذية الخلافات العشائرية وفي استغلال نقمة البعض على سلوك النصرة وبعد معارك كرّ وفرّ تمكن تنظيم داعش من السيطرة على كامل المنطقة. وقد بدأت سيطرة تنظيم داعش على المنطقة بعد معركة مركدة القرية الواقعة (جنوب مدينة الحسكة) في ربيع عام 2014، وهي الملحمة الكبرى التي شكلت فيها الفصائل المختلفة مع جبهة النصرة تحالفًا ضد تنظيم داعش سمي بـ “مجلس شورى المجاهدين”، وهي معركة قتل فيها ما يقارب 800 شخص، ويبدو أن تنظيم داعش قد حشد فيها خيرة مقاتليه وتمكن من إلحاق الهزيمة بأعدائه. ظلت (البصيرة) و(الصبحة) و(الدحلة) وهي قرى لعشائر (البكير) و(المشاهدة) و(الفليتة) و(البكارة) مواضع استعصاء في وجه هيمنة تنظيم داعش، ولكن بمجرد تمكن تنظيم داعش من السيطرة على (البصيرة) سقطت المحافظة في يد تنظيم داعش. ولا يمكن إغفال الأثر النفسي الذي سببه سقوط الموصل في الفترة نفسها في نفوس خصوم تنظيم داعش الذين يبدو أنهم وصلوا إلى قناعة أنهم ليسوا أندادًا لتنظيم داعش. انسحبت قيادات الجبهة من (الشحيل) باتجاه (العشارة) في معارك السيطرة على (البصيرة)، ولما أعلن تنظيم داعش السيطرة على حاجز العتال -وهو النقطة الفاصلة بين (البصيرة) و(الشحيل)- تداعت المنطقة بالكامل. بعد سقوط البصيرة سيطر تنظيم داعش على (الشحيل) معقل النصرة وفرض على الأهالي التهجير الى حدود حقل العمر النفطي.
والحادثة التي شكلت مفصلًا، وكان لها أثرها الكبير، ويتوقع أن آثارها لن تختفي في المدى المنظور هي المجزرة التي ارتكبها تنظيم داعش بأبناء عشيرة (الشعيطات) وهي فرع مهم وكبير من فروع قبيلة (العكيدات)، ففي منتصف 2014 وبعد سيطرة تنظيم داعش تداول أبناء (الشعيطات) حول البقاء في المنطقة أو الخروج منها، وقد استقر رأيهم على البقاء. كان تنظيم داعش قد طالب أفراد الجيش الحر من أبناء (الشعيطات) بتسليم أسلحتهم، وقد قدح زناد الحرب دفاع أبناء (الشعيطات) عن آبار النفط في مناطقهم، وكان قسم من أبناء (الشعيطات) من الذين التحقوا تنظيم داعش هم الذين يلاحقون أبناء عمومتهم من الجيش الحر بدوافع لها صلة بنزاعات قديمة وأحقاد متجذرة، ولما لم تفلح المفاوضات بين (الشعيطات) وتنظيم داعش أقدم تنظيم داعش على الهجوم على (الشعيطات) وارتكب مجزرته التي ستترك أثرها الذي يصعب أن يندمل.
ثالثًا- استراتيجية تنظيم داعش
يروي الذين التقى بهم الباحث روايات تؤكد وضوح استراتيجية تنظيم داعش قبل قدومه، فمن ذلك العثور على مخططات تفصيلية لجغرافية المنطقة، كما أن تنظيم داعش بسيطرته على البادية كان يقصد تسهيل وصوله إلى المدن، فعبر البادية يمكنه الوصول الى جنوب سورية، وإلى حمص عبر تدمر، وإلى تلعفر في العراق.
كما أن وجوده في سورية يجعله يفك عزلته المفروضة بحكم جغرافيا العراق التي تمنع الوصول إلى البحر وتجعلها محاطة بموانع طبيعية يصعب اختراقها، أما الحدود السورية العراقية والحدود السورية التركية والبحر وبادية الشام فهي كفيلة بجعل الحركة والتمدد ممكنين.
ولكن هذه الاستراتيجية الواضحة قد ابتلعتها الاستراتيجية الأم، وهي الاستراتيجية الأمنية التي اتبعها تنظيم داعش قبل وصوله عبر خلاياه النائمة، وعبر جعل المسؤولين الأمنيين على رأس أصحاب القرار، فلا قرار آخر بعد قرار الأمني سواء أكان شرعيًا أم إداريًا أم تقنيًا، والأكثر أن الشرعي يطلب منه تأصيل قرار الأمني تأصيلًا شرعيًا وصياغة المبررات الشرعية له صياغة انتقائية تلفيقية.
فقرار مقاتلة العدو القريب، وهو في نظر تنظيم داعش فصائل المعارضة المسلحة، سيق له تبرير شرعي بالحكم بردة قادة هذه الفصائل ووجوب قتالهم وقتلهم من دون رحمة. والتمكين من أجل إعلان الخلافة لم يعد ضروريًا بمعناه الذي تقره الأدبيات المرجعية، وقد سيق التبرير لذلك بوجوب الانصياع لأوامر الخليفة بعد وجوب مبايعته. ففيما يتعلق بردة فصائل العارضة يقول أبو عبد الله المهاجر وهو أحد أهم منظري الدولة الإسلامية في كتابه: “مسائل من فقه الجهاد” الذي يعد الأساس الفقهي لتنظيم الدولة الإسلامية:
” لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعية قطع رؤوس الكفرة المحاربين، وحزّها سواء كانوا أحياء أو أمواتا بل ذلك عندهم من البديهيات المسلمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلَا بعد جيل وقبيلًا بعد قبيل من عهد النبوة وإلى يوم الناس هذا”.
أما فيا يتعلق بالتمكين الذي يعني إعلان دولة الخلافة وتعيين الخليفة، فقد أقره مجلس شورى تنظيم الدولة بحسب ما صرح الناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني:
“بعد أن اجتمع مجلس شورى الدولة الإسلامية وتباحث هذا الامر بعد أن باتت الدولة الإسلامية بفضل الله تمتلك كل مقومات الخلافة والتي يأثم المسلمون بعدم قيامهم بها وأنه لا يوجد مانع او عذر شرعي لدى الدولة الإسلامية يرفع عنها الإثم في حال تأخرها أو عدم قيامهم بالخلافة، فقررت الدولة الإسلامية ممثلة بأهل الحل والعقد فيها من الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى إعلان قيام الخلافة الإسلامية وتنصيب خليفة للمسلمين ومبايعة الشيخ المجاهد العالم العامل العابد الإمام الهمام المجدد سليل بيت النبوة عبدالله إبراهيم بن عواد بن إبراهيم بن علي بن محمد البدري القرشي الهاشمي الحسيني”.
مما سبق يمكن أن نخلص إلى أن تنظيم داعش ليس تنظيمًا ساذجًا تحركه دوافع دينية محضة، فعلى الرغم من أن التنظيم ارتكب أخطاء فادحة، فإن هذا لا ينفي امتلاكه استراتيجية يمكن وصفها بأنها استراتيجية قاصرة تؤطرها مقولات عقدية وفقهية، ويطغى عليها سمتها الأمنية، وهي السمة التي يتجلى فيها سلوك التنظيم بشكله الأبرز، وقد أثبت التنظيم براغماتيته العالية في قدرته على التكيف مع الظروف المتغيرة، فوجوده الحالي في شرق سورية كان مخططًا له كبديل قبل هزيمته على يد قوات التحالف وقسد، فقد غير التكتيك واعتمد أسلوب التمرد واستنزاف الخصوم كما عبر أبو بكر البغدادي:
“معركتنا اليوم هي معركة استنزاف وإضعاف العدو. يجب أن يعلموا أن الجهاد مستمر حتى يوم القيامة”، كما أن تعامله متعدد المستويات مع القبائل من أجل تحقيق اختراقها وما مارسه من عنف غير مسبوق بقصد نشر الرعب في قلب كل من تسوّل له نفسه التمرد كما فعل مع عشيرة (الشعيطات)، كل هذا يقول إن التنظيم ليس خلوًا من قدرة على التخطيط متوسط المدى على الأقل.
وقد لاحظ الباحث في الحوارات التي أجراها أن من عايشوا تنظيم داعش عبر صلة حية طويلة، ومن لا يزالون على صلة حية بما يجري في المنطقة يؤكدون امتلاك التنظيم استراتيجية واضحة، وأن من ينكرون ذلك كانوا -غالبًا- نفرًا ممن يسمون أنفسهم سلفيين معتدلين، ويعزو الباحث ذلك إلى نزوع نفسي بعد أن صار التيار السلفي موضع نفور من نسبة لا يستهان بها من أبناء المنطقة لوجود جذر مشترك في نظر العموم بينه وبين تنظيم داعش، أو من جهاديين سابقين تحولوا إلى الخطاب الديمقراطي وصار محو ذلك التاريخ من حياتهم -في رأي الباحث- ضرورة نفسية ومصلحية.
صحيح أن دولة تنظيم داعش قد زالت كمؤسسات وكسيطرة على مناطق شاسعة، وأن الهزيمة التي لحقت بالتنظيم كدولة كانت حدثًا يتوقعه الكثيرون؛ لأنه لن يستطيع أن يصمد في بيئة لا تستسيغ تطرفه، وتحت نيران قصف قوى جوية متفوقة، ولكن وقائع كثيرة تثبت أن استراتيجيته موجودة ولا يكفي إنكار وجودها لنفيه ومن هذا:
– استغلاله لنقمة الشعوب على أنظمة الاستبداد، واستثماره للأزمة السنية في العراق وسورية، ونفخه في الهوية الطائفية بطريقة استغلال ما هو موجود أصلًا.
-وآلته الإعلامية التي لا يمكن إنكار حرفيتها وفعاليته والتي اعتمدت الدعاية السياسية الأفقية القادرة على الوصول إلى أكبر عدد ممكن عبر استخدام خطاب قادر على تلبية حاجات كامنة -كما يقال في علم التسويق- لدى متلقي هذا الخطاب، فإذا كان قياس كفاءة التنظيم ممكنًا، فإن متابعة متبصرة لتطور القسم الإعلامي لديه كفيل بأن يسمح بهذا القياس. فهزيمة التنظيم العسكرية في العراق عام 2007 لم تكن كفيلة بالقضاء عليه وعلى آليته الإعلامية التي اضطلع أبو محمد الفرقان وأبو محمد العدناني بعبء تجديدها، وقد شملت آلة التنظيم الإعلامية مؤسسات عديدة وخصص بعضها لترجمة المضمون الإعلامي إلى لغات أجنبية عديدة.
ومنذ البداية كان ثمة هيكلية إعلامية بيروقراطية ومتماسكة وعالية التنظيم والحرفية، فقد وجد قسم إعلام مركزي وفروع في مناطق مختلفة، وأديرت الهيكلية الإعلامية بشكل هرمي، كما وجدت أقسام تقنية يشرف عليها مختصون، فقد وجد لدى القسم الإعلامي مكاتب للعلاقات العامة والتوزيع والإنتاج والمحفوظات والتدقيق. ولا يزال القسم الإعلامي فعالًا بعد سقوط الخلافة، وإن كان التحدي الذي يواجهه اليوم هو التنسيق بين مناطق متباعدة. وقد طرأ تغير على نوع المادة الإعلامية وعلى كمّها، فالأخير قد انخفض انخفاضًا بالغًا فأصبحت نسبته عام 2021 (7%) من نسبته عام 2016، كما تغير المحتوى من التركيز على القضايا المدنية والتوظيف لعناصر جديدة إلى التركيز على القضايا العسكرية والاستبقاء للعناصر الموجودة.
وعلى الرغم من خسارة التنظيم لأراض لا يمكن إنتاج عمل إعلامي كثيف من دون وجودها لتأمين الاستقرار للإعلاميين، وعلى الرغم من خسارته لعدد كبير من خبرائه الإعلاميين، وعلى الرغم من تضييق الفضاء السيبراني في وجهه بسبب الحملة العالمية ضده، فإن وجوده الإعلامي يؤكد ما افترضناه من امتلاك هذا التنظيم استراتيجية قابلة للتعديل والتكيف مع تغير الظروف.
مما يقوي فرضية استراتيجية التنظيم أنه بعد سقوط الباغوز آخر معاقله في آذار عام 2019 انتشر انتشارًا يرجح أنه كان قد خطط له قبل فترة طويلة في الصحراء، وكانت مناطق انتشاره الرئيسة هي:
جبل البشري جنوب شرق الرقة.
منطقة الدفينة جنوب غرب دير الزور.
المنطقة الصحراوية بني تدمر والسخنة من الغرب ومنطقة الـ 55 من الجنوب ومنطقة التي تو من الشرق.
منطقة فيضة ابن موينع في الشمال.
ومن هذه المناطق يمكن الولوج إلى معظم المناطق السورية، كما يمكن التسلل منها إلى مناطق في العراق.
ولا يخفى أن اختياره الانتشار في مناطق صحراوية كفيل بتمكينه من التخفي في وديانها وكهوفها الجيرية العميقة واستفادته من عواصفها الرملية لإخفاء آثار تحركاته، كما أن اتساع المنطقة الصحراوية يمكنه من تنفيذ عمليات خاطفة لا تحتاج عددًا وعدة كبيرتين. ومما يؤكد ذلك أن عملياته التي يستهدف بها خصومه من الصحراء لم تبدأ بعد سقوطه وإنما قبل ذلك، فقد نفذ عمليات اغتيال وتفجيرات قبل سقوط آخر معاقله ولا يزال ينفذ عمليات تجاوز عددها المئات بحسب ما تؤكد إحصائيات رسمية.
كما أنه موجود في مناطق في الجزيرة السورية جنوب الحسكة التي تصله بما يسمى في العراق ببادية الحضر في منطقة تلعفر، وهي مساحة كبيرة غرب الموصل يشن منها عملياته على كردستان العراق وعلى الموصل. وقد وصف جنرال بريطاني مشارك في التحالف ضد تنظيم داعش استراتيجية تنظيم داعش العسكرية بعد انهيار دولتها بقوله:
” تعمل داعش على إعادة تنظيم صفوفها على هيئة شبكات من الخلايا مصممة على استهداف كبار القيادات ومشايخ القرى والعسكريين بهدف ضرب الأمن والاستقرار في العراق وسورية. ما زال مقاتلو تنظيم داعش ينصبون الكمائن للدوريات الأمنية ويفجرون العبوات الناسفة اليدوية الصنع ويخطفون. وبالرغم من الانتكاسات التي مني بها التنظيم من حيث سيطرته على الأراضي لا يزال يحقق الانتصارات ولا تزال عقيدته تلهم الناس من مختلف أنحاء العالم”.
كما أن تهديد التنظيم لأعدائه يعبر عن استعداده لخسارة الأراضي التي لا تفت في عضده ولا تكسر عزيمته كما عبر أبو محمد العدناني الناطق باسم تنظيم الدولة:
“هل تظنين أمريكا أن النصر بقتل قائد أو أكثر. إنه إذًا لنصر مزور إن النصر أن يهزم الخصم…أم تحسبي أمريكا أن الهزيمة فقدان مدينة أو خسارة أرض وهل انهزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة أو أرض وهل سنهزم وتنتصرين إذا أخذت الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعدنا كما كنا أول حال؟ كلا إن الهزيمة فقدان الإرادة والرغبة في القتال”.
ومما يدعم فرضية البحث عن استراتيجية تنظيم داعش وجود قياديين أو عناصر يقدمون وجهًا أليفًا لأبناء المجتمع الذي يسيطرون عليه، وقد تمكن هؤلاء -إلى حد ما- من تهدئة روع البعض عبر نقد المتطرفين من عناصر التنظيم، وعبر بذل الوعود التي تخاطب فطرة الناس عن تطبيق شرع الله.
وما أخطاؤه الفادحة إلا نتيجة للرغبة في قطف ثمار العمل بتتويجها بدولة الخلافة، وهو تحول لا يقوم على أساس موضوعي؛ فالتنظيم، بقرار التحول، هذا قد جعل نفسه مكشوفًا من طرف كل خصومه، وبات استهدافه أسهل منه عندما كان تنظيمًا متمردًا فحسب. ولم ينفع في تمكينه من تأسيس دولته تأسيسًا متينًا ضباط جيش صدام السابقون، ولا موظفو النظام البعثي البائد، فكلا الصنفين بقايا نظام استبدادي لم يعِ تغيرات العصر، ولا يمكن بأي حال مناحرة واقع العالم المعولم بمقولات مستوردة من الماضي مهما بلغت درجة إيمان أصحابها بها. ولعل العجز في التصور الاستراتيجي على المستوى السياسي لا الأمني إنما يمكن أن يكون واضحًا في عدم إدراك هذا التنظيم وأمثاله أن سمة التصغير التي تصبغ الكيانات اليوم من منظمات الأعمال الصغيرة إلى التكنولوجيا النانوية هي التي أفسحت المجال لظهور تنظيمات ذرية تستفيد من سيولة الحدود بفعل العولمة كالتنظيمات المتطرفة.
كما أن تكفير كل مخالف يعبر عن هذا العجز؛ لأنه يفقد التنظيم المتطرف خزانًا كبيرًا من الداعمين الذين يمكن أن يكسروا طوق عزلته عن محيطه الإقليمي والمحلي، إن بخبراتهم العملية، أو بحضورهم الديني.
وقد كانت فرضية صنع تنظيم داعش على أعين أجهزة استخباراتية ذات صلة بالواقع، ولكن ليس بمعنى أن أجهزة استخبارات إقليمية ودولية قد خلقت تنظيم داعش خلقا من عدم، وانما بمعنى استثمار ظهورها من أجل خدمة غايات لهذه الأجهزة وتسهيل وصولها الى مناطق معينة من أجل اتخاذ سيطرتها على مناطق معينة ذريعة للتدخل في هذه المناطق، وهذا ما حدث في تسهيل سقوط الموصل في فترة قصيرة في يد مسلحي التنظيم وسقوط البوكمال في يده أيضًا، وهما عمليتان اتخذتهما إيران ذريعة للوصول الى مناطق لم تكن تجد ذريعة للوصول اليها. كما أن ما يرويه شهود عيان من إنقاذ مروحيات أمريكية لعناصر من تنظيم داعش في فترات عصيبة -كما حدث في قرية غانم العلي القريبة من معدان، حيث روى شهود عيان نقل طائرة هيلكوبتر أمريكية لأحد قيادي التنظيم- يؤكد اختراق أجهزة استخباراتية للتنظيم، ولا ينفع أبدًا في دعم فرضية صنعها اصلًا على أعين هذه الأجهزة.
وقد كان ثمة شبه إجماع بين من حاورهم الباحث على هذا الاستنتاج، ولم يشفع من خالفهم ممن يؤكد أن تنظيم داعش صنيع استخباراتي حجته إلا بنظريات فيسبوكية لا قيمة لها، أو بكلام مرسل عن نظرية مؤامرة تستند إلى أن هزيمة تنظيم داعش على يد الصحوات لم تستكمل بقضاء مبرم عليه وترك التنظيم على الحدود الأردنية السعودية لكي يستثمر لاحقًا. لا يمكن إنكار أن استثمار التطرف ديدن قوى إقليمية ودولية ولكن اختزال التنظيم في كونه صنيع استخبارات -فضلًا عن أنه لا يمكن إثباته بأدلة قاطعة- يغفل السيرورة التاريخية للتيار الجهادي الذي يجد جذره في أيديولوجيا سلفية جهادية تشتق من تأويل معين للتراث وتستند إلى أدبيات مؤسسين إسلاميين، فمفهوم الحاكمية الذي استمده أحد أهم منظري جماعة الإخوان المسلمين سيد قطب من أبي الأعلى المودودي (ت: 1399ه) لا يمكن الضرب صفحًا عن تأثيره كمرجعية من مرجعيات السلفية الجهادية بأشكالها المختلفة، فهو المفهوم الذي يجعل كل حكم مغاير لحكم الشريعة حكمًا كافرًا:
“إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها”.
وهو يؤسس لعزلة الجماعة المؤمنة عن المجتمع الجاهلي، وهي بصدد تغيير حاله، وهي عزلة لا مساومة فيها، ولا يمكن نزول المقيمين فيها من أبراجهم العالية للتفاوض حول تسويات مع المجتمع الجاهلي:
“إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته. وألا نعدّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق”.
كما كان سيد قطب أصلًا استمدت منه السفلية الجهادية مفهومها للجهاد كواجب على المؤمنين لتخليص الأرض من طواغيتها، وهو يشن حربًا شعواء على أولئك الذين يختزلون الجهاد في الإسلام في صد العدوان الخارجي فيقول:
” إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلًا بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة… بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها”.
كما أن التيار الجهادي يجد مبرراته في منظومة عربية رسمية متهالكة لم تنجح في تحقيق أي خطوة على الأمام على أي صعيد وأمعنت في دفع عامة شعوبها إلى وهدة التخلف والبؤس.
كما أن هذا الاختزال لتنظيم داعش كتيار جهادي متطرف في عدّه مصنوع أجهزة استخبارات يغفل عن حقيقة ما خلّفه التشكيل الاستعماري من وقائع كرست الاستقطاب بين أبناء الوطن الواحد، بين متغربين وتراثيين من جهة وبين أبناء الثقافات المختلفة التي يصم بعضها الآخر بالتخلف ويدفع الموصوم التهمة بوصف الآخر بالانحلال.
ليس تنظيم داعش وغيره إلا مفرزًا من مفرزات سيرورة تاريخية كرست فيها عدم التوازن منظومة دولية غير عادلة وأنظمة استبداد أسرفت في قهر شعوبها وحرمانها من أبسط مقومات الحياة الكريمة، وقد تفاعل مع هاتين العلتين نفوقُ سوق ظاهرية في مقاربة النصوص الدينية يمكن فهم نفوقها بمحاولة الدفاع عن الوجود بتناول جزئيات تكرس العداء وتبرر العنف من دون ربطها بما ينظمها من كليات تمد جسور التواصل وتؤسس للخطاب الإنساني الشامل.
ولم يكن اختراق تنظيم داعش أمرًا صعبًا، فلا يتطلب قدوم أوربي من بلده سوى القدوم بالطيارة إلى تركيا والاتفاق مع مهرب في أورفا لإدخاله إلى مناطق سيطرة التنظيم، وقد استطاع التنظيم اكتشاف بعض العناصر التي اخترقته ومن الحوادث المهمة إعدام التنظيم لعنصر فلسطيني من عناصره بعد اكتشاف أنه عميل للموساد الإسرائيلي.
إن التمفصل بين الكيانات هو ما يصلح وصفًا دقيقًا للعلاقة بني التنظيم والقوى الدولية والإقليمية وليس الصنع على يد هذه القوى.
رابعًا- الآثار الاجتماعية
أثر تنظيم داعش في البنية القبلية
يمكن تصنيف تعامل تنظيم داعش مع القبائل تصنيفًا ثلاثي المستويات:
تحالف مع قبيلة (البكير) عن طريق عامر الرفدان المذكور سابقًا الذي أصبح فيما بعد أميرًا بارزًا من أمراء تنظيم داعش، وقد استغل الرفدان نقمة البكير عقب الهجوم الذي شنته النصرة وموالوها من (البوكامل) على (الشحيل) وتسبب في قتل وجرح وتهجير مدنيين من قرية (جديد عكيدات).
تحالفات سرية مع أفراد من خصوم جبهة النصرة من قبائل وفصائل مختلفة، ومن أبرز أمثلة هذا المستوى التحالف مع المدعو (صدام الجمل) قائد لواء الله أكبر من كتائب الجيش الحر في البوكمال، وهو شاب من مدينة البوكمال من أصول عراقية كان يمتهن تهريب الدخان، وخلال الثورة عمل في تهرب السلاح وكان ينتمي إلى لواء أحفاد الرسول وقد قتلت النصرة إخوانًا له فانتمى إلى تنظيم داعش وانتقم من كل شخص اعتقد أنه ساهم في قتل أشقائه بعد أن أصبح أمير البوكمال.
تحالفات سرية مع مجموعات قبلية تسعى للعب دور أكثر بروزاً مثل قبيلة (البوعز الدين) في قرية (الزر) تحت قيادة (أبو دجانة الزر)، وكان مقاتلًا بارزًا دمويًا في صفوف الجيش الحر في مدينة دير الزور التي عانت من التهميش تحت سيطرة جبهة النصرة، حيث عيّن تنظيم الدولة الإسلامية أبا دجانة قائداً عسكرياً في معارك دارت ضد فصائل جبهة النصرة في المنطقة.
كما استغل تنظيم الدولة الإسلامية الخلاف بين عشيرتي (الشعيطات) و(البو خابور) التي يستقر معظم أبنائها في مدينة موحسن القريبة من مدينة دير الزور لإقامة تحالف مع مجموعات مسلحة من المدينة. وقد ساعد ذلك لاحقًا في السيطرة على أجزاء كبيرة من المحافظة دون قتال سابق، وكان الخلاف بين العشيرتين قد نشب بعد إقدام بعض أبناء (البو خابور) على تسليم أسلحة مقدمة من المجلس العسكري لتنظيم داعش فانتقم أبناء (الشعيطات) من (البوخابور) بقتل ضابط يدعى أبا هارون ينتمي إلى “البو خابور”. وقد تأكد استثمار تنظيم داعش للخلاف بعد انتماء ضابط كبير متقاعد من أبناء “موحسن” يدعى “سكر الموسى” لتنظيم الدولة وأصبح عنصرًا فاعلًا فيه.
وقد تمكن التنظيم في شهر تموز من ذلك العام من السيطرة على المنطقة الشرقية بعد تفرغ كامل لقتال الفصائل المعارضة له وتأجيل القتال ضد النظام بذريعة أن هذه الفصائل قد انغمست في الكفر والردة، وشكلت ضده صحوات شبيهة بالصحوات التي حاربته في العراق بالعمالة للغازي الأمريكي الصليبي.
إن هذا التعامل متعدد المستويات مع الواقع القبلي والقدرة على استثمار الخلافات لصالح تحقيق المشروع ينبئ عن قدرة لا يستهان بها على التخطيط على المدى القصير على الأقل، كما يؤكد هذا الاستنتاج العمل على الجانب النفسي بزرع الرعب في نفوس الخصوم، فبعد سقوط الموصل بالطريقة التي سقطت بها أمام حفنة من مقاتلي التنظيم دخل في روع الكثيرين من أبناء المنطقة أن هذا التنظيم أشبه بكائنات خارقة لا قبل لأحد بمواجهتها.
ولقد تابع تنظيم داعش سيرة بدأتها جبهة النصرة في إحداث الشروخ بين العشائر، فقد كانت النصرة محسوبة على قبيلة (البوكامل) أكبر فروع (العكيدات) كما ذكرنا سابقًا، وكان ثمة حساسيات قديمة بين (البوكامل) وأبناء عمومتهم من قبيلة (البكير)، وقد تفاقمت الحساسية بعد سيطرة النصرة على المشهد وفي صدارتها من أبناء المنطقة أبناء (البوكامل)؛ الأمر الذي دفع قسمًا من أبناء البكير للاستقواء بتنظيم داعش لتحقيق التوازن مع غرمائهم من أبناء عمومتهم، ومثال عامر الرفدان من عشيرة البكير مثال بارز.
ومن هنا يتضح أن الاستقطاب بين العشائر قد تكرس بسبب تنظيم داعش، ومن الأمثلة الواضحة ما جرى مع عشيرة (القضاة)، وهي أقلية عشائرية تنتمي إلى قبيلة الجبور تقطن في قرية (الربيضة) على طريق دير الزور – الحسكة، وقد كان قسم من أبنائها قد انتموا الى تنظيم داعش ونكلوا ببعض أبناء (البكير) من فرع (الخبيلات) بحجج شرعية حيث كان نفر من هؤلاء يمتهنون السرقة وقطع الطريق، وبعد انهيار تنظيم داعش جرى الانتقام من عشيرة القضاة، وجرى تهجير قسم كبير منهم من قريتهم الربيضة.
إن محاولة تفتيت البنية العشائرية لصالح فكر أممي يزيل كل الفوارق، كما تفترض الأيديولوجيا الإسلامية، شابها أثر اخر، وهو هزّ صورة الرموز العشائرية القديمة في نظر أبناء العشيرة الذين أقصاهم تنظيم داعش واستبدل بهم وجوهًا من الدرجة الثانية او رعاعًا لم يكن أحد يقيم لهم وزنًا في السابق. ولكنّ ثمة إجماعًا بين من التقاهم الباحث على أن هذا الأثر كان عرضيًا؛ لأنه كان قائمًا في جذره على الخوف وبعد زوال نفوذ تنظيم داعش المباشر عاد ارتباط الفرد بعشيرته كما كان.
أثر تنظيم داعش في النسيج الاجتماعي ونمط التدين والتعليم
تعامل تنظيم داعش مع البنى المجتمعية في المحافظة تعاملًا كفيلًا بإحداث شرخ كبير في وحدات المجتمع بدءًا بالعائلة وصولا إلى العشيرة، ففي الريف حيث تسود النزعة العشائرية تمكن تنظيم داعش بتصديره لوجوه عشائرية جديدة من تغيير البنية السائدة، فقد تضاءل مثلًا دور شيخ عشيرة البكير أمام دور الشاب ضئيل الوزن العشائري عامر الرفدان الذي أصبح امير تنظيم داعش في المنطقة. وفي نفس العائلة أصبح الشرخ عميقا، ففي مدينة البوكمال التي ترجح فيها الصبغة العائلية على العشائرية جند تنظيم داعش أفرادًا من العوائل وأدرجهم في دورات استتابة هي أشبه ما تكون بعمليات غسل دماغ، فأصبح الفرد المتخرج من هذه الدورة يبرر قتل تنظيم داعش لأمه -مثلًا- لأن في قتلها تطهيرًا لها من الذنوب حسب قناعته الجديدة.
ولا يزال هذا السلوك الذي اتبعه تنظيم داعش ذا أثر إلى اليوم، فتجد شقيقين لا يتواصلان أبدًا بسبب انتماء أحدهما إلى تنظيم داعش، ويمكن أن تعثر على عائلة كاملة قطعت صلتها بعائلة ابنها الذي قتل في معارك بعد انتمائه إلى تنظيم داعش.
وقد كرس تنظيم داعش بسلوكه العنيف استسهال رؤية الدم والرؤوس المقطوعة، وصار القتل أكثر سهولة بعد بحر الدماء الذي أغرق فيه تنظيم داعش المنطقة. ولكن استسهال رؤية العنف لا يعني استسهال ارتكاب أفعال عنيفة، فيروي أحد أبناء قبيلة البكير ممن عاشوا في ظل تنظيم داعش أن أحقادًا تفاقمت في قلوب أبناء عمومة من نفس القبيلة بسبب انتماء أحدهم إلى تنظيم الدولة إلى درجة أنه هدد من طرف ابن عم له بقتله إذا وجده حيًا وبنبش جثته وإطلاق النار عليها إذا وجده ميتًا. ولكن ما جرى بعد زوال دولة تنظيم داعش أن وجهاء القرية اجتمعوا وأجمعوا أمرهم على قرار يقضي بالتسامح وتناسي الخلافات السابقة، ولم تسفك نقطة دم واحدة بين أبناء القرية.
وهو ما يفند تنبؤات شائعة بين غرباء عن المنطقة ممن يستندون في تنبؤاتهم إلى فرضيات خاطئة، وهي تنبؤات فحواها أنهار من الدم بسبب ثارات بين أبناء القبائل، وهي تصورات خاطئة مشتقة من الافتقار إلى الفهم العميق لواقع تلك المنطقة. فلا شك أن الشرخ الذي ساهم تنظيم داعش في صنعه بين بعض القبائل ليس بسيطًا وأن عوامل الثأر والانتقام لا يمكن ألا تكون قد حفرت في نفوس الكثيرين، ولكن هذا لا يكفي للتنبؤ بانفلات نوازع الثأر من عقالها بدون رادع بعد انهيار تنظيم داعش.
وقد كان لتنفيذ تنظيم داعش حدودًا بحق متهمات بالزنا ومتهمين بالسرقة من رجم وقطع يد أثر واضح في إخراج من نفذت بحقهم الحدود وإخراج ذويهم من النسيج الاجتماعي، فعلى عكس أصول الشريعة الإسلامية التي تضع حواجز كثيرة قبل تنفيذ الحد، وتترك فسحة لمن يطبق عليه الحد للعودة إلى المجتمع طبق تنظيم داعش الحدود من دون نظر للآثار الاجتماعية المدمرة لأسلوبها بالغ القسوة، ففي حادثة رجم متهمة بالزنا حتى الموت وصمت وصمة العار أهلها وأبناءها، وبعد تبين براءتها قال من امتلك دليل البراءة لأهلها إنه يستطيع تبرئتها بنشر دليل البراءة، فلم يلق عرضه استجابة بدعوى أن وصمة العار قد لحقتهم إلى الأبد ولا جدوى من هذه المحاولة. وأصبح من قطعت يده بتهمة السرقة يروج -لكي يستطيع الاستمرار في حياته في مجتمعه- بأن يده قد قطعت بعد ضرر كبير ألحقه بها حادث سير، وبعضهم فضل الهجرة إلى خارج سورية لكي يتكفل الزمن بمحو ما لحقه من عار.
ولكن هذه الحدود لم تطبق إلا على نطاق ضيق، وكان التحري في إثباتها من طرف شرعيي التنظيم قائمًا، وليس صحيحًا أنه كان متعسفًا من دون البحث عن أدلة، وإن كان التنظيم قد وقع في أخطاء في تطبيقه بعض الحدود على برآء، ولكن المهم أنه من غير العلمي تضخيم سلوك تنظيم داعش فيما خص تطبيقه للحدود المتعلقة بالجنايات.
ومن الآثار الخطيرة -بحسب روايات بعض الناشطين الذين التقاهم الباحث- ظهور أطفال لا يعرف آباؤهم من ذريات منتمين مهاجرين لتنظيم داعش يعرفون بألقابهم وليس بأسماء محددة، وبعد أن اختفى الأب أو قتل صار الولد يعرف بابن “أبي فلان العراقي أو المصري” مما اضطر بعض الأمهات إلى عقد قرانهن بشكل مؤقت على أقاربهن لكي يسجلن أبناءهن مجهولي النسب بأسمائهم.
أما أثر تنظيم داعش في نمط التدين، فقد تمثل في تقوية التيار الصوفي على حساب السلفي، وجدير بالذكر أن التيار السلفي كان ذا حضور في المحافظة في مدنها وريفها، ولكنه لم يكن ذا صوت عال بسبب سياسات النظام التي أفسحت المجال للتيار الصوفي لكي يرفع عقيرته على حساب التيار السلفي لأنه تيار مهادن لا يكترث للشأن السياسي، وليس صحيحًا وصف بعض الباحثين لتدين المنطقة بأنه تدين صوفي شعبي لأن مدينة دير الزور ومدينتي البوكمال والميادين كانت تشهد صعودًا للتيار السلفي المدعوم سعوديًا كما ان الريف لم يخل من هذه النزعة التي عززها عمل الكثيرين من أبناء المنطقة في الخليج وتأثرهم بالتيار السلفي القوي هناك، فقد كان مسجد الروضة في مدينة دير الزور مكان تجمع للتيار السلفي الذي دخل في صراع منذ تسعينيات القرن المنصرم مع التيار الصوفي المتهم من طرف التيار السلفي بترويج البدع والتنكب عن الصراط المستقيم. كما وجدت التيارات السلفية من سلفية علمية وجهادية في مدينة البوكمال، ولم تخل مدينة الميادين من تيار سلفي نازع الطرق الصوفية مساحة تأثيرها، وقد تعززت هذه النزعة السلفية بعد غزو العراق حيث اندفع مئات الشباب للجهاد في العراق ومواجهة ما اسموه بالغزو الصليبي والصفوي للعراق.
بعد هزيمة تنظيم عاد التيار الصوفي للظهور بقوة، وأصبح وصف شخص بأنه سلفي يعني وصفه بأنه تنظيم داعشي، والأثر الأكبر هو وصف من يتحدث عن السنة بمنطق السلفيين بذات الوصف، وهو ما يفتح نوافذ أمام التمدد الشيعي الذي بات يفصح عن نفسه بلا مواربة في انشاء الحسينيات في المدن والقرى ومراكز تدريب وتثقيف الشباب وفق مناهج شيعية.
كان الأثر على الصعيد الاجتماعي أثرًا مدمرًا بحسب ما سبق، ولم تحدث أثرُا إيجابيُا يذكر إلا في إقناع عموم الناس بضرورة الكفّ عن بعض الممارسات التي عدت بدعًا دخيلة على الدين الإسلامي من قبيل الكف عن الاحتفال بليلة النصف من شعبان، والكف عن دفع شموع الخضر في نهر الفرات وهي الشموع التي توضع في صحن وتدفع في النهر للاستبشار بعودة من غادر إذا طفت الشموع على سطح النهر حسب ما يقول الموروث الشعبي.
تأثير تنظيم داعش في مسيرة التعليم لم يكن سلبيًا بفعل تنظيم داعش لوحده، فقد أغلقت الكثير من المدارس بسبب الحرب التي شُنّت على تنظيم داعش، ولكن تنظيم داعش لم يعمد إلى إغلاق المدارس رغبة منه في إغلاقها، فقد أكد معاصرون لدولة الخلافة أن أبناءهم وبناتهم استمروا في بداية سيطرة التنظيم في ارتياد المدارس وتلقي مناهج العلوم كلها ما عدا بعضها مثل مادة القومية الاشتراكية والتاريخ. كما أضيف خط تعليمي آخر للمدارس، وهو حلقات العلم التي تعقد في المساجد والتي يتلقى فيها العلم الشرعي ودروس القرآن. وإذا كان ثمة أثر سلبي مباشر لمناهج تنظيم داعش التعليمية، فقد تمثل بشكل أساسي في استخدام لغة غريبة كفيلة بجعل لغة العنف لغة مألوفة فيمكن أن تعثر في بعض مسائل مادة الحساب مسألة حسابية من قبيل: فجرنا خمس طائرات من أصل سبعة فكم طائرة بقي؟
الأثر الاقتصادي
إن سياسة السوق الحرة التي اتبعها تنظيم داعش أنعشت أحوال الناس الاقتصادية، فقد باتت الحدود التي تعيق العمل التجاري في خبر كان في ظل سيطرة تنظيم داعش، كما أن الثروة النفطية التي استغلها تنظيم داعش كمورد مالي أساسي قد زادت بشكل كبير من حجم العملة المتداولة في السوق، وهو ما لم يتحقق في الفترة السابقة لتنظيم داعش ولا في الفترة الحالية تحت سيطرة قسد.
صحيح أن تنظيم داعش لم يحدث تطويرًا على طريقة استخراج الثروة النفطية، وحافظ على الأسلوب البدائي الذي اتبعه من استغلوا آبار النفط في المرحلة السابقة لسيطرة التنظيم، غير أن احتكاره للثروة ومنع تشظيها بين فصائل وعوائل مختلفة قد ساهم في إحداث طفرة اقتصادية في المنطقة انعكست على حياة الناس في رفاهية لم يعهدوها في السابق. خصوصًا وأن التنظيم كان براغماتيًا في تعامله مع الثروة، فهو يتعامل مع النظام الذي يعدّه من ألد خصومه عن طريق رجل النظام المدعو القاطرجي ويبرر ذلك بأنه جائز لأنه في مصلحة الخلافة واستقرارها وبقائها.
وما ساهم في تحقيق هذا الرفاه لعموم الناس هو ما حققه تنظيم داعش من أمان، ففي ظل وجود صاحب نفوذ واحد يفرض هيمنته على الجميع ولا يقيم وزنًا لأي تراتب سابق اجتماعي أو عشائري، وفي ظل وجود قضاة وشرعيين يستطيعون تحصيل الحق لمن يقصدهم تحقق قدر كبير من الشعور بالأمان كما يؤكد من عاشوا في ظل الخلافة في شرق سورية.
ولكن انهيار الخلافة بعد تحالف ثمانين دولة بمساعدة قوات قسد جعل ذاك الأثر الاقتصادي يرتد دمارًا اقتصاديًا، فقد سحب عناصر التنظيم السيولة المادية التي حققوها من استخراج النفط والاتجار به وعادت الحدود إلى سابق عهدها، فاستحالت المنطقة قفرًا كما لم تكن بالأمس، وعاد الناس إلى سابق عهد الحاجة وضيق ذات اليد.
وقع الناس بين أنواع مختلفة للاستبداد أسدي وتنظيم داعشي وقسدي، وأصبحت المقارنات محصورة بين هذه الأصناف الثلاثة للاستبداد، وأصبح الحديث عن الحريات والحقوق ترفًا لا ظل له على الأرض.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها المورد المالي البالغ الأهمية بالنسبة إلى تنظيم داعش، وهو الآثار التي لم تكن في منجىً عن الاستغلال قبل سيطرة تنظيم داعش، ولكن التنظيم تابع مسيرة نهب هذه الثروة وبأسلوب الاستئثار بها كما فعل مع الثروة النفطية، ولم يعدم تبريرًا شرعيًا بعده هذه الآثار ركازًا أسس له التنظيم ديوانًا أسماه “ديوان الركاز” وبما أنه ركاز فهو من حق الدولة ولا قيمة كما ظهر للوسيلة فقد اشتغل على الحفر لاستخراج الآثار تجار آثار من خارج التنظيم مقابل حصص اتفق عليها بينهم وبين التنظيم.
تركة تنظيم داعش الثقيلة كما تبدو في مخيم الهول
ولعل مخيم الهول الذي جمع فيه عناصر تنظيم داعش مع من كانوا في مناطق التنظيم في آخر معاقله يصلح أنموذجًا مجسدًا لتركة تنظيم داعش الثقيلة، فعقب سقوط الباغوز في آذار عام 2019 جرى اعتقال من ألقي القبض عليه من عناصر تنظيم داعش وألقي بالرجال في السجون، أما النساء والأطفال دون سن العاشرة فقد أودعوا في مخيم الهول ومخيم روج. والهول منطقة واقعة شرق مدينة الحسكة على بعد 40 كيلو مترًا منها. قدّر عدد الذين يعيشون في مخيم الهول بحوالي 60 ألف شخص، بينهم نحو 40 ألف طفل من ستين جنسية. وبحسب البيانات الصادرة عن الإدارة الذاتية الكردية، فإنّ المخيم يضمّ حوالي 11 ألف رجل من عناصر تنظيم داعش، بينهم 2,000 من الأجانب، والبقية من السوريين والعراقيين.
تتوزّع عوائل العراقيين المنتسبين للتنظيم على القطاع الأول والثاني والثالث والسابع، بينما تتوزّع عوائل السوريين على القطاع الخامس والسادس والثامن، والقطاع الرابع فيه خليط من العائلات السورية والعراقية، وتجمع إدارة المخيم المهاجرات الأجانب وأطفالهن في قسم خاص. وهذا القسم الخاص يمثل مكان البناء العقائدي لأطفال تنظيم داعش بحسب أحد الصحفيين الذين زاروا المخيم.
يخضع المخيّم لحراسة أمنية من قبل قوات سورية الديموقراطية وقوى الأمن الداخلي (الأسايش) إضافة إلى الاستخبارات التابعة للإدارة الذاتية، ووفقاً للإجراءات الأمنية المتبعة، فيمنع خروج ودخول النساء المحليات من المخيم إلا بإذن خطّيٍ من إدارة المخيّم وبرفقة عناصر من (الأسايش)، فيما يمنع خروج الأجانب من المخيّم إلا في حالات الطوارئ أو بهدف تسليمهم إلى دولهم.
يمثل المخيم تجسيدًا لجحيم أرضي، ففي روايات لصحفيين زاروه لا يستغرب وجود سيدة تبحث عن إسعاف لطفلها الذي كسرت قدمه منذ أيام، وهي لا تجد ملبيًا لها، كما أن النوم في مكان جمع القمامة بسبب الاكتظاظ أمر مألوف، فالأصل أن المخيم يتسع لقرابة عشرة آلاف شخص بينما الحقيقة أن قاطنيه يتجاوزون ستة أضعاف هذه العدد.
كما أن استغاثة تلك السيدة التي لا تلقى صدىً ليست مستغربة بسبب كثرة قطاعات المخيم وتخصيص نقطة طبية واحدة لكل قطاع؛ أي بمعدل ست نقاط طبية فقط مع ثلاث عيادات متنقلة لا تقدم إلا الحد الأدنى من الخدمات الطبية. عام 2019 توفي 517 شخصًا داخل المخيم أغلبهم من الأطفال بسبب نقص التغذية، ولأسباب أخرى منها البرد، وعدم توافر وسائل التدفئة، وانتشار أمراض الملاريا والحصبة والسل واللشمانيا.
الأمر الذي يرى الباحث ضرورة تسليط الضوء عليه أيضًا هو احتواء هذا المخيم على عناصر من تنظيم داعش من النساء ومن أطفالهن الذين لم يعرفوا الدنيا إلا في ظل تنظيم داعش، وما يزيد الأمر خطورة أن أولئك النسوة ينتمين إلى جنسيات مختلفة أجنبية وعربية وسورية، وعلى الرغم من أن قوة انتمائهن إلى تنظيم داعش ليست متساوية، فبعضهن مؤدلجات بشكل حقيقي وبعضهن انتمين إلى التنظيم لأسباب مختلفة منها الخوف ومنها التزوج بأحد عناصر التنظيم، فإن جمع كل هذا العدد غير المتجانس في مكان واحد في ظل ظروف الحياة القاسية تلك يمكن أن يمثل قنبلة موقوتة لتخريج جيل متطرف. وما يجعل هذا الاحتمال راجحًا تشكيل بعض النسوة جهازًا للحسبة في المخيم مهمته:
نشر فكر التنظيم.
ومراقبة تطبيق الفرائض الدينية.
ويمارس هذا الجهاز سلوكًا عنيفًا مع من يرفضون تطبيق الفرائض الدينية تصل أحيانًا إلى القتل كما روت العديد من المصادر وقد تمكنت النسوة المضطلعات بمهام الحسبة من التواصل مع الخارج عبر استغلال فساد بعض عناصر الأسايش (جهاز قسد الأمني) وتمكنّ من الحصول على المال والسلاح.
تساهم بعض الدول في تفاقم خطر هذا المخيم ورجحان تحوله إلى خزان لجيل من المتطرفين بسبب رفض بعض الدول استعادة مواطنيها كما فعلت الدانمارك التي صرح بعض مسؤوليها باحتمال سحب جنسيات بعض مواطنيها المنتمين لتنظيم داعش.
كما يساهم في ترجيح هذا الاحتمال ضعف الخبرات في إعادة التأهيل النفسي للأطفال الذين لم يعرفوا العالم إلا مقسومًا إلى أهل حق يمثله أفراد التنظيم وأهل باطل يمثله كل مخالف لهم. وليس هذا الضعف مقتصرًا على الخبرات المحلية العاملة في مجال إعادة التأهيل، وإنما هو موجود في دول غربية لم يسبق للمختصين في هذا المجال أن تعاملوا مع حالات كهذه. ففي حالة طفلين لآباء فرنسيين كانوا في مخيم الهول استعادت فرنسا الأطفال ولم تستقبل والدتيهما، وكان الطفلان قد قتل أبواهما في معركة الباغوز فجرى ضم الطفلين إلى أطفال من عائلة داعشية فرنسية أخرى من دون الأخذ في الحسبان خطورة عدم عزل الطفل اليتيم عن أفراد تنظيم داعش وخطورة عزل الأطفال عن أمهاتهم.
وقد شرعت التجارب الأولية في إثبات ضرورة المحاولة؛ ففي حالة طفلة بلجيكية تدعى “مريم” تبلغ من العمر الآن اثنتي عشر عامًا من أب داعشي من جنسية بلجيكية استطاعت عمتها أن ترفع دعوى لكي تستعيدها وتشرف على إعادة تأهيلها، والعمة مسلمة ترتدي الحجاب. وقد أثبتت التجربة أن تعامل عمتها الحسن معها وتعريفها لها على عوالم جديدة قد غير شخصيتها بشكل ملموس، فقد كانت الثقة التي زرعت بينها وبين عمتها عاملًا في إضعاف أثر ما عانته من رعب القصف، ومن التنقل بين أربع عوائل. وقد أدركت أن ما شاهدته من زيّ، وما اعتادته من رؤية الرجال والنساء حاملي السلاح ليس أمرًا طبيعيًا.
نتائج
يمكن مما سبق القول إن أثر تنظيم داعش في المنطقة أثر متعدد المستويات متفاوت القوة، وهو صعب القياس؛ لأن تنظيم داعش لم يختف بعد انهيار دولته، وإنما غير أسلوب عمله، وصار يفضل تجنب السيطرة على المدن لكي يتجنب الاستهداف، كما أنه تحول إلى كيان أكثر خطورة من السابق بتحوله هذا لأن ضربه أدى إلى انتثاره، ولأن الكر والفر باستخدام الصحراء المترامية الأطراف قد أحاله إلى عدو يصعب تحديد مكانه بدقة. وما يؤكد تعاظم خطره أن أفرادًا من التنظيم لا يزالون يعيشون بين ظهراني الناس في بعض قرى المنطقة الشرقية، وهم يفرضون الأتاوات على أصحاب المهن مستغلين الخوف الذي زرعوه في قلوب الناس من عقابهم الذي طالما ذاق الناس علقمه إبان سيطرتهم.
ومن آثار تنظيم داعش المهمة عقد الناس مقارنات بينه إبان سيطرته وبين ما سبقها وما لحقها، ففي المقارنة يخلص البعض إلى تفضيله على سابقه ولاحقه؛ لأنه حقق الأمان وأزال الفروق بين الناس وتمكينه الكثيرين من أخذ حقوقهم عبر اللجوء إلى تنظيم داعش وقضائه الشرعي وعدم تدخله في شؤون الناس شديدة الخصوصية من قبيل تجنيد البنات كما تفعل قسد بينما يخلص آخرون إلى أن استبداد النظام كان أفضل لأن الخدمات في ظله -على سوئها- كانت ذات جودة أكبر.
يمكن القول -بدون خشية من المبالغة- إن أثر تنظيم داعش الفكري يكاد لا يذكر، فقد شوش شعارهم الأثير عن منهاج النبوة ما شهده الناس من انحرافاتهم في تطبيق الشرع، وما أفصح عنه سلوكهم من براغماتية متطرفة لا يمكن للحس البسيط أن يجد لها تبريرًا تحت أي مسمى.
ولكن الأثر على صعيد الشروخ التي حدثت بين أبناء القبائل لا يمكن إنكارها، وإن كانت تنظيم داعش ليس إلا حلقة من سلسلة في إحداث هذا الشرخ، كما أنه شرخ -على خطورته وظهور بعض نتائجه في بعض الأحداث- يمكن تضييق مساحته بحكمة بعض العقلاء كما وضحنا في مثال في البحث.
ثمة أثر بالغ الخطورة، هو الجيل الذي تعرف على الحياة في مخيم الهول ويعيش أفراده في كنف نسوة يقمن سدًا منيعًا بين فسطاط الحق الذي يعتقدن أنهن يمثلنه، وبين فسطاط الباطل الذي يمثله كل معاد لدولة الخلافة أو مخالف لها، وقد تبين من حالة مذكورة في البحث أن اهتمامًا جديًا لا بد أن يولى لهذه الظاهرة قبل أن تصبح السيطرة عليها أكثر صعوبة، وأن هذا الاهتمام مسؤولية لا ينبغي أن يتخفّف من عبئها أي قادر سواء أكان دولة أم منظمة إنسانية.
وقد تبين أيضًا من خلال البحث أن ما تسببت به حالات زواج أفراد مجهولي الهوية من عناصر تنظيم داعش من نساء من أبناء المنطقة قد خلفت أطفالًا لا يعرف لهم آباء بعد قتل أو اختفاء آبائهم، وهو أثر لا يعرف إلى الآن – حسب علمي- مدى انتشاره، ولكن وجود هذه الحالات يحرّض على التركيز على استقصاء هذه الحالات والشروع في وضع حلول لأصحابها.
أما ما أحدثه تنظيم داعش من شروخ بين أفراد من نفس العائلة، فلم يستطع الباحث أن يحدد مدى اتساعه، وكل ما تمكن منه هو الإشارة إلى وجوده بحسب شهادات معاصرين لفترة الحلافة في المنطقة، ولكن تنبؤًا بتضاؤله مع الزمن -إذا جرى تجفيف آثار التطرف وشرع في إعادة إعمار المنطقة ووضعها على سكة تنمية حقيقية- هو التنبؤ الذي يتبناه الباحث.
إن إشارة البحث إلى وجود حالات ظلمت بإخراجها من نسيج المجتمع لا ينبغي المبالغة فيه وتحويله إلى ظاهرة؛ لأن تطبيق الحدود المتعلقة بالجنايات كان محدودًا إذا استثنينا أحكام الردة، ولكن هذا لا يعني أنه ليس أثرًا بالغ القسوة مهما ضعفت نسبة المتعرضين له.
توصيات
إن ما ذكرناه من قابلية أي منظومة دينية على توليد التطرف لا يستلزم مطالبة المؤمنين بعقائد هذه المنظومة بالتخلي عن اعتقاداتهم، ولكن المطلوب الشروع في تأسيس مجال عام يكون فيه للمتدين حضوره مع غير المتدين، ويكون فيه للحوار الندي الديمقراطي بين المتدينين من مختلف الأديان من جهة، وبينهم وبين غير المتدينين من جهة أخرى الكلمة العليا في تحديد الغايات المشتركة وتحديد وسائل تحقيقها. إن انعدام المجال العام الديمقراطي الذي يتسع للجميع كمكونات في إطار تعددي سبب من أسباب هيمنة خطاب أحادي لا يقبل الترجمة إلى خطاب عام، وهو الخطاب العام الذي لا يفتقر إلى أساسه الديني بما يعنيه من احتفاظه بإمكانياته الحيوية القادمة من التقاليد الدينية، ولا يعجز في الوقت نفسه عن الوصول إلى الآخرين المختلفين كما يدعو هابرماس.
ما ذكره الباحث في المقدمة عن خلل في المنظومة المقاصدية التراثية كامن في حط الأخلاق إلى مرتبة لا تليق بها لم يكن منبت الصلة بموضوع البحث كما يمكن أن يظن للوهلة الأولى، فليس صحيحًا كفاية تفسير ظهور التطرف بمؤامرة حاكتها قوى ذات مصالح، كما أنه ليس كافيًا تفسير نفوق هذه السوق الظاهرية في التعامل مع الأحكام الشرعية بجهل منظريها بالمقاصد، ولا بغفلتهم عن ضرورة جدل الجزئيات في نسيج كلي ينظمها نظمًا يتوخى المصلحة.
أما ما يخص قصور فرضية المؤامرة، فقد أتينا على ذكره في متن البحث، وأما القصور في المنظومة المقاصدية، فقد أشرنا إشارة خاطفة إلى عوارها الأساسي القائم على دفع الأخلاق إلى أدنى السلم التفاضلي للمصالح. ويرى الباحث أن الفضاء الذي تسوده منظومة مقاصدية تعاني هذا الخلل جدير بتقبل فكر متطرف يضرب صفحًا عن الأخلاق ويستبدل بالنطاق المركزي الذي تمثله نطاقًا مركزيًا آخر هو الدولة.
وهو قصور في المنظومة يجعل الفروق بين تيارات الإسلام السياسي معتدلها ومتطرفها فروقًا لا تطال الجوهر -في رأي الباحث- فما دامت المصالح الحيوية واقعة في رأس سلم المصالح وما دامت المصالح الروحية واقعة في أدناها، وما يحمله هذا من قابلية حرف النطاق المركزي في الإسلام من الأخلاق إلى الدولة، فإن إمكان إفراز اللون المعتدل للتطرف تظل إمكانية قائمة.
مهما ضؤلت نسبة تأثير تنظيم داعش الفكري في المناطق التي هيمن عليها، فإن تأثيره هذا واقع لا يمكن نكرانه، وهو تأثير نجزم بأن من علله فوات هذه المنظومة المقاصدية التي ما لم يجر تجديدها تجديدًا يجعل الأخلاق مركزها، ولا يكتفى بلفت النظر إليها كإطار ناظم للأحكام الجزئية، فإن استخدامها استخدامًا أداتيًا من طرف ذوي المشاريع السياسية ممكن بتمحّل أدلة وصياغة مصالح نهائية عامة لا يلقي من يصوغها بالًا لوسائل تحقيقها.
إن التوصية الأولى بناء على ما سبق هي إعادة النظر في المنظومة المقاصدية وإدراك أنها لا تنفك عن الأخلاق وحجة ارتباطهما قاطعة، فإذا كانت علل الأحكام تستنبط وفق منهجية سببية، فإن المقاصد تستنبط بعلل غائية ولا يخفى ان الأخلاق هي مملكة الغايات.
لقد تنوعت أشكال التدين في الحالة التي حاول البحث مقاربة أثر تنظيم داعش فيها، ولكن التأخر الذي ذكرناه في بنية المنظومة والذي يعانيه النمط الصوفي والسلفي وما يسمى بالمعتدل هو قاسم مشترك بينها، وقد تداخلت كل هذه الأنماط مع سمة عشائرية تصبغ عموم المنطقة على تفاوت كمي لا نوعي بين منطقة وأخرى.
ولعل ما عرضناه من استقطاب بين النصرة وتنظيم داعش محمول في جزء مهم منه على استقطاب عشائري ما يصلح دليلًا على ما نقول، ولأجل هذا فإن تجاوزًا جدليًا للمنظومة الفكرية الفائتة بقطيعة معرفية لا تتنكر لما يمكن استثماره منها مع إغنائها بما يجعلها متضمنة لفكر مقاصدي مشتق من واقع المجتمع ومصالحه الراهنة ، وتجاوزًا جليًا للبنية العشائرية عبر تحويل حقيقي لنمط الاقتصادي الريعي إلى اقتصاد إنتاجي كفيل بتفتيق الوعي بالفردية والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نقول إن هذين التجاوزين الجدليين يقعان في رأس أولويات العمل المطلوب لبناء سدود تحول دون تسلل الفكر المتطرف ودون تمكين مسوخه من العبث بالمنطقة وأهلها، والتهديد بمسخ قيمهم بله سفك دمائهم.
تعاني منطقة شرق سورية من إهمال طالما عانته في عهود الاستبداد، وقد كان النظام الأسدي قد همّشها وحرم أبناءها من ثروات مناطقهم ودفع بالكثيرين منهم إلى الضرب في الأرض بحثًا عن مستقبل لم يكن ممكنًا بناؤه في بلدهم. وقد تحولت تلك المنطقة بعد اندلاع الثورة إلى مرتع خصب لكل طامع وامتدت الأيادي من جهات شتى للعبث بها، وكان تنظيم داعش حلقة في سلسلة طويلة، ولا زال بعد انهيار دولته ذا حضور في المنطقة.
ولكن قوة الأمر الواقع التي خلفت تنظيم داعش في قسم من المنطقة والنظام الذي استعاد سيطرته على قسم آخر مع التغلغل الإيراني الكبير بتجلياته المختلفة تساهم كلها في تعميق مشاكل أبناء المنطقة وتضعهم أمام بدائل لا تختلف عن بعضها إلا بتفاوتها في درجة السوء. وقد سبق أن ذكرنا في البحث أن المقارنات باتت تعقد بين تنظيم داعش وقسد والنظام؛ أي بين ثلاثة كيانات مستبدة وصار البحث قائمًا عن الأقل سوءًا.
إن التغلغل الشيعي يعمق ما يسمى بالأزمة السنية التي نوافق غيرنا في أنها سبب رئيس من أسباب ظهور تنظيم داعش، كما أن هيمنة قوات الأمر الواقع الكردية على منطقة قبلية تأنف من سيطرة غير العربي، خصوصًا وهو يحاول التدخل فيما يعد خطوطًا حمراء كشؤون النساء، كما يحاول فرض فكر غريب عن المزاج السائد قد يحرض على نتائج لا تحمد عقباها؛ إذ قد يذهب الناس بعيدًا في الانغلاق على بناهم الضيقة وقد يندفعون في تطرف مقابل.
كما أن عودة النظام فاقد السيادة والذي لم يبق منه إلا تماسك عصبي بدعم حلفائه لا يمثل إلا بديلًا من البدائل السيئة التي لا يمكن لها أن تؤسس لمستقبل ينتشل المنطقة وأبناءها من التطرفين الديني والقومي المتربصين بها.
تحتاج تلك المنطقة لكيلا تتحول إلى حاضن للتطرف إلى إرادة حقيقية من الفاعلين الحقيقيين، إرادة لمنح أبنائها حقوقهم الكاملة من سياسية واقتصادية واجتماعية، وإخراج كل قوة لا تنتمي إليها، والشروع في إعادة إعمار حقيقية تؤسس لمسيرة تنمية حقيقية تضع لبنات لاقتصاد إنتاجي كفيل بتخلّق فرد حر مستقل تنسج علاقته مع عشيرته مفاهيم مغايرة لمفاهيم الذوبان في تلك البنية بقصد الاستقواء أو الاحتماء من الأقوى.
كما أن ما خلّفه تنظيم داعش من آثار عرضنا لبعضها يمكن فرزها ومعالجة كلّ منها بشكل منفصل بعد نشر فكر معتدل، وهو فكر لا يعدم جذوره في تلك المنطقة، كما أنه قادر على محو أي أثر فكري لتنظيم داعش؛ لأن أثرًا فكريًا كبيرًا لتنظيم داعش ليس موجودًا أصلًا في رأي الباحث. ولكن هذا مشروط بوضع استراتيجية حقيقية للقضاء على خلايا تنظيم داعش، ونظن أن القوى الدولية والإقليمية قادرة على تحقيق جزء كبير من هذا الهدف إذا أرادت فعل ذلك.
إن الجيل الذي نبه البحث إلى خطورة تنشئته على فكر تنظيم داعش في مثال مخيم الهول مشكلة لا تتحمل رفاهية المعالجة المسترخية، وينبغي على الدول والهيئات أن تبدأ في معالجتها منذ اللحظة بتحطيم جدران هذا السجن الذي يسمى مخيمًا، واستعادة الدول لمواطنيها وتطوير برامج تعنى بتنشئة الجيل الجديد على مفاهيم إنسانية تنتشله من براثن الفكر المتطرف.
ومن المهم الإشارة إلى أن سبر أثر تنظيم داعش في المنطقة يحتاج إلى أبحاث ميدانية تضطلع بها مؤسسات؛ لأن التفاصيل من الكثرة والتعقيد بحيث يستحيل أن يحيط بها باحث فرد.
المراجع
أولًا- بالعربية
أبو رمان، محمد وآخرون، دولة ما بعد الخلافة، الأيديولوجيا، الدعاية، التنظيم والجهاد العالمي، هل سيعود تنظيم داعش من جديد؟ (عمان: فريدريش ايبرت، 2021).
أبو هنية حسن وأبو رمان ومحمد، تنظيم الدولة الإسلامية، الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية، (عمان: مؤسسة فريدريش ايبرت، 2015).
خليفة، نبيل، استهداف اهل السنة، من يتزعم العالم العربي- الإسلامي: السعودية أم إيران؟ المخطط الاستراتيجي للغرب وإسرائيل وإيران للسيطرة على الشرق الأوسط واقتلاع النفوذ السني منه، (لبنان: مركز بيبلوس للدراسات، 2014).
الشاطبي، أبو اسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2004).
الصفدي، صلاح الدين، الوافي بالوفيات، (فيسبادن: فرانز شتاينر، 1974).
عبد الرحمن، طه، في تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007).
علوش، مجمد، تنظيم داعش وأخواتها، (بيروت: رياض الريس للكتب وللنشر، 2015).
قطب، سيد، معالم في الطريق، ط11، (القاهرة: دار الشروق، 1987).
المجاهد، محمد سعيد، الأحوال الشخصية، المقارن بين مذهبي الحنفية والشافعية، (ماليزيا: كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية العالمية، 2016).
هابرماس، يورغن وآخرون، قوة الدين في المجال العام، فلاح رحيم (مترجمًا)، (بغداد: دار التنوير للطباعة والنشر، 2013).
ثانيًا- بالإنكليزية
Jennifer Cafarella with Brandon Wallace and Jason Zhou, ISIS’S SECOND COMEBACK, ASSESSING THE NEXT ISIS INSURGENCY, (Washington: Institute for the study of war, 2019).
Rudayna Al-Baalbaky, Ahmad Mhidi, TRIBES AND THE RULE OF THE “ISLAMIC STATE”: THE CASE OF THE SYRIAN CITY OF DEIR EZ-ZOR, (Beirut: Issam Fares Institute for Public Policy and International Affairs, 2018).
مواقع الانترنت
عرابي عبد الحي عرابي، مخيم الهول بين سوء الإدارة ومخاطر التطرف، موقع مصير، (2020) https://maseer.net/archives/19093
القبيلة والسياسة في سورية، تحولات البنية وتنوع الدور، قبائل دير الزور أنموذجًا، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، (2021)، https://2u.pw/yO439
“الصدر: مركز حرمون“